28 - 03 - 2025

دارُ العلوم .. أعلامٌ وذكريات!

دارُ العلوم .. أعلامٌ وذكريات!

في زيارةٍ سريعة لكلية دار العلوم بجامعة القاهرة، أجريتها منذ فترة، وكنت قد أجّلتُها مرارا لكثرة انشغالي في بلاط صاحبةِ الجلالة من جهة، ولأبقى من جهة ثانية أُكابد شوق الحنين وأمل اللقاء؛ لعلمي بأنه ما إن تحقق المراد زال الشوق، وانطفأت جذوةُ الحنين، إذ إن الممنوع مرغوب، وهذا ما كنت أرفض حدوثه مع مكان انقطعت صلتي به ما يزيد علي عَقْدين من الزمان، ورغما عن هذا ظلت نار الشوق للقائه تضطرم، وجذوة الحنين إليه تتأجج .

لاحت لي الفرصة فاهتبلتها اهتبال الظمآن ورود الماء .

ما إن صعدتُ درجات السلم الخلفي ـ بعدما أُغلقتْ بوابةُ السُلم الرئيسي بأقفال من حديد، ففقد البناء شموخا وعزا، كنا نستشعره أثناء دخول وخروج أساطين اللغة أساتذة الدار منه ـ حتى وجدتُني بين جدران حصن، أشاد بفضل أساتذته وطلابه محمد عبده وقتما قال: إن اللغة العربية تموتُ في كلّ مكان وتحيا في دار العلوم .

وسريعا اجترتْ ذاكرتي، ولاح لناظري، كيف أحاطني ذلك المكانُ وزملاء الدراسة بدفء العلم والمعرفة علي أيدي شيوخ، كان الواحدُ منهم نسيجَ وحده في فنه وعلمه، فكنا إذا نشدنا اللغة حية نابضة، كما كانت في عصورها الأولي، هرعنا إلي مُحاضرة شيخنا عبد الصبور شاهين، طيّب الله ثراه فنُحصل علما وأدبا، لم يخل من فكاهة، تثبت معها المعلومة، مهما بلغت صعوبتها، ولو تطلعنا لمعرفة مجد العربية، وفضلها علي سائر اللغات، كانت محاضراتُ شيخنا الثبت كمال بشر، والولي العالمِ فتحي جُمعة صاحب (اللغة الباسلة)، والمترجم الصبور محمد فتيح، والمنتشي الأنيق حبلص ملاذَنا المنيع.  أمّا إذا أردنا تقويم اللسانِ من العوج، وتجنبَ اللحن قراءة وكتابة، جمعتنا قاعاتُ الدرس بمشايخ النحو وأعمدته المنيرة: عبد الرحمن السيد، وعبد الرحمن شاهين، ومحمد عيد، والسخي المتبحر علما د. حماسة، والجبل الأشم أحمد عبد الدايم، و المتقن السيد أحمد علي، والراسخ عيد درويش والرائعين الماتعين الشاعر كشك والحافظ عبد المجيد الطويل، وسيبويه دار العلوم جمال عبد العزيز، ومحمد جمال صقر، وغيرِهم ممن قوَّموا ألسنتا وصانوها من العوج واللحن .

وحينما نتوق لسماع الشعر غضا طريا يُعيد إلينا، أو يعودُ بنا إلي زمن امرئ القيس وطرَفة وزهير وعنترة، كنا نلوذ بقاعة شيخنا علي الجندي، المُنمق الأنيق في لفظه وهندامه، والذي اعتاد أن يدخل قاعة الدرس، وهو يمشي الهُويني، كما يمشي الوجيّ الوحِلُ، فيمتعنا بشرحه للمعلقات السبع،  فنجلسُ أمامه، وكأنّ علي رؤوسنا الطير إنصاتا ودهشة، كما كنا نُسرع الخطي كيلا تفوت الواحدَ منا لحظةٌ من محاضرة شيخنا أبي همام تلميذ العقاد، الذي شابهه هيئة وعلما، فنطربُ بسماع قصائده العذبة بصوته الرخيم الحادب، فينزلُ علي آذاننا وقلوبنا صانعا ما يصنعُه الماءُ العذب بمن كابد شدة العطش .

وكانت مُحاضرات شيخنا أبي الأنوار مَقصِد من ينشدُ الأدب والذوق، ورقي الحوار، كما كانت كذلك محاضراتُ الحاذق المتين أحمد هيكل في الأدب الحديث، والحازم العطوف محمد فتوح أحمد، وراهب الأدب الطاهر مكي، الذي لم يقبل مع الأدب شريكا، فعزف عن الزوجة والولد .

وحتي تكتملَ الفائدةُ، ولتضاف إلي قصائد الشعر تحليلاتُه ونقدُه، كنا نتدافعُ إلي قاعة  شيخنا صلاح رزق فتنهمر علينا تحليلاتُه، وتتوالي تعليقاتُه وتفصيصُه للقصيدة والنص، فنقف علي معانٍ عميقة، وتفسيراتٍ دقيقة، ألمّ بها بواسطة ذائقته النقدية، التي لا تُبارَي، وكان آنئذ بمثابة جراح ماهر، يُعمل مشرطه في تحليل النص ونقده وتفسيره. ولم تقل عن محاضرة رزق محاضراتُ الرصينين أحمد درويش وحسن طبل، ذات العلم الجم والدرر النفيسة . كما أسعدتنا الدار بالتلقي عن العملاق علي عشري زايد، أروع من سطر في النقد الأدبي، كذلك أفدنا من مشايخنا هنداوي، وزكريا سعيد تلميذ أبي فهر، وعبد الرحمن فودة، وطارق النعناعي، وغيرهم الكثير .

وحدّثنا من تعلم علي يديه أنّ محاضرة أبي اليزيد الشرقاوي كانت تجسيدًا حيا للفهم العميق البعيد عن السطحية.

وكنا إذا أردنا أن نعرفَ التاريخ مُجردا من أي زيف، والحقيقة في أبهي صورها، كانت محاضرات مشايخنا: الحُجة أحمد شلبي، والمدقق المحقق الواصلِ للمعني من أقرب طريق عبد الرحمن سالم، والشيخين الحانيين: حسن علي، وعبدالله جمال الدين، وزملائهم هي ملاذنا المنشود .

ولنتعلم التدقيق والنظام، وسمو الفكر، ووضوح المعرفة، وصفاء الروح، كانت محاضرات شيخينا الجليلين: حسن الشافعي، ومصطفي حلمي، حفظهما الله، والكريم السخي الذي كانت أسطرُ كتبه تُشع نورا عبد اللطيف محمد العبد طيّب الله ثراه، وكذلك د. عبد الحميد مَدكور صاحب الأثر المعلوم للقاصي والداني، ولاننسي شيخنا الجليند الذي ربَّا فينا ملكة قمع البدعة، ومناصرة السنة، وكذلك كانت محاضرات الشرقاوي، والفاوي، وغيرهما ممن أمتعونا علما وأثرونا أدبا .

ورغبة في تحصيل معارف دينية تتسم بالوسطية والاعتدال، كنا نتسابقُ إلي قاعة شيخنا المُبرِز عميد دار العلوم الأسبق، وتلميذ العلامة أبي زهرة محمد بلتاجي حسن، فندخلُها مُتعطشين للعلم النافع، ونخرج منها شيوخا، حصَّلنا علما ما كان يسعُنا جهلُه، كما كانت محاضراتُ شيخنا أحمد يوسف سليمان، ونبيل غنايم، والداعية الورع صلاح سلطان، وقاسم المنسي، وعبدالناصر حامد، وعبد الرحيم ، وسمرة، ومُوافي،  وغيرهم قاعات للعلم النافع والفهم السليم دون تقعُر ولا تشدد .

وفي قاعة شيخنا رفعت فوزي حفظه الله تلقينا، حديثَ النّبي صلي الله عليه وسلم خالصا من أي كذب وزيف .

تذكرتُ ذلك كله وأنا أسيرُ بين طرقات المبني بأدواره الثلاثة، التي تتابعت فيها حجراتُ أساتذةٍ عظام رَحَل منهم من رَحل، بعدما قدم مشكورًا جُل أو كلّ ما عنده، وبقي منهم من بقي، يُتحف طلابه بعلمه وفنه.

في تلك الزيارة التقيت الناقد الواعد محمد متولي، رحمه الله، والذي كان هناك موعدٌ للقائه، فألفيته شريكا في الحجرة لشيخنا شفيع السيد أحد رواد الدراسات النقدية، الذي درّس لنا نقدا أدبيا مقارنا، وكانت تحليلاتُه لأعمال صاحب نوبل نجيب محفوظ، هي مفتاح دخولنا لعالم محفوظ الأدبي، وما إن احتوتني الحجرة حتي وجدتني أمام شامخين : شفيع السيد، وعبد الحميد شيحة، والذي لم تغيره السنون فبدا ببزته الأنيقة، وقوامِه الرشيق، وهندامه المُنسق شديدِ الشبه بعقليته المنظمة، التي عرفناها عنه، وهو يُدرس لنا نصوصا من الأدب الإسلامي والأموي .

وخلال ذلك اللقاء الماتع – والذي ضم المُترجم الحاذق أسامة شفيع أول دفعتنا سنة ٩٧، والذي كانت بينه وبين الشاعر أحمد بلبولة، والأصولي الشرعي أمير شيشي منافساتٌ شريفة، وصراعٌ خرَّج أفذاذا – نعمتُ بكرم الضيافة، المشوب بالعلم والأدب، وانصرفتُ بعده لألتقي عميدَ دار العلوم السابق عبد الراضي عبد المحسن، الذي يسعي حثيثا لتصير الكليةُ منارة تجمعُ بين الأصالةِ والمعاصرة .

كان اللقاء سريعا، وبعد طول غياب، لكني عقدت العزم أن يتكرر على فترات، فهل سأنجح في تحقيق ذلك ؟!
-----------------------
بقلم: صبري الموجي
* مدير تحرير الأهرام


مقالات اخرى للكاتب

ورحلَ الحويني .. فارسُ السنة !