مر أكثر من عقد منذ أن اندس أحمد الشرع داخل المصعد الضيق الذي صعد به إلى شقة والديه في الطابق العاشر.
لم يتغير المبنى ذو الطراز السوفيتي كثيرًا منذ آخر مرة رآه فيها، ولا يزال يطل على سلسلة من المباني الخرسانية المتطابقة والبقع المهملة التي تفصل بينها.
كانت الممرات بنفس الظل الأبيض الرمادي الذي كانت عليه عندما كان طفلًا، وإن كانت تحمل الآن آثار الزمن بعد سنوات من الصراع المدني والأزمة الاقتصادية.
كان الشرع قد وصل إلى دمشق فاتحًا، يقود جيشًا من المتمردين إلى عاصمة اجتاحها حلفاؤه بالفعل.
انهارت القوات الموالية لديكتاتور سوريا بشار الأسد، أمام تقدمهم، مما أتاح للشرع أن يصل إلى السلطة دون إراقة دماء في صباح أحد أيام الشتاء القارس في ديسمبر 2024.
كان أول ما فعله الشرع بعد وصوله هو التوجه إلى تلة عشبية، حيث سجد لله، بينما كان مسدسه يبرز من حزامه وهو يخفض جبهته إلى الأرض.
تم توثيق اللحظة بالفيديو وتوزيعها على نطاق واسع، لتأكيد سقوط دمشق ثم توجه إلى المسجد الأموي التاريخي في المدينة والكاميرات تتبعه، ليعلن أن عصر الأسد انتهى أخيرًا بعد أربعة عشر عامًا من الحرب.
كانت هذه لحظات نصر موجهة للجمهور، أما رحلته عبر المدينة إلى الشقة القديمة في حي المزة، فلم تكن كذلك.
لقد عاد إلى منزله دون كاميرات أو حاشية كبيرة، بل برفقة عدد قليل من الحراس الشخصيين.
كان العديد من سكان العاصمة قد فروا إلى الساحل بحثًا عن الأمان النسبي بحلول ذلك الوقت، بينما كان آخرون يحزمون أمتعتهم على عجل، في ظل انتشار المسلحين بسيارات مغطاة بالطين يجوبون شوارع المدينة.
عند خروجه من المصعد مرتديًا زيه العسكري، طرق الشرع باب الشقة، وكانت عائلة سليمان قد انتقلت إليها مؤخرًا بعد أن منحها النظام لهم، والآن، كانوا يرمون متاعهم في صناديق وأكياس، محاولين المغادرة بأسرع وقت ممكن، وفوجئوا برؤية الرجل الذي أصبح الحاكم الفعلي لسوريا.
يقول احد معاونيه، في رواية أكدها لاحقًا أحد الجيران "قال لهم الشرع بلطف: ’لا تتعجلوا.. خذوا وقتكم.. لكن هذا منزل عائلتي، ولدينا فيه ذكريات كثيرة، لذا نرغب في استعادته الآن،‘”.
لم يرفع الشرع صوته كما ابلغني الجار، بل “أعطاهم وقتًا كافيًا لحزم أمتعتهم والمغادرة”.
يحتل حي المزة، الذي يقطنه خليط ديني من الطبقة المتوسطة العليا، مكانة بارزة في ذاكرة طفولة الشرع.. هنا لعب كرة القدم وهو طفل، وعمل بعد الظهر في متجر بقالة عائلته، وانخرط في نقاشات لا تنتهي حول السياسة مع والده ووالدته وإخوته الستة، وهنا أيضًا، علموا بأنه تخلى عن دراسته ليقاتل ضد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003.
كانت عائلته تظن انه مات منذ زمن طويل بحلول وقت عودته.
عندما أعلن الشرع نفسه رئيسًا لسوريا الجديدة هذا العام، كان ذلك تتويجًا لمسيرة قادته من زنازين سجن أبو غريب في العراق إلى جبال شمال غربي سوريا.
استخدم الشرع عدة أسماء وألقاب على مر السنين، من بينها القائد، والشيخ، والأخ، وكان يلقب نفسه حتى وقت قريب، بـ “الفاتح أبو محمد الجولاني”، وهو اسم حركي يعكس أصول عائلته وطموحه (الفاتح تعني “القاهر” أو “المنتصر”).
كانت الجماعة الإسلامية المسلحة التي يقودها منذ 2011، والتي كانت سابقًا فرعًا من القاعدة، تُعرف باسم جبهة النصرة قبل أن تخفف من توجهها وتصبح هيئة تحرير الشام (HTS)، وهذا يعني أن الشراع قضى معظم العقدين الماضيين في غموض نسبي.
لم تكن أجهزة المخابرات السورية متأكدة من اسمه الحقيقي حتى عام 2016، وكان ذلك العام أيضًا هو الذي كشف فيه الشرع عن وجهه للعامة لأول مرة.
لم يمنح الشرع حتى وقت متأخر سوى مقابلة واحدة متعمقة تطرقت إلى ماضيه، بينما ركزت بقية المقابلات على مستقبله فقط.
ولم يستجب الشراع لطلبات المقابلة العديدة التي أرسلتها له، لكن القلة الذين تمكنوا من سؤاله عن أصوله تلقوا إجابات مقتضبة أو متعمدة الإبهام.
هذا ليس مصادفة، وفقًا لأكثر من 30 شخصًا تحدثت إليهم في إطار هذا التحقيق، بما في ذلك مسؤولون حكوميون حاليون، وضباط استخبارات إقليميون وغربيون، ومقاتلون سابقون، ودبلوماسيون، وأصدقاء، وجيران.
تكشف رواياتهم، إلى جانب وثائق استخباراتية مسترجعة ومراسلات بين الجهاديين، قصة رجل يدرك تمامًا كيف يمكن أن يُنظر إلى ماضيه على أنه يتناقض مع أيديولوجية حركته المتمردة.
كلما تعمقنا في ماضي الشرع، زاد وضوح أن هذا الغموض المدروس لم يسمح له فقط بالبقاء على قيد الحياة لأكثر من عقدين في قلب الحركات الإسلامية المسلحة، بل ساعده على هزيمة الأسد، وقد يكون أيضًا العامل الذي يحدد قدرته على الاحتفاظ بالسلطة عندما يتلاشى وهج النصر الساحق.
----------------------
الترجمة نقلا عن صفحة زيد بنيامين