30 - 04 - 2025

ورحلَ الحويني .. فارسُ السنة !

ورحلَ الحويني .. فارسُ السنة !

رحم الله من قال:

لعمرك ما الرزيةُ فقد مال/ ولا شاة تموت ولا بعير

ولكن الرزية فقد شهم/ يموت بموته خلقٌ كثير

وأيا كان قائل البيتين، فلله دره، إذ إنه يؤكد أنّ أعظم مصيبة تصيب الناس، ليست فقدَ المال أو الممتلكات، فهي أشياء يسهل تعويضها، أما ما لا يُستطاع تعويضه، فهو موت العلماء الأثبات، فبموتهم يموتُ كثيرٌ من الخلق.

نزلَ خبرُ وفاة شيخنا، وتاج رؤوسنا، محدث العصر أبي إسحاق الحويني عليّ كصاعقة، ألجمت لساني، وجعلتني أسير على غير هدى، إذ زفّ إلي ابني الخبر أثناء مغادرتي البيت لأداء صلاة عشاء وتروايح السابع عشر من رمضان .

قاومتُ دموع عيني؛ منعا لإثارة فضول الناس في الشارع، وأسرعتُ الخطي لأحتمي بجدران المسجد، وأتعزّى بآيات الذكر الحكيم، التي نزلت على قلبي بردا وسلاما، فأحالت جزعي صبرا، واضطراب قلبي سكينة وهدوءا.

ساعد على ثباتي بجانب القرآن، تذكري قول القائل:

وإذا أتتك مصيبةٌ تشقى بها / فاذكر مصابك في النّبي محمد

والمعنى أنّ كلّ خطب بعد فقد النّبي يهون، وكلّ مصاب بعده يصغر .

نعم رحل ناصر السنة في العصر الحديث بلا منازع، لكنها سنةُ الله في كونه، ولا نملك إلا أن نقول ما يرضي ربنا: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيرا منها .

وبرغم كلّ كلمات المواساة، إلا أنّ الخطب جليل، فما موت أبي إسحاق الحويني، موتُ امرئ، ولكنه بنيان قوم تهدم .

تفتحت عيني عليه منذ نعومة أظفاري، فألفيتُ رجلا من زمن الأولين، حديثه يأسر القلوب والأبدان، يتكلم في دقيق العلم، فتفهمه العامة، ولا تمل من سماعه الخاصة، بفضل ما أوتي من قدرة خارقة على البيان والشرح، استطاع بهما أن يصل إلى المعنى من أقصر طريق دون عنت ولا تكلف .

كانت حلقاته - رحمه الله - على قنوات الحكمة والناس والندى، نافذة العامة للاطلاع على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة الصحيح من الضعيف، ومعرفة أخبار الرجال رواةِ الأحاديث .

أجزم بأنه بأسلوبه الآسر، وشرحه الممتع، مدّ جسور التلاقي بين العامة وسنة النّبي، إذ سخّر الرجل كل طاقاته ووقته وجهده للذود عن حياض السنة، واستخراج كنوزها، التي كانت مجهولة قبله .

نعم هو حلقة من حلقات السلسلة الموصلة للرسول، لكنه أوتي من الحكمة والقدرة علي البيان، والإخلاص، ما جعله أهم حلقات تلك السلسلة .

جاءته الدنيا مهرولة، فانصرف عنها إيمانا بأنّ ما عند ربه خيرٌ وأبقى، وأنّ الآخرة خير من الأولى .

أتيحت له فرصة العمل معيدا بكلية الألسن، فنفض يديه من غرور الدنيا الزائف، وتاقت نفسه ليكون خادما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحقق له ما أراد .

وصل الرجلُ الليل بالنهار، يُنقب في كتب السنة، ويستخرج منها لآلئ وأصدافا، فأخرج للمكتبة العديد من الكتب النافعة منها: خطب أبي إسحاق الحويني، وصحيح القصص النبوي، والانشراح في آداب النكاح، والنافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة، وبذل الإحسان بتقريب سنن النسائي، وغيرها الكثير، كما أثرى المكتبة السمعية بمئات الخطب، التي ألقاها بالعديد من مساجد جمهورية مصر العربية، والتي كان يحرص على حضورها عشراتُ الآلاف من المصلين، كما شارك في العديد من المحاضرات والمؤتمرات، وقدّم العديد من البرامج عبر القنوات الفضائية .

لم يصرفه مرضه عن الجد في الطلب، بل زاد من حرصه على التحصيل والدرس؛ رغبة في أن يُقدم الكثير في الوقت القليل .

أخلص الشيخ الحويني للعلم، وبذل من أجله الغالي والنفيس، فأمّره علماء السلفية، رغم وجود من هو أكبر منه سنا، إلا أنّ الإمارة ليست بالسن، ولكنها موهبة يختص الله بها من يشاء، ونحسب أنّ الحويني رحمه الله كان أهلا لها عن استحقاق وجدارة .

تلقى رحمه الله على يد محدث العصر الشيخ الألباني، ونال ثناءه، وإشادته برجاحة عقله، وحسن فهمه .

بموت الحويني الذي بكته عيونُ شيوخ السلفية مثل الشيخ العدوي، ومحمد حسان، وحسين يعقوب، وأبي بكر الحنبلي، ووحيد بالي، وعادل العزازي، وسمير مصطفى، وغيرهم الكثير حدثت بحائط الدعوة ثلمة، لن تسد إلى قيام الساعة فصبرا لنا ربنا وسلوانا .

عرف العالمُ على بكرة أبيه قيمة الرجل، فأجلّه الكلُّ، حتى من خالفه في بعض المسائل، ونعاه الأزهر، مؤكدا أنّ سنة النّبي فقدت رجلا من خير رجالها .

رحم الله الشيخ المسدد الحويني، وأنعم عليه بسحائب الرحمة والمغفرة والرضوان، وكان الله جاري، حيث تُبكيني طلتُه على قناة الندى الفضائية، وهو  يُردد قولَ البارودي: كل حي سيموت/ ليس في الدنيا ثبوت .
----------------------
بقلم: 
صبري الموجي 
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

ثورة العميد!