01 - 05 - 2025

اعتذار الدولة ومسؤولية الاعتذار!

اعتذار الدولة ومسؤولية الاعتذار!

عندما يرتكب أحد أجهزة الدولة خطأ ، فمن المهم أن تبادر سلطتها بالإعتذار .. لأن الاعتراف بالذنب فضيلة، لا شك في ذلك .. والإعتذار عن الخطأ شجاعة، لا جدال في ذلك .. وفي أحيان كثيرة يمسح الإعتذار آلام الضحية بل ورغبتها في الإنتقام ، وذلك أمر جيد من أجل تحقيق سلام المجتمعات .. ومن المؤكد أنه لا يوجد شخص معصوم من الخطأ ، وأن أفضل المخطئين هم أولئك التائبون عن خطئهم ، ولكن يجب أن تكون التوبة نصوحاً حتي تكون مقبولة ..

والتوبة النصوح في أبسط تعريف لها هي تلك التوبة التي تقر بالخطأ مع نية عدم تكراره ، وبالتالي فإن التوبة عن خطأ متكرر ومتعمد لا يمكن وصفها بذلك الوصف ، وإنما يمكن إعتبارها نوعاً من "الضحك علي الذقون"، بل تكون التوبة في هذه الحالة خطأ أبشع من الخطأ الأصلي لأنها تتضمن خداع الضحية بالإعتذار عن الخطأ مع ثبات النية علي تكراره .

ومن المفترض ألا يضطر الإنسان الراقي المتحضر إلي الإعتذار ، علي أساس أنه يراعي دائماً في أقواله وأفعاله أرقي معايير السلوك ، وهو يحرص علي ذلك ليس لمجرد تفادي الإساءة إلي الآخرين، وإنما – وهو الأهم – عدم الإساءة إلي نفسه ، ولا يمكن أن نتصور إنساناً يتصف بالتحضر والرقي يضطر كل حين إلي الوقوف موقف المعتذر ، لأن ذلك وحده ينفي عنه صفة التحضر والرقي ، بل ويكشف أن هذه الصفة مجرد ستار تختفي خلفه حقيقته الوحشية ، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أن إحتمال الخطأ والسهو غير وارد، ولكن ذلك يجب أن يكون الإستثناء وليس القاعدة .

والدول – كالأفراد – تصيب وتخطئ ، ويمكن أن تتوب وتعتذر ، إلا أن خطأ الدول الكبري يتماثل مع حجمها ، فالخطأ نفسه حين ترتكبه دولة صغري يكون أقل وقعاً وتأثيراً عما إذا ارتكبته دولة كبري، ورغم أن القانون الدولي لا يفرق بين الدول بناء علي حجمها أو قوتها بشكل نظري ، إلا أنه من المؤكد أن روح هذا القانون وبعض نصوصه تضع مسؤوليات أكبر علي عاتق الدول الكبري، ولننظر مثلاً إلي ميثاق الأمم المتحدة الذي يعطي للدول الخمس الكبري صلاحيات أوسع في مجلس الأمن عن غيرها من الدول ، وبطبيعة الحال ينبغي قانونياً وأخلاقياً أن ترتبط بهذه الصلاحيات المميزة مسؤوليات أكبر علي تلك الدول، فهذه الصلاحيات لا يمكن أن تعني أنها فوق القانون ، بل يجب أن تكون أشد الدول والأعلي مستوي من الإلتزام القانوني والأخلاقي .

