في لحظة فاصلة من التاريخ الأمريكي، أسقطت الولايات المتحدة آخر أوراق التوت التي كانت تغطي عوراتها السياسية، حيث لم تعد الديمقراطية سوى قناع هشّ يتهاوى أمام مصالح جماعات الضغط والسلطة العميقة. لم يكن اعتقال محمود خليل، الناشط الفلسطيني الحاصل على الإقامة الدائمة، مجرد حادثة عابرة، بل كشف عن الوجه الحقيقي لدولة تتبجح بالحرية بينما تمارس القمع بكل أدواته.
من شعار الحرية إلى ماكينة القمع
ما حدث مع محمود خليل ليس سوى حلقة في مسلسل طويل من انتهاك الحقوق تحت ذرائع الأمن القومي والتصدي "للمعادين لإسرائيل". لقد انتُزِع الرجل من حياته اليومية، بلا تهمة أو محاكمة عادلة، من قبل وكالة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك، رغم أنها ليست مخولة أصلًا بالتعامل مع الحاصلين على إقامة دائمة. لم يكن خليل مجرمًا، ولم يرتكب أي جريمة سوى قيادة المفاوضات بين طلاب جامعة كولومبيا والإدارة بشأن الاحتجاجات ضد الحرب على غزة. ومع ذلك، وجد نفسه فجأة في قبضة جهاز أمني يخضع لضغط اللوبيات التي ترسم سياسات البيت الأبيض ووزارة الخارجية.
الإقامة الدائمة ليست ضمانًا للحرية
الأمر الأخطر أن واشنطن لم تكتفِ بإخفائه قسريًا، بل سارعت إلى اتخاذ إجراءات أكثر تطرفًا، حيث سحبت الإقامة من مجموعة من الناشطين وأعدّت قوائم بالترحيل لمن تصفهم بـ"المتعاطفين مع حماس". هذه القرارات التي تتجاوز القوانين والدستور لم تكن سوى انعكاس لهيمنة تيارات سياسية ترى أن الولاء لدولة أجنبية أكثر أهمية من التمسك بقيم الديمقراطية.
اللوبي الصهيوني يحكم واشنطن
اللوبي الصهيوني، وعلى رأسه منظمة "إيباك"، لم يعد مجرد جماعة ضغط تعمل من وراء الكواليس، بل أصبح القوة الفعلية التي تُحدد توجهات السياسة الأمريكية. شخصيات مثل وزير الخارجية ماركو روبيو، الوزير الإنجلو- صهيوني المتطرف، ووزير الدفاع بيت هيجست، إلى جانب آخرين في دوائر البيت الأبيض، ليسوا سوى أذرع سياسية لهذا اللوبي الذي يفاخر علنًا على منصاته بأنه يُمسك بزمام السياسة الأمريكية ويوجّهها لخدمة الكيان الصهيوني.
ديمقراطية الغرب: وهمٌ يسقط عند أول اختبار
لطالما تشدقت الولايات المتحدة بقيم الحرية، لكن هذه المبادئ تتبخر عندما يتعلق الأمر بمن يجرؤون على تحدي النفوذ الصهيوني داخل دوائر الحكم. بالأمس، كانت الإدارات الأمريكية تُلقي المحاضرات عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، واليوم تُمارس أسوأ أشكال القمع داخل أراضيها. لم يعد هناك فرق بين الأنظمة الديكتاتورية التي تنتقدها واشنطن وبين سياساتها القمعية تجاه أي صوت يرفض الخضوع للإملاءات الصهيونية.
تحذير فرانكلين الذي تجاهلوه
حين تحدث بنجامين فرانكلين عن المخاطر التي قد تهدد القيم الأمريكية، لم يكن يتحدث من فراغ. لقد أدرك مبكرًا أن السيطرة المطلقة لجماعات ضغط بعينها ستُفضي إلى انهيار الحريات وتحوّل الدولة إلى أداة في يد أقلية نافذة. عام 1787، طالب فرانكلين بإخراج اليهود من أمريكا، متوقعًا أنهم سيُحكمون السيطرة على البلاد بمرور الزمن، وهو ما تحقق اليوم مع استيلاء الصهاينة على مفاصل القرار الأمريكي.
نهاية الأسطورة
سقوط تمثال الحرية لم يكن مجرد صورة رمزية، بل حقيقة سياسية تجلّت في وضح النهار. أمريكا، التي كانت تدّعي أنها أرض الحريات، باتت تُرحِّل المعارضين وتُسكت الأصوات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، مُتحوّلة إلى نموذج قمعي عالمي. في النهاية، من يبرر القمع اليوم باسم حماية المصالح، سيتحول هو نفسه إلى ضحية لهذا النظام غدًا.
---------------------------
بقلم: عز الدين الهواري