يقول المصريون في الأرياف حتى اليوم للشخص الذي يستولي على شيء ما دون وجه حق استنكارًا لفعله «إيه! هي سرحة!!» فما السرحة وإلى عصر أو زمن تعود. ولماذا أصبحت مضربًا للأمثال في الظلم وأخذ مال الناس بالباطل دون وجه حق.
من يعود إلى كتب التاريخ يجد أنه قد فرض على المصريين الكثير من الضرائب بأسماء مختلفة، قد تكون مضحكة خاصة في العصر المملوكي، فإذا هزم الجيش المملوكي كانت تفرض ضرائب باهظة على المصريين بدعوى الاستعداد للحرب، وإذا انتصر الجيش كان يجبى من المصريين شيء عرف باسم «بشارة النصر» تأخذ من الناس على قدر طبقاتهم ومعايشهم لمن يحمل البشرى للنواحي بالانتصار في غزوة أو أخذ حصن.
ومن جملة هذه الضرائب الظالمة وغير المستحقة التي فرضت على المصريين في العصر المملوكي ضريبة عرفت باسم «السرحة» وتجمع من كل إقليم حين يمر عليه السلطان من أجل الصيد أو النزهة وعرفت هذه السرحات التي يقوم بها السلطان باسم «التقادم» وهي عبارة عن خيول وأبقار وأغنام وسلاح مبالغ عينية شبه الضيافة تجمع من قوت الفلاحين، وكان على الولاة في كل إقليم أن يقدموا هذه «التقادم» للسلطان أو من ينوب عنه حتى أصبحت عادة لا بد منها يخرج لجمعها في حالة عدم فراغ السلطان، علمًا بأن هذه السرحات كان يصحبها من المظالم ما يهلك الحرث والنسل، وكانت هذه السرحات مجزية جدًا لدرجة أن السلاطين كانوا ينعمون بها على من يخصونهم من الأمراء استرضاء لهم أو مكافأة لهم على أعمال أدوها.
ولم يكتف السلاطين خصوصًا في الدولة المملوكية الثانية بهذه السرحات لفرض المغارم على الناس تحت مسمى التقادم بل أنهم فرضوا على المصريين ضرائب تشبه ما يفعله قطاع الطرق والمنسر ، فقد قام السلطان فرج عام 814 هجرية 1411 ميلادية مجموعة من الأمراء ومعهم مماليك إلى عدة جهات من أرض مصر وأخذوا الأغنام والخيول والأبقار التي وجدوها، وشنوا الغارات على النواحي ، فساقوا إلى السلطان عشرات الآلاف من الأغنام التي سرقوها خلال الأموال والجمال والخيل والمواشي.
تكشف هذه الكلمة، التي لا يزال المصريون يستخدمونها حتى اليوم، «هي سرحة»، عن تاريخ طويل من الظلم البشع الذي تعرضوا له. فقد احتفظت العبارة بهذا الإرث المأساوي، لتصبح مثالًا يُضرب على الفساد، تمامًا كما تحفظ المتحجرات الأثرية شواهد الماضي. ورغم أن المصريين قد ينسون أصل استخدامها، فإنها تظل راسخة في وجدانهم، تنتقل عبر الأجيال كتعبير حي عن الظلم والفساد.