ولإعطاء أمثلة علي ما تقدم ، فأنه بالنظر مثلاً إلي الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر إستخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية ، فمن الممكن القول بأن دولة صغيرة تقوم بإنتهاك هذا الإلتزام قد يقبل منها الإعتذار والتوبة مع بعض العقوبات الدولية المناسبة ، ولكن لو اقترفت دولة كبيرة هذا الإنتهاك فإن ذلك خطأ كبير، لأنه يهدد النظام الدولي كله، وذلك لعدة أسباب منها مثلاً أن الدولة الكبيرة يتوقع منها أن تكون مثالاً يحتذي في احترام القانون وأعلي حد من مستويات السلوك الدولي ، وهي إذا تصرفت بعكس ذلك إنما تقدم مثالاً سيئاً يؤدي انتشاره إلي انهيار القيم والنظم التي يقوم عليها المجتمع الدولي ، ومن ناحية أخري فإن صلاحياتها في مجلس الأمن سوف تحول دون توقيع العقوبة المناسبة عليها ، كما أن قوتها الذاتية ستحول دون تصحيح أخطائها بواسطة أطراف المجتمع الدولي الآخرين ، وهكذا يفقد القانون والنظام هيبته ، ويتحول المجتمع الدولي إلي غابة معيارها الوحيد هو القوة، وتلك هي البيئة المناسبة لترعرع العنف وإنتشار الجريمة .

ولعلنا لا نزال نتذكر الصور التي نشرت لتعذيب العراقيين في سجن أبو غريب علي أيدي جنود أمريكيين ، إن تلك الصور التي نشرت حول وسائل التعذيب المستخدمة ضد الأسري العراقيين تكشف إلي أي مدي من الممكن أن تصل درجة الإنحطاط الإنساني ، وكان من اللافت للنظر صورة هذه المجندة الأمريكية وقد ارتسمت علي وجهها كل علامات السعادة والغبطة وهي تمارس أحط أنواع التعذيب ، إنها صورة مقززة لا يمكن احتمالها ، ولا أتصور أن أي إنسان طبيعي يمكنه أن يتصرف علي هذا النحو ناهيك عن شعوره بالسعادة لهذا التصرف ، وتكون المصيبة أشد حين يكون هذا الإنسان امرأة يفترض فيها أنها كائن رقيق المشاعر عذب الأحاسيس .

ولقد اعتذر بعض مسؤولي الحكومة الأمريكية وعلي رأسهم الرئيس بوش (وإن كان بعد تلكؤ) ، ولكن لم يعتذر وزير الدفاع المسؤول عن هؤلاء الجنود المتهمين ، وقد كان أمراً طيباً أن تسارع أمريكا بالإعتذار ، رغم أنه حتي بعض المعلقين في أمريكا أعتبروا أن هذا الإعتذار كان متأخراً جداً وقليلاً جداً (Too little , Too late) ، إلا أن شجاعة الإعتذار عن الخطأ يجب أن تحسب للمخطئ كما أسلفنا ، والسؤال هنا هل يكفي مجرد الإعتذار ؟؟ ..

الاعتذار يعني اعترافاً بخطأ ، والخطأ يعني وقوع ضرر ، والضرر له شقان : شق معنوي وشق مادي ، وقد يعالج الاعتذار جزءاً من الشق المعنوي ، ولكن ماذا عن شقه المادي؟ ، إن الجنود الذين ارتكبوا هذه الحماقات يجب توقيع أقصي العقوبات عليهم ، إلا أن ذلك وحده لا يعد في التطبيق القانوني الصحيح تحقيقاً للعدالة ، لأن هؤلاء الجنود مجرد تابعين لقادة ومسؤولية القادة أشد من مسؤولية الجنود ، ومن ناحية أخري فإن هؤلاء القادة يتبعون وزارة لها وزير تتركز في يده المسؤوليات كلها ، ولا شك أن جريمة بهذا الحجم تستدعي ليس فقط محاسبة الجنود وإنما – وهو الأهم – محاسبة كل من هم في تسلسل القيادة إلي أعلي مستوياتها، وكذلك يتطلب استيفاء الشق المادي تعويضاً مادياً لضحايا هذه الجرائم يتناسب بدوره مع حجمها ، علماً بأن جرائم التعذيب وفقاً للقانون الدولي الجنائي لا تسقط بالتقادم .
-----------------------------------
بقلم: السفير/ معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

محاكمة قناة السويس في بريطانيا!