في سياق التحولات الجيوبوليتيكية المعقدة التي تشهدها تركيا، يبرز اعتقال أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول وزعيم المعارضة البارز، كحدثٍ مركزي يُعيد إنتاج إشكاليات الحكم في عهد أردوغان، ويُضيء على الديناميات المتشابكة بين السلطة السياسية، والقضاء، والشارع، ويُشكِّل هذا الحدث نموذجًا تطبيقيًا للسلطوية التنافسية (Competitive Authoritarianism) التي تسمح بوجود معارضة شكلية، لكنها تُحكم السيطرة على مفاصل الدولة عبر أدوات قضائية وأمنية لتصفية المنافسين، ووفقًا لمؤشرالديمقراطية الصادر عن وحدة الاستخبارات الاقتصادية (EIU) لعام 2023، تحتل تركيا المرتبة 149 من أصل 167 دولة، وهو ما يعكس تراجعًا مؤسسيًا مُزمِنًا في الحريات السياسية وحقوق الإنسان ..
ومن منظور نظرية "الاستبداد القانوني"Legal Repression))، تُظهِر قضية إمام أوغلو كيف تُوظَّف الاتهامات الجنائية (كالفساد و"الارتباط بالإرهاب") كأدوات لتفكيك المعارضة، خاصةً بعد فوزه التاريخي ببلدية إسطنبول في عامي 2019 و2023، الذي هزَّ شرعية حزب العدالة والتنمية الحاكم، وهنا يلتقي البُعد المحلي بالبعد الدولي: فالاتهامات الموجهة إليه بدعم حزب العمال الكردستاني (PKK) تأتي في توقيتٍ مُريبٍ، بعد أيامٍ من إعلان الجماعة نيتها إلقاء السلاح، ما يطرح تساؤلاتٍ عن جدوى توظيف "التهديد الأمني" كذريعة لقمع الخصوم ..
لا ينفصل هذا الصراع عن السياق الاقتصادي الهش؛ فانهيار الليرة التركية إلى أدنى مستوياتها بعد الاعتقالات يُجسِّد نظرية "التداعيات الاقتصادية للاضطراب السياسي" Political Risk Theory))، حيث تفقد الأسواق الثقة في بيئةٍ تُهيمن عليها المخاطر غير المحسوبة، كما تُعيد الاحتجاجات الواسعة التي تُعد الأكبر منذ سنوات، إنتاج سيناريو "العقد الاجتماعي المُنتهك" بين الدولة والمواطن، في ظل تضخم تجاوز 80% وتراجع الخدمات العامة. وعالميًا تُثير الأزمة تساؤلاتٍ عن مستقبل علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، في ضوء إدانة مجلس أوروبا للاعتقالات ووصفها بأنها "محاولة لخنق التعددية"، وهذا التحليل يستكشف كيف يُعيد حدثٌ واحدٌ تفكيكَ التوازنات الداخلية والخارجية لتركيا، ويُقدِّم نموذجًا لصراع السلطة في عصر تتصاعد فيه هجمة الأنظمة الهجينة على الديمقراطية.
1.السياق السياسي الداخلي
• صراع السلطة بين أردوغان والمعارضة:
يأتي اعتقال أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول من حزب الشعب الجمهوري (CHP)، في إطار تصاعد المواجهة بين حكومة أردوغان والمعارضة العلمانية، حيث يُعتبر إمام أوغلو أحد أبرز المنافسين المحتملين لأردوغان في الانتخابات الرئاسية المُقررة عام 2028، خاصة بعد فوزه التاريخي ببلدية إسطنبول مرتين (2019 و2023)، وهو ما يُعد ضربةً رمزيةً لقاعدة أردوغان، الذي بدأ مسيرته السياسية كعمدة للمدينة، ويُشكِّل هذا الاعتقال جزءًا من استراتيجية منهجية لتقويض نفوذ المعارضة، عبر اتهامات قضائية تُستخدم كأدوات سياسية، وفقًا لتقارير دولية ..
• الاتهامات القضائية كسلاح سياسي:
تتهم السلطات التركية إمام أوغلو بالفساد و"قيادة منظمة إجرامية" ومساعدة حزب العمال الكردستاني (PKK)، وهي تُهم تُثير شكوكًا حول دوافعها السياسية، خاصةً مع توقيت الاعتقال قبيل اختياره مرشحًا رئاسيًا، كما أن إلغاء جامعة إسطنبول شهادته الجامعية - شرط دستوري للترشح - يُظهر محاولةً ممنهجةً لإقصائه من السباق الانتخابي، هذه الخطوات تُذكِّر بحملات سابقة ضد شخصيات معارضة، مثل زعيم حزب الشعوب الديمقراطي (HDP) صلاح الدين دميرتاش ..
2.الاحتجاجات والوضع الاجتماعي
• تظاهرات غير مسبوقة: اندلعت احتجاجات في إسطنبول ومدن أخرى، وهي الأكبر منذ سنوات، مع هتافات مثل "أردوغان ديكتاتور"، مما يعكس استياءً شعبيًا متزايدًا من سياسات القمع وتردي الأوضاع الاقتصادية .
• قمع الشرطة وتقييد الحريات:
استخدمت الشرطة رذاذ الفلفل لتفريق المتظاهرين، وأغلقت السلطات أجزاءً من المدينة وقيَّدت الوصول إلى منصات التواصل الاجتماعي، مثل إكس ويوتيوب وتيك توك، في محاولة للسيطرة على السردية وقمع التعبير عن الرأي ..
3.التداعيات الاقتصادية
• انهيار الليرة التركية: وصلت الليرة إلى أدنى مستوى لها مقابل الدولار، بسبب مخاوف المستثمرين من عدم الاستقرار السياسي، مما يزيد الضغط على اقتصاد يعاني بالفعل من تضخم كان قد تجاوز 80% في 2023.
• التبعات الدولية: قد تؤثر هذه الأزمة على استثمارات الخليج (مثل قطر والإمارات) التي تعتمد عليها تركيا، وتُعقِّد مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي ..
4.السياسة الخارجية وردود الفعل الدولية
• انتقادات أوروبية حادة:
أدان الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا الاعتقالات، ووصفها مجلس أوروبا بأنها "ضغط على مرشح رئاسي محتمل"، وقد تزيد هذه التوترات من عزلة تركيا دوليًا، خاصة مع استمرار خلافاتها مع حلفاء الناتو حول ملفات مثل صفقات إس- ٤٠٠ الروسية والنزاع مع اليونان.
• الملف الكردي: اتهام إمام أوغلو بدعم حزب العمال الكردستاني (PKK) يأتي في وقتٍ أعلنت فيه الجماعة نيتها إلقاء السلاح، مما يطرح تساؤلات عن جدوى استخدام هذا الملف كذريع لقمع المعارضة .
5. سيناريوهات مستقبلية
• تصعيد الاحتجاجات:
قد تتحول التظاهرات إلى حركة شعبية واسعة إذا استمر القمع، خاصة مع دعم قادة المعارضة وحثهم المواطنين على "رفع الأصوات".
• تعديلات دستورية:
قد يسعى أردوغان إلى تغيير الدستور للترشح لفترة ثالثة، أو الدعوة لانتخابات مبكرة لتعزيز شرعيته.
• التأثير على انتخابات 2028:
إذا نجحت الحكومة في إقصاء إمام أوغلو، قد تفقد المعارضة زخمها، لكنها قد تحشد دعمًا دوليًا وشعبيًا أكبر ضد "الاستبداد".
الخلاصة:
اعتقال إمام أوغلو ليس حدثًا معزولًا، بل جزءٌ من مسار طويل لترسيخ هيمنة حزب العدالة والتنمية (AKP) عبر أدوات قضائية وأمنية، وقد يكون نقطة مفصلية تعكس تراكم أزمات الحكم والاقتصاد والعلاقات الخارجية لتركيا، حيث يُنظر إلى هذا الحدث كجزء من مسار طويل من الصراع بين نموذج أردوغان "الرئاسي السلطوي" ومحاولات التحول نحو التعددية، ومع ذلك فإن الاحتجاجات الحالية تُظهر تحديات غير مسبوقة تواجهها حكومة أردوغان، وسط أزمات اقتصادية واجتماعية وتدهور في الصورة الدولية، وقد تكون تركيا عند مفترق طرق؛ إما التمهيد لعهد جديد من التعددية السياسية، أو الانزلاق نحو مزيد من السلطوية .
--------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش