لشهر رمضان طقوسه الخاصة. لكل بلد نكهته وتقاليده وعاداته مع الشهر الكريم، زيناته، فوانيسه، تجمعات الإفطار، الأطباق المرتبطة بالأسرة والذكريات.
يهل الشهر فتتصاعد روائح التاريخ من مبخرة الزمن، كأنما صندوق فواكه مجففة رصت بعضها فوق بعض، مشمش وتين وبرقوق، حتى إذا ما مسها الشهر الكريم، (سرت فيها نسمةُ السحر)، كما قال أحمد رامي في قصيدته "أقبل الليل"، فتعود سيرتها الأولى، كأنما قُطفت لتوها.
سحب صديقي الكرسي الخيزران وهو يبحث بعينيه عن النادل، حتى إذا هل مبتسمًا مُرحبًا طلب فنجان قهوة مظبوط، وأوصاه بن محوج وسط، بينما طلب صاحبنا شاي أحمر بالنعناع من دون سكر.
لخان الخليلي بصمة خاصة بحواريه الضيقة ومحاله المتلاصقة ومقاهيه الموغلة في القدم، تراكمت عدة طبقات من التاريخ، فلا تكاد تسير حتى تضع قدمٌ على قدم، استلهم منها نجيب محفوظ أجمل رواياته؛ بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، خان الخليلي، زقاق المدق، وعلى نواصيه كُتب تاريخ يعود لأكثر من ستة قرون.
وضع النادل الصينية النحاسية العتيقة بلونها الأصفر الفاتح تهتز من فوقها قناني الماء، وتفوح منها رائحة قهوة زكية الرائحة إلى جوار كوب زجاجي شفاف تتألق بداخله أعواد نعناع بلدي طازج، تكاد خضرته تُضيء. قطف صاحبنا منها عدة أوراق وراح يمضغها متلذذًا بطعمها اللاذع ونكهتها الزكية.
كعادته، أسبل صديقي عينيه وقرب شفتيه من فنجانه كأنما يهم بتقبيله، وليس لأخذ رشفة منه، إلا أن ملامحه سرعان ما انقلبت إلى النقيض، ونادي النادل تكسو وجهه علامات استياء ودار بينهما حوار حول مستوى السكر، إذ وجده صديقي مفرِطًا في الزيادة خلاف طلبه، والنادل يؤكد أنها النسبة المعتادة لفنجان قهوة مظبوط اعتاد المقهى تقديمه منذ عقود، وحسمًا للأمرأعد فنجانًا آخر وجد فيه صديقي غايته؛ (مطابق للمواصفات)، قالها مبتسمًا تعبيرًا عن امتنانه، ثم أردف ضاحكًا (.. مظبوط صح)، فشاركته سروره.
بتحليل الموقف، تجد أنه حدث لاختلاف المفهوم بين طرفين؛ طلب صديقي فنجانه، وفي ذهنه معايير يرى أنها معروفة، لا تحتاج إعادة تعريف، وأعد النادل طلبه طبقًا لما اعتاد عليه، ودون حاجة لمراجعة الزبون.
ولعلك إذا راجعت نفسك عزيزي القارئ وجدت في الموقف تشابهًا مع ما تمر به في حياتك اليومية؛ ترغب في شراء قطعة ملابس أو سيارة وربما تأجير منزل وتذكر طلباتك للبائع، فيتطلع إليك مبتسمًا ويشرع يلون بفرشاة حكيه ما جئت تبحث عنه، ولعلك اكتفيت من معاينة الشقة بنظرة سريعة وانصرفت، بعد ما صدمك مستواها وموقعها، أو نظرة إحباط لسيارة اختزل صاحبها مواصفاتها في كلمتين "استخدام طبيب"، ولا أدري ما هي العلاقة بين مهنة الطب وحالة السيارات عندنا.
مفاهيم واحدة وتفسيرات متعددة.. كذلك السلام الذي وعد به الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية ويختلف مفهومه بالكلية عما تراه أطراف الصراع.
تراه أوكرانيا في استعادة حدودها المعلنة قبل 27 فبراير 2014، وتراه روسيا في ضم جزر ومساحات إلى حدودها، ويراه السيد ترامب في توقيع أوكرانيا اتفاق مبادلة بحر ديونها العسكرية بمخزونها الاستراتيجي من المعادن النادرة، إلى جانب تنازلها عن بعض المناطق لروسيا. ولا تسأل لماذا حدد جنابه مائة يوم لإنجاز تلك المهمة.
وكذلك تمثلت رؤيته لإنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في تفريغ غزة من سكانها وتحويلها إلى منتجع دولي، إعمالاً لسياسة (ابعد ده عن ده، يرتاح ده من ده).
ألا ترى معي سيدي القاريء أننا بصدد قهوة بطعم العلقم، بعد ما خلت من السُكر وحُمِصَت حباتها لمستوى أقرب للبن المحروق منه إلى الغامق، يدور بها النادل في مآتم العزاء مبتسمًا في صلافة!!
---------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]