مما هو معتاد ومشتهر أن يمر أحدنا بسايس يغصب من الطريق بعضه ليصف السيارات فى طرقات الناس ويقبض من أصحابها! ومما هو معتاد ومشتهر كذلك أن يمر أحدنا بقهوجى وقد نشر مقاعده وبث مناضده مغتصبًا رصيف المشاة ليُجلس عليها رواده ويقبض منهم! ومما هو معتاد ومشتهر أن ترى وتسمع جيرانك يتشاكسون ويصطخبون لافتئات أحدهم على حق جاره فى مدخل أو مخرج أو مرفق! ومما ليس بعجيب أن تكون فى مجلس فتسمع من صاحبك بأتاوات يفرضها ويقبضها من لم توكله الدولة بفرض ولا قبض! وإنه لفرط اعتيادنا هذا رؤيةً وسماعًا ومُلابَسةً فقد أَلِفناه وربما ظنناه من ضرورات الاجتماع البشرى، وما هو من ضرورات الاجتماع البشرى فى شىء، بل هو من أمارات أزمنة الفوضى وعصور الاضمحلال! فأنت لو حققت النظر فيما ذكرت من التعدى والتجاوز فلن تجدها مخالفات يسيرة للقانون، بل هى نقض (للعقد الاجتماعى) الذى هو (أب للدستور).
ولعل سائلًا أن يسأل: وما العقد الاجتماعى؟ فأقول: هو فلسفة فى السياسة قال بها الفيلسوف السياسى والاجتماعى الفرنسى جان جاك روسو، وفحواها أن كل واحد من الناس كان يحيا على الأرض ممتلكًا كل قُوَّته وممتلكًا كل حريته، ثم إنه منعًا لعدوان الأقوى على الأقل منه قوة فقد تنازل كل إنسان عن جزء من قُوَّته وحريته المطلقتين إلى حكومة لتستعملها فى ضبط المجتمع، وإقامة العدل فى الرعية جميعًا، ورد الأقوى عن العدوان والبطش بمن هو دونه، فصار العقد بين الحكومة والرعية أن يتنازل كل إنسان عن جزء من قُوَّته وحريته للحكومة فتجتمع عندها قوة الجميع فتحمى الجميع من بطش الجميع، وصارت تلك الفلسفة هى الوثيقة المؤسِّسة للدساتير الحديثة منذ مائتى عام أو تزيد.
فلعلك تسأل: وما شأن هذا العقد بالسايس والقهوجى؟ فأجيبك: إنه بحسب هذا العقد الاجتماعى أكون أنا وأنت وسائر شعبنا قد تنازلنا عن جزء من حريتنا وجزء من قُوَّتنا ليس لحكام الظل من السُّيَّاس والقهوجية وجباة الأتاوات والجيران المتعدين حدودهم ولا لغيرهم من الجائرين، بل تنازلنا عنها طوعًا إلى الدولة والحكومة لتمنع الجور، وتضبط الأمور، وتحول دون تشاجر المصالح، فحين يغصب هذا السايس نصف طريقك، وحين يغصب ذاك القهوجى كل رصيفك، وحين يفتئت الجار على جاره، وحين يجبى الأتاوة من لم يُوَكَّل بها، فاعلم يقينًا أن هؤلاء لم يخرقوا قانونًا، بل نقضوا العقد الاجتماعى الذى أنشأ الحكومة ابتداءً ثم فوضها ما تحت يدها من القوة والسلطة، إن هؤلاء وغيرهم وغيرهم قد اغتصبوا لأنفسهم سلطة الحكومة فى التنظيم والمنح والمنع وجمع الأموال وغيرها من السلطات التى أعطاها الشعب لحكومته، ولم يعطها لحكام الظل هؤلاء! فلماذا لا تغار الدولة على سلطتها المنتقصة وهيبتها المتضائلة على قارعة الطرقات؟!
إنه مما يعجبنى فى دول الغرب على مساوئها، أن حكوماتها لا تفرط ولا تغض الطرف عن الانتقاص من سلطتها التى أوكلتها لها الرعية وفوضها بها الشعب، ولا الشعب ينسى أنه نزل عن بعض قوَّته وحريته للدولة لترد عنهم افتئات الجائرين، فإذا ما رُئِيَت شبهة جَوْر على حق خاص أو حق عام بادر المواطن فأبلغ الدولة، وبادرت الدولة لا أقول فمنعت المخالفة وأوقفت المخالف (فذلك أمره هيِّن)، بل أقول بادرت الدولة فاستردت سلطتها المفوضة إليها من قِبَل الشعب قَبل أن يغصبها هذا الجائر، فمتى تسترد حكومتنا قُوَّتَنا (المفوضة إليها) من يد حكام الظل؟!
----------------------------
بقلم: محمد زين العابدين
[email protected]