د. كمال يوسف : محمد منير النموذج الأوضح للتداخل الموسيقي بين البلدين حيث دمج الإيقاع النوبي والسوداني بالموسيقى الحديثة
- الندوة أقيمت بحزب المحافظين بالتعاون مع مبادرة "النهوض بقوة مصر الناعمة" وأدارها الكاتب الصحفي أشرف راضي
تحت شعار تعزيز القوة الناعمة والتواصل الثقافي بين الشعوب، استضاف حزب المحافظين بالتعاون مع مبادرة "النهوض بقوة مصر الناعمة" ندوة ثقافية موسيقية بعنوان "التواصل الموسيقي بين مصر والسودان". أقيمت الندوة في مقر الحزب بالقاهرة، بحضور نخبة من الفنانين والموسيقيين والباحثين من البلدين.
خلال الندوة تحدث الكاتب الصحفي أشرف راضي، مؤسس المبادرة، حيث سلط الضوء على العلاقات التاريخية العميقة بين البلدين، وأثر الموسيقى في تقوية الروابط الثقافية والاجتماعية، مع استعراض نماذج حية من هذا التأثير المتبادل عبر الأجيال.
الموسيقى كجسر ثقافي بين مصر والسودان
في بداية الندوة أكد راضي مدير الندوة أن "التواصل بين مصر والسودان لم يكن يومًا محصورًا في الجغرافيا أو السياسة، بل امتد ليشمل الفنون والموسيقى التي ظلت الوسيلة الأكثر تأثيرًا في وجدان الشعبين".
وأوضح راضي أن الأغنية المصرية وجدت صدى واسعًا في السودان منذ عشرينيات القرن الماضي، حيث كان للإذاعة المصرية دور بارز في نشر الأغنية المصرية، مما جعل العديد من الفنانين السودانيين يتأثرون بها ويعيدون تقديمها بروح سودانية.
في المقابل، احتضنت مصر العديد من الفنانين السودانيين الذين برزوا في القاهرة وأصبحوا جزءًا من المشهد الفني المصري. ورمزًا للدمج الثقافي بين البلدين، مؤكدا على أهمية الثقافة كقوة تتغلب على قوة الجيوش.
مظاهر التواصل الموسيقي بين مصر والسودان
أوضح الدكتور كمال يوسف أن "العلاقة الموسيقية بين مصر والسودان ليست وليدة اللحظة، بل هي حصيلة عقود طويلة من التأثير المتبادل الذي ترك بصمته على كل من الأغنية المصرية والسودانية". وأشار إلى أن القاهرة كانت مركزًا للإنتاج الموسيقي منذ بداية القرن العشرين، مما جعلها وجهة رئيسية للفنانين السودانيين الذين سعوا إلى تسجيل أغانيهم ونشرها على نطاق أوسع.
وأضاف كمال مستعينا بالكثير من النماذج الموسيقية الدالة : كانت مصر على مدار عقود المنصة الأهم للفنانين السودانيين، حيث شهدت تسجيل أولى الأسطوانات الغنائية السودانية، إذ لم تكن هناك أستوديوهات تسجيل متطورة في السودان في ذلك الوقت. ومن خلال القاهرة، وجد الفنانون السودانيون طريقهم إلى الجمهور العربي والعالمي.
وأشار إلى أن "التعاون لم يقتصر على تسجيل الأغاني، بل امتد إلى تبادل الخبرات الموسيقية، حيث أرسلت مصر عددًا من المعلمين ومنهم معلمي الموسيقى إلى السودان للمساهمة في تطوير التعليم الموسيقي هناك، وهو ما ترك أثرًا واضحًا على أجيال من الفنانين السودانيين".
وأكد أن "السودانيين لم يكونوا فقط متلقين، بل أرسل السودان أيضًا مئات الطلاب للدراسة في معاهد الموسيقى المصرية، مثل كونسرفتوار القاهرة، حيث درسوا أصول الموسيقى العربية واستفادوا من التقاليد الموسيقية المصرية كما حدث مزج بين اللونين في أحيان كثر".
وأضاف: "التبادل الموسيقي لم يكن مقتصرًا على الأكاديميين، بل شمل أيضًا التعاون بين الفرق الموسيقية، حيث عزفت الفرق المصرية في الخرطوم، وعزفت الفرق السودانية في القاهرة، مما أدى إلى تطور المشهد الفني في البلدين وخلق أنماط موسيقية جديدة تستند إلى هذا المزيج الفريد من العناصر الموسيقية المختلفة".
وأشار إلى أن "من أبرز المشاريع المشتركة التي ساهمت في تعميق هذا التواصل الموسيقي، هو التعاون بين أوركسترا الإذاعة السودانية ونظيرتها المصرية، حيث تم تبادل العازفين وإقامة حفلات موسيقية مشتركة، مما أثرى التجربة الموسيقية لدى الجانبين".
التأثير المتبادل بين الموسيقى المصرية والسودانية
تحدث الدكتور كمال يوسف أيضا عن التأثيرات العكسية للموسيقى السودانية في مصر، قائلًا: "لم يكن التأثير في اتجاه واحد، بل تأثرت الموسيقى المصرية أيضًا بالموسيقى السودانية، سواء من خلال استخدام الآلات الموسيقية مثل الطمبور، أو استلهام الإيقاعات السودانية والنوبية في الأغاني المصرية".
وأضاف: "الفنان محمد عبد الوهاب كان من أوائل من أدخل الإيقاعات السودانية إلى الموسيقى المصرية، حيث استخدم بعض الأنماط الإيقاعية المستوحاة من السودان في ألحانه. كما اعتمد عبد الحليم حافظ على بعض الأنماط الغنائية القريبة من النمط السوداني في بعض أعماله".
وأشار إلى أن "محمد منير هو النموذج الأوضح لهذا التداخل الموسيقي، حيث نجح في دمج الإيقاع النوبي والسوداني بالموسيقى الحديثة، مما جعله جسرًا فنيًا بين البلدين".
وأضاف أن "الأغنية السودانية الحديثة تأثرت بالتوزيع الموسيقي المصري، حيث أصبحت تستخدم أساليب الأوركسترا الشرقية التي لم تكن شائعة في الموسيقى السودانية التقليدية".
دور الإعلام في انتشار الموسيقى بين البلدين
أوضح دكتور كمال أن "الإعلام المصري لعب دورًا رئيسيًا في انتشار الموسيقى السودانية داخل مصر، حيث كانت الإذاعة المصرية تبث الأغاني السودانية منذ الأربعينيات، ما ساهم في تعريف الجمهور المصري بها". وأشار إلى أن التعاون الإعلامي بين البلدين لم يقتصر على البث الإذاعي والتلفزيوني فقط، بل امتد ليشمل الإنتاج الفني والسينمائي، حيث شهدت السينما المصرية مشاركة العديد من الفنانين السودانيين.
وأضاف أن "التلفزيون السوداني كان نافذة أساسية لنشر الموسيقى المصرية داخل السودان، مما جعل الأغاني المصرية مألوفة لدى الجمهور السوداني، وأسهم في خلق نوع من التلاقح الفني الذي استمر لعقود طويلة".
وبالنهاية أكد الدكتور كمال يوسف أن "التعاون الثقافي ليس مجرد شعار، بل يجب أن يتحول إلى مشاريع ملموسة، مثل ورش عمل موسيقية تجمع بين الفنانين المصريين والسودانيين"، مشيرًا إلى أن "البرامج التليفزيونية والإذاعية يمكن أن تكون وسيلة فعالة لنشر هذا التراث المشترك على نطاق أوسع".
شهدت الندوة مشاركة فرقة موسيقية تابعة لمبادرة "النهوض بقوة مصر الناعمة"، حيث قدمت الفرقة مقطوعات موسيقية وأغانٍ تعكس التفاعل بين الثقافتين المصرية والسودانية. تضمنت الفقرة أغنيات سودانية شهيرة تم تقديمها بتوزيع موسيقي مستوحى من الطابع المصري، بالإضافة إلى أغانٍ مصرية تمت إعادة أدائها بإيقاعات سودانية.
اختتمت الندوة بتأكيد الحضور على أن "الموسيقى كانت ولا تزال واحدة من أقوى أدوات التقريب بين مصر والسودان"، مشيرين إلى أن "الحفاظ على هذا الإرث المشترك يتطلب دعمًا مستمرًا من المؤسسات الثقافية والإعلامية في البلدين". كما أُجمع على أن "توثيق هذا التراث الموسيقي والترويج له يمكن أن يسهم في تعزيز مكانة الفن كأحد أهم أدوات التقارب والتعاون بين الشعبين الشقيقين".
وأكد الدكتور كمال يوسف في كلمته الختامية أن "الاهتمام بالموسيقى السودانية في مصر والعكس، يعزز من فرص التقارب الشعبي، ويدعم فكرة أن الفن يظل الجسر الأكثر استدامة في العلاقات بين الشعوب"، مضيفًا أن "المستقبل يحمل آفاقًا واسعة للتعاون الموسيقي بين البلدين، وعلى المؤسسات الفنية أن تلعب دورها في دعم هذا التواصل المستمر".
خلفية
جدير باالذكر أن العلاقات المصرية السودانية تمتد عبر آلاف السنين، حيث يجمع البلدين نهر النيل، الروابط الثقافية، والتاريخ المشترك الذي تعزز من خلال التفاعل الاجتماعي والاقتصادي. منذ العصور القديمة، كانت هناك علاقات وطيدة بين الحضارات المصرية والنوبية، والتي أثرت بشكل واضح على الفن والموسيقى في البلدين. مع مرور الزمن، استمرت هذه العلاقة في التطور من خلال التبادل التجاري والثقافي.
في العصر الحديث، عززت اتفاقيات التعاون الاقتصادي والثقافي بين مصر والسودان هذه العلاقة، حيث كانت القاهرة دائمًا الملاذ الأول للطلاب السودانيين الذين يسعون لمتابعة تعليمهم العالي، خاصة في المجالات الفنية والموسيقية. كما لعبت المؤسسات الثقافية في كلا البلدين دورًا محوريًا في تعزيز هذا التواصل من خلال الفعاليات المشتركة.
كما تتمتع الجالية السودانية في مصر بحضور بارز، خاصة في المدن الكبرى مثل القاهرة والإسكندرية. يمتد هذا الحضور إلى مجالات متعددة، من بينها التعليم، الفنون، والأعمال التجارية. كان للمهاجرين السودانيين تأثير كبير في نشر الثقافة السودانية في مصر، لا سيما من خلال الموسيقى والفنون التشكيلية.
أسهم الفنانون السودانيون الذين استقروا في مصر في إغناء المشهد الثقافي المصري، حيث أصبح بعضهم جزءًا لا يتجزأ من صناعة الموسيقى والسينما المصرية. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت بعض الأحياء المصرية، مثل حي "عابدين" في القاهرة، مركزًا للتجمعات السودانية، حيث تزدهر الأنشطة الثقافية والموسيقية التي تعكس الهوية السودانية.