02 - 05 - 2025

تشرشل في موسكو

تشرشل في موسكو

في صيف ١٩٤٢ ، وبينما كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها ، كان تشرشل يعض علي أصابعه كل لحظة تخوفا من أن يستسلم ستالين ويوقع معاهدة مع هتلر يتفرغ الأخير بعدها لمعركة بريطانيا.

أرسل السفير البريطاني في موسكو أرشيبالد كلارك إلي تشرشل ينصحه بأن الوساوس تملأ نفس ستالين ، وأنه لو أخبره بتأجيل غزو الحلفاء الشاطئ الفرنسي، فأنه من المؤكد سيصدق أن الغرب يريد أن يتركه وحده مع هتلر في الحرب حتي يدمر كل منهما الآخر ، ورأي السفير أن الوحيد القادر علي إقناع ستالين هو تشرشل نفسه .

كيف يتحرك تشرشل الكهل في هذه الرحلة الطويلة من لندن إلي موسكو ، بعد أن رفض ستالين اقتراحات بأماكن أخري وسيطة ؟ .. كيف يمكن أن يفلت من مقاتلات العدو التي تنتشر كالذباب في كل السماوات ، وكيف يكون مصير بريطانيا والغرب كله إذا تم إسقاط طائرته ؟.

أكدت برقية السفير البريطاني في موسكو ما كان تشرشل يخشاه ، وبشجاعة منقطعة النظير اتخذ قراره بالسفر ، وحملته الطائرة عبر جبل طارق ثم القاهرة ثم طهران قبل أن يصل إلي موسكو ، وقيل أن طائرته كانت تمرق من بين طائرات العدو .

في ذلك التوقيت المفصلي في الحرب ، كانت الثقة معدومة بين كل الأطراف ، بريطانيا تخشي أن يتوصل ستالين إلي معاهدة صلح مع هتلر ، وهو ما يعني انفراده فعليا بغزو بريطانيا ، ومن ناحية أخري لم يكن تشرشل يثق تماما في الرئيس الأمريكي روزفلت، أما ستالين فلم يكن يثق في الغرب وفي بريطانيا خصوصا وفي تشرشل علي الأخص ، كان يشعر أنهم يريدون منه مواصلة الحرب ضد النازي حتي يضعف الاتحاد السوفييتي ، ثم يصل الغرب إلي ترتيبات بعد ذلك مع هتلر بعد هزيمة الشيوعية ، أو علي الأقل إنهاك الجيش الألماني في عملياته ضد الاتحاد السوفييتي وتحقيق نصر مزدوج :" تدمير النازية والشيوعية معا" .

حطت كل هذه الهواجس مع تشرشل حين هبطت طائرته بعد رحلة شاقة في موسكو .

دارت جولتان للمحادثات بين ستالين تشرشل ، وعندما علم ستالين بنية الحلفاء تأجيل فتح الجبهة الثانية إلي عام ١٩٤٣ ، هاج وأتهم تشرشل بأنهم مخادعون، وتوترت المحادثات ، وعلا صوت ستالين مشيرا إلي التضحيات الجسيمة للجيش الأحمر ، ومتهما الجيش البريطاني بالجبن ، مما أثار تشرشل فدافع بدوره بصوت عال عن الشرف العسكري الإمبراطوري للقوات البريطانية .

في مساء اليوم الثاني شعر الدبلوماسي البريطاني العجوز أنه لم يعد هناك ما يمكن التفاوض حوله ، وأن عليه أن يعد حقائب للسفر في اليوم التالي .

وفي ردهات الكرملين كان ستالين يسير مهموما وهو يفكر بألم في البدائل المتاحة أمامه خاصة وأن التقارير من الجبهة لم تكن مبشرة .

في هذه اللحظات تتدخل الدبلوماسية عبر إمكانياتها التحليلية والإقناعية كي تبدع الحلول ، رغم حقيقة الأسلوب الاستبدادي لكل من تشرشل وستالين في اتخاذ القرار .

في بيت الضيافة في تلك الليلة الغامضة اقترب السفير البريطاني في موسكو من تشرشل كي يهدئ ثائرته ، مشيرا إلي الأهمية الإستراتيجية من بقاء موسكو في الحرب ضد هتلر ، وأن سفر تشرشل دون تفاهم سوف يدفع ستالين البراجماتي إلي أحضان هتلر مرة أخري ، وركز علي أن ستالين في نهاية الأمر ليس إلا مزارعا من جورجيا يعبر عن نفسه بالطريقة الوحيدة التي يفهمها ، ولا يعرف أو يثق في اللغة التي حاول تشرشل أن يسوقها إليه..ووافق تشرشل علي مضض .

وعلي الجانب الآخر بذل وزير الخارجية السوفييتي جهدا مماثلا كي يهدئ من مخاوف ستالين ، حيث ركز علي أن الغرب يعلم يقينا أنه لن ينتصر علي هتلر وحده ، ثم ان الوضع في الجبهة يتحسن ، ويمكن في أي لحظة اذا ثبت خيانة الغرب أن يتم علي الفور عمل معاهدة مع هتلر ، فضلا عن أن التقارير تشير إلي أن الغرب بدأ في حملته في شمال إفريقيا .. الخ.. واقتنع ستالين علي مضض .

وفي اليوم التالي دارت المحادثات في جو أكثر ملائمة بعد أن نجحت الدبلوماسية في تبريد الرؤوس الساخنة للزعيمين ، وأسرف تشرشل في شرح عمليات شمال إفريقيا كتمهيد لضرب المانيا في بطنها الجنوبي في ايطاليا واليونان (ما أطلق عليه soft belly أو البطن الرخوة ) ..

ونجحت مهمة تشرشل مع ستالين ، وحملت عناوين الصحف خبر هذا النجاح بالبنط العريض ، دون أن يذكر أحد الدور الذي لعبه السفير البريطاني في موسكو أو وزير خارجية الاتحاد السوفييتي ، وذلك هو قدر الدبلوماسية أن تعمل في الظل وفي صمت وينسب النجاح لغيرها ، أما الفشل فأنها تكون اول ضحاياه ..
--------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق


مقالات اخرى للكاتب

محاكمة قناة السويس في بريطانيا!