لا أخفي أنني انشغلت لفترة بقراءة ما كتبه الأستاذ أنيس منصور، فهو ابن مدينتي، ومن أوائل من يُشار إليهم من الكُتّاب الكبار فيها، بعد الأستاذ أحمد حسن الزيات وأستاذي الأكبر محمد رجب البيومي. وأول ما استوقفني في كتاباته هذا المنجز الضخم من المقالات التي لم تلبث أن تحولت إلى كتب، وكأنها بناء يتنامى تدريجيًا، يومًا بعد يوم، حتى صار له طابع مميز وأسلوب متفرد لا يخطئه القارئ.
ولعلّ أعظم درس نستفيده من حياة الأستاذ أنيس منصور أن الكتابة المستمرة هي سر الإنجاز الحقيقي، فالكلمات التي تُسكب يومًا بعد يوم تتحول مع الزمن إلى إرث فكري متكامل، وما يبدو قليلًا في لحظته الأولى يصبح مع التراكم بناءً شامخًا من الأفكار والرؤى؛ فأنيس منصور استطاع أن يصنع عبر مقالاته اليومية سجلًا حافلًا من التأملات والقصص والآراء، حتى باتت أعماله مرجعًا في الصحافة والأدب، شاهدة على قوة الاستمرارية وأثرها العميق.
كان من اللافت أن الرجل يكتب بصفة يومية، وهو أمر يحسب له، وكنت أرجع ذلك في أول أمري إلى كثرة قراءاته وولعه بالمعرفة وانشغاله بفنون الثقافة المختلفة، حتى استطعت أن أستوعب عددًا هائلًا من مقالاته وكتبه المنشورة، فاكتشفت سببًا آخر لقدرته على الاستمرار في الكتابة اليومية: أنه لا يتكلف موضوعاته، بل يكتب بعفوية دون تكلف أو تصنع عن واقعه وبيئته، وربما عن حياته الخاصة، وكأن المقالات تفرض نفسها عليه ولا يحتاج إلى البحث عنها. فتارة يعلق على رسