تشهد الاقتصادات العالمية تحولات جذرية في ظل تصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي اندلعت مع فرض الإتحاد الأوروبي رسومًا جمركية انتقامية ردًا على سياسات أمريكية مشابهة، وتُطرح هنا تساؤلات حول إمكانية استفادة دول ثالثة مثل مصر من هذه الأزمة، وكيفية تحويل التحديات إلى فرص تنموية، فتحليل الفرص المتاحة لمصر يتطلب فهم طبيعة الحرب التجارية وآليات تأثيرها على سلاسل الإمداد العالمية، إلى جانب تحديد القطاعات الواعدة التي يمكن لمصر تعزيز مكانتها فيها.
الحرب التجارية في سطور... لماذا تعتبر مصر الأكثر استفادة؟
اندلعت الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بعد فرض الأخيرة رسومًا جمركية بنسبة 25% على وارداتها الأمريكية من الصلب والألومنيوم، كرد فعل على سياسات ترامب التقييدية، ولكن هذه المواجهة لم تعد مجرد نزاع ثنائي، بل تحولت إلى زلزال يهز سلاسل الإمداد العالمية، ويجبر الشركات على البحث عن بدائل خارج النطاق الجغرافي للطرفين، وهنا تظهر مصر كميناء آمن للأسباب التالية:
- الموقع الجيو-استراتيجي: تقع مصر عند مفترق طرق ثلاث قارات، مما يجعلها بوابة طبيعية للتجارة بين أوروبا وآسيا وأفريقيا.
- اتفاقيات التجارة الحرة: تمتلك مصر شبكة من الاتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي (إعفاء جمركي لـ 70% من الصادرات)، ومنطقة الكوميسا الأفريقية، ومنطقة التجارة الحرة في القارة الأفريقية((AfCFTA، مما يسمح لها بالتصدير دون حواجز إلى أسواق تبلغ مليار مستهلك.
- اليد العاملة التنافسية: تكلفة العمالة في مصر أقل بنسبة 40% مقارنة بتركيا، و60% مقارنة بالصين، وفقًا لبيانات البنك الدولي 2023.
ثانيًا: أوجه الاستفادة... من النظرية إلى التطبيق
- تحول مصر إلى "منصة تصنيع عالمية" بديلة:
مع ارتفاع تكاليف الإنتاج في أوروبا والولايات المتحدة بسبب الرسوم، تتسارع الشركات متعددة الجنسيات لإعادة هيكلة سلاسل التوريد، ومصر قادرة على جذب هذه الشركات عبر الآتي:
- المناطق الاقتصادية الخاصة: مثل منطقة قناة السويس، التي توفر بنية تحتية صناعية متطورة وإعفاءات ضريبية تصل إلى 50% لمدة عشر سنوات
- الصناعات الواعدة:
• النسيج والملابس الجاهزة؛ فتشير بيانات وزارة الصناعة المصرية إلى أن الصادرات المصرية من المنسوجات ارتفعت بنسبة 18% في 2023، ويمكن مضاعفتها إذا استقطبت مصر شركات مثل "H&M" أو "Zara"، التي تعاني من ارتفاع تكاليف تصدير منتجاتها من أوروبا إلى أمريكا.
• السيارات الكهربائية؛ مع توجه أوروبا لحظر سيارات البنزين بحلول 2035 يمكن لمصر أن تصبح مركزًا لإنتاج البطاريات أو المكونات الإلكترونية، مستفيدة من اتفاقية "الكويز" الأمريكية التي تمنح منتجات المناطق المؤهلة وصولاً تفضيليًا للسوق الأمريكية.
- طفرة في الصادرات الزراعية:
من الخضراوات إلى "الذهب الأخضر" حيث أدت الحرب التجارية إلى زيادة الطلب الأوروبي على البدائل الزراعية عن المنتجات الأمريكية، فمصر، التي تصدر بالفعل 35% من إنتاجها الزراعي إلى الاتحاد الأوروبي، يمكنها تحقيق الآتي:
- الاستثمار في الزراعة الذكية: استخدام تكنولوجيا (IoT) لتحسين إنتاجية المحاصيل الاستراتيجية مثل الفراولة والعنب، والتي تصل أرباحها إلى ثلاثة أضعاف المحاصيل التقليدية.
- توسيع نطاق المنتجات العضوية: السوق الأوروبي للمنتجات العضوية ينمو بنسبة 10% سنويًا، ومصر قادرة على تعزيز حصتها عبر الحصول على شهادات الجودة الأوروبية.
- التمور المصرية نموذجًا: فبعد أن تفوقت مصر على السعودية كأكبر مصدر للتمور عالميًا في 2023، يمكنها استغلال الرسوم الأوروبية على التمور الأمريكية لتعزيز وجودها في سوق تبلغ قيمته 1.5 مليار دولار.
3.قناة السويس:
من ممر مائي إلى "مركز لوجستي ذكي" حيث لا تقتصر الفرصة على زيادة إيرادات عبور السفن، بل يمكن تحويل القناة إلى منصة لوجستية شاملة عبر الآتي:
- ميناء شرق بورسعيد (Berth 100): الذي يُعد الأعمق في المنطقة، يمكنه استقبال سفن الحاويات العملاقة (24 ألف حاوية) وتحويله إلى مركز لإعادة التعبئة والتوزيع.
- المناطق الحرة اللوجستية:
تخزين البضائع الأوروبية والأمريكية المؤقتة في مصر لإعادة تصديرها دون رسوم، مستفيدة من اتفاقيات التجارة الحرة المصرية مع أفريقيا.
ثالثًا: آليات تعظيم العائد... خطوات استباقية ضرورية
- إصلاح بيئة الأعمال:
من البيروقراطية إلى المرونة الرقمية
- منصة "مصر الرقمية": دمج كل الإجراءات الجمركية والضريبية في منصة واحدة، كما فعلت الهند مع "نظام الجمارك الذكية" الذي خفض زمن التخليص من سبعة أيام إلى 24 ساعة.
- قوانين الاستثمار الجاذبة: تعديل قانون الاستثمار رقم 72 لسنة 2017 لتشمل إعفاءات ضريبية للشركات التي تصدر 80% من إنتاجها.
2. تحالفات استراتيجية:
شراكات تكنولوجية وتعليمية:
- شراكة مع الاتحاد الأوروبي في الطاقة الخضراء: تحويل مصر إلى مركز لإنتاج الهيدروجين الأخضر وتصديره لأوروبا، عبر استغلال اتفاقية الاتحاد الأوروبي لاستيراد عشرة ملايين طن من الهيدروجين بحلول 2030.
- جامعات التكنولوجيا التطبيقية: تدريب مليون شاب على مهارات الثورة الصناعية الرابعة (الذكاء الاصطناعي، الروبوتات) بالشراكة مع كبرى الشركات مثل "سيمنز" الألمانية.
3. التسويق الاستباقي:
من "صنع في مصر" إلى "صمم في مصر"
- معارض افتراضية: استخدام الواقع الافتراضي المعزز لعرض المنتجات المصرية في الأسواق المستهدفة، مع توفير عينات سريعة الشحن عبر منصات مثل أمازون جلوبال سيلينج.
- الاستفادة من السينما العالمية: كما فعلت الهند بترويج "صنع في الهند" عبر أفلام بوليوود، يمكن لمصر استخدام الدراما المصرية (التي تُشاهد في 22 دولة عربية) لترويج المنتجات السياحية والزراعية.
رابعًا: التحديات... والعاصفة القادمة!
رغم الفرص الذهبية، تعترض طريق مصر تحديات خطيرة:
- المنافسة الإقليمية:
تركيا والمغرب والإمارات تستقطب الاستثمارات ذاتها عبر حوافز ضريبية أكبر.
- أزمة العملة الأجنبية:
محدودية احتياطي النقد الأجنبي (47 مليار دولار في 2024 وفقًا لبيانات صادرة عن البنك المركزي المصري) قد تعيق استيراد المواد الخام اللازمة للتصدير.
- التغيرات المناخية:
تهديدات بفقدان 30% من مساحة الأراضي الزراعية بسبب الملوحة بحلول 2050.
الحلول المقترحة:
- إطلاق صندوق سيادي متخصص في استثمارات التصدير برأسمال خمسة مليارات دولار.
- إنشاء "مجمعات صناعية خضراء" في سيناء تعتمد على الطاقة الشمسية لخفض التكاليف.
الخاتمة: اللحظة الحاسمة... مصر على مفترق طرق
الحرب التجارية بين أمريكا وأوروبا ليست أزمة عالمية، بل فرصة تاريخية لمصر لتصبح قطبًا اقتصاديًا إقليميًا، ولكن تحقيق هذه الرؤية يتطلب تحركًا سريعًا: حيث إصلاحات جذرية في التشريعات، استثمارات ضخمة في البنية التحتية الذكية، وخطة تسويقية عدوانية تعيد تعريف صورة "صنع في مصر"، فإذا نجحت مصر في توظيف أوراقها الرابحة، فقد تحقق طفرة اقتصادية تعيد رسم خريطة القوى في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
--------------------------
بقلم: أحمد حمدي درويش