أتابع وجلاً وحزيناً ما آلت إليه أحوال السودان الحبيب، وأتذكر زياراتي الرسمية أثناء عملي كمدير لإدارة السودان، أو كمساعد لوزير الخارجية.. اللقاءات المختلفة مع مسؤولين وسياسيين وكتاب وشيوخ ، وتقديرات الموقف التي سجلت بأمانة رؤية مستقبلية في نهايات ٢٠٠٧ وبدايات ٢٠٠٨ ، وكأنها كانت قراءة في صحافة اليوم بعد ١٧ عاماً .
كان الخط الذي رسمته، وسعيت إلي تنفيذه يتلخص في "التعامل مع السودان وكأن الإنفصال لا يجب أن يتم، والتعامل مع جنوب السودان وكأن الإنفصال قائم “..
مع وزير الخارجية لام أكول (الجنوبي) وحديث في مقر الخارجية السودانية في الخرطوم .. حكيت له قصة لقائي مع جون جارانج في كمبالا / أوغندا... وأن الرجل أهداني كتابه عن "السودان الواحد" .. كان الوزير متحفظاً علي بعض تصرفات الزعيم الجنوبي الكبير (الذي كان قد مات في رحلة العودة من أوغندا بعد سقوط طائرة الرئيس الأوغندي موسيفيني الهليوكوبتر التي كانت تحمله عبر الحدود إلي جنوب السودان).
سلمت البشير رسالة .. وحكيت له عن بعض ذكريات شبابي في جبل الأولياء، وسألني عن رأيي القانوني في مثلث حلايب، وأجبته بمنتهي الأمانة العلمية، وبغير دبلوماسية حيث قلت له تقريباً أن قيادات السودان دأبت علي إثارة هذا الموضوع كلما تأزمت الأوضاع داخلياً في السودان ، ونصحت بالبحث عن مهرب آخر، مثل الأراضي التي استولت عليها أثيوبيا مثلاً ، فضحك الرجل بطيبته التلقائية..
مع الدكتورمصطفي عثمان إسماعيل (وزير الخارجية السابق ومستشار الرئيس البشير أثناء هذا اللقاء) في الطائرة التي كنت عائدا فيها من رحلة عمل بجنوب إفريقيا ، واستقلها سيادته في الخرطوم ، وجاء مقعده إلي جواري) .. وفيما كنت استفسر عن زيارته لليمن، تحدث بحماس عن ضرورة انضمام مصر إلي الاتفاق الإستراتيجي الثلاثي (السودان / اليمن / أثيوبيا) ، وشرح وجهة نظره الوجيهة في الأهمية الإستراتيجية ، وكتمت عنه رأيي في هذا الاتفاق ، ولكنني سألته بعض الأسئلة عن العلاقات مع أثيوبيا ..
...ذكريات تقاطرت ، بعضها يصلح للنشر ، وبعضها سيدفن معي ...
وجدت أن من واجبي أن أحاول أن أدلي بدلوي ، وأفتش لعلي وجدت ماءً في بئر امتلأت بالدماء .. مع مراعاة شح المعلومات المحدثة ، وفروق التوقيتات بين الزمن الرسمي الذي عشته بكل زخمه ، والزمن الحالي بكل ما له ولي ، وما عليه وعليّ ..
علي البعد، تبدو الخرطوم واقفة علي مفترق طرق ثلاث، لا يمكن تحديداً معرفة أيها طريق السلامة ، وأيها طريق الندامة ، وأيها سكة اللي يروح ما يرجعش ! ..
أظن أن أهلنا في السودان يعرفون الآن بشكل جيد، طريق الندامة، فهو الذي مشت فيه السياسة السودانية طويلاً ، حتي أدمنته..
كما أظن أنهم يمشون منذ فترة في " سكة اللي يروح ما يرجعش “، وربما يفتش الطيبون الآن عن مهرب منه..
وهكذا لا يبقي سوي طريق السلامة الذي يستحق بذل الجهد، ومحاولة استطلاع خرائطه المتاحة..
وفي تقديري يمكن النظر في دخول هذا الطريق من أحد أربع مقتربات، كما يمكن المزج بين أكثر من مقترب علي النحو التالي:
إما مقترب وساطة طرف ثالث، وإما مقترب تدخل دولي خشن، وإما مقترب تدخل إقليمي خشن، وإما مقترب المجتمع المدني السوداني..
والمحاور الأساسية هي كما يلي :
ما هي عناصر أي وساطة ناجحة لوقف نزيف الدم في السودان ؟، هل من الممكن النظر في استدعاء تطبيق مبدأ المسؤولية في الحماية Responsibility to Protect ( R2P) كأسلوب ضغط علي الأطراف المتحاربة ؟، وهل يكون ذلك الخيار لو تم اتخاذه فعلا من جانب المجتمع الدولي ذا فائدة حقيقية ؟، وهل يمكن استبدال الخيار السابق بخيار تدخل إقليمي ينحاز إلي القوات المسلحة السودانية باعتبارها آخر مظهر باق من مظاهر السيادة، وأخيراً وليس آخراً ، هل يمكن تحييد الأطراف العسكرية المتصارعة حالياً ، والدفع بخيار مدني في إطار تريبات معينة ؟.
مقترب الوساطة :
أي وساطة ناجحة لوقف نزيف الدم في السودان يجب أن تتوفر فيها عدة عناصر :
أولا : وسيط / وسطاء مقبولون من كل الأطراف ، ولديهم مصداقية .. لقد تم تجريب بعض الوساطات بالفعل ، ولم تؤت ثماراً لأسباب كثيرة لا محل هنا لعرضها .
ثانيا : توافر الحيدة الحقيقية للوسيط ، وأن يكون لديه خبرة في حل النزاعات ، ومعرفة وثيقة بأبعاد الموقف .
ثالثا : أن يكون الحوار شاملا لا يقصي طرفا أو فصيلا سياسيا أو منظمات مجتمع مدني يمكن أن يكون لها إسهام في إثراء عملية البحث عن الحل الوسط .
رابعا : مناقشة الجذور الحقيقية للصراع ، بأن يتم وضع تحديد دقيق لها ، ثم عزل تلك العناصر الهامشية التي تمثل عبئا علي الحوار ، وذلك بالإستماع الجدي لكل الأطراف في المرحلة التمهيدية لبدء عملية الوساطة .
خامسا : محاولة التوصل بشكل مبكر لوسائل تبريد الأزمة ، من خلال وسائل بناء الثقة مثل وقف إطلاق النار ، وتبادل الأسري ، والإتفاق علي إعلان للمبادئ يعده ويقدمه الوسيط بناء علي دراسته المعمقة لمواقف الأطراف .
سادسا : طرح بعض البدائل التي سبق تجريبها مثل ترتيبات تقاسم السلطة ، وتقاسم الثروة في إطار زمني متفق عليه لحين التحول إلي البناء الدستوري لشكل الدولة الجديد .
سابعا : المصالحة والعدالة الإنتقالية : وهي آليات لها أهميتها في تهدئة النفوس وتضميد الجراح في مجتمع ما بعد الصراع ، وهي مجموعة عمليات مترابطة قد تشمل توافق علي ضمانات قانونية للأطراف ، يؤمن عليها أطراف إقليمية ودولية .
مقترب التدخل الدولي الخشن :
المقترب الثاني باللجوء لتطبيق مبدأ المسؤولية في الحماية R2P، قد يصبح خيارا قويا إذا أخفقت كل جهود الوساطة في وقف نزيف الدم ، حيث ينشأ وفقاً لهذا المبدأ حق للشعب السوداني يُلزم المجتمع الدولي بالتدخل للحماية إذا تعذرت كل الحلول واستمر نزيف الدم .
ويلاحظ أن مسؤولية الحماية كما أقرت في قمة العالم التي حضرها أغلب قادة العالم في الأمم المتحدة عام 2005 ، تقضي بأن علي المجتمع الدولي مسؤولية في التدخل لحماية الشعب من جرائم الإبادة وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والتطهير العرقي (وهذا ما يحدث تحديداً الآن في السودان ، أو بعضه بالتأكيد).
ولكن يجب اللجوء بحذر إلي تطبيق هذا المبدأ الذي يجب أن يراعي بطبيعة الحال مسائل شائكة مثل سيادة الدولة المستهدفة، ومخاطر إستفحال المواجهات وزيادتها عند التدخل الدولي، كما أن الأمر يتطلب توافقا دوليا وإقليميا كبيرا، والتأكد من قانونية كل تحرك ومراعاته لمبدأ التناسب (فلا يكون مثلا مثل التدخل في ليبيا الذي أدي إلي دمار شامل في البنية الأساسية للدولة وإزدياد الإنقسام بعد انتهاء التدخل وسقوط القذافي).
يمكن أيضاً استخدام التلويح بهذا المقترب مع تحذير الأطراف أنه سيتضمن إحالة كل من ثبت تورطه في هذه الجرائم إلي المحكمة الجنائية الدولية، وقد يدفع ذلك الأطراف إلي القبول بمقتربات أخري قد تضمن لهم خروجا آمنا.
مقترب التدخل الإقليمي الخشن :
أما المقترب الثالث ، والذي فضلت أن أجعله تالياً لإقتراح التدخل الدولي ، وهو كذلك في ترتيب الأسبقية بالفعل نظرا لتعقيداته ، وهو بإختصار يتضمن إتخاذ موقف مساند للقوات المسلحة الرسمية السودانية بإعتبارها آخر مظهر باقي من مظاهر السيادة السودانية ، ودعمها بالسلاح والعتاد وربما بالطيران المقاتل لحسم المعركة ضد قوات التدخل السريع ، ولا شك أن هذا المقترب يحمل في ثناياه مخاطر إزدياد تعقيد الموقف ، خاصة إذا عجزت القوات المسلحة رغم الدعم عن الحسم ، أو إذا ادي تدخل معين إلي استقطاب إقليمي يدعم الطرف الآخر (وذلك متوقع) ، فضلا عن أن هذا الخيار أيضا سيتسبب في المزيد من نزيف السودانيين المدنيين .
مقترب المجتمع المدني :
أما المقترب الرابع فهو التغافل عن مخاطبة الطرفين المتحاربين، والتركيز علي المجتمع المدني الذي كان يتحرك بإيجابية قبل انفجار الأحداث، كي يقوم بتشكيل حكومة تكنوقراط تتولي إعادة البناء الدستوري للدولة والتحرك بشكل مرحلي لتحقيق المصالحة الوطنية، مع دعم دولي وإقليمي وافر لإعادة البناء.
ومن الواضح أن هذا المقترب يفترض أن الطرفين قد وصلا إلي مرحلة الإجهاد الكامل، وتم عزلهما إقليميا ودوليا، إلا أن النجاح في هذا المسعى قد يتطلب إستخدام بعض أدوات المقتربات السابقة لتحقيق الضغط والإغراء الكافي كي يتمكن المجتمع المدني من التحرك بيسر وسلاسة، وهو ما يحتاج إلي قرار من مجلس الأمن يحض الأطراف المتحاربة علي وقف القتال ، وتعيين وسيط دولي كفؤ لديه إلمام تام بالسودان .
------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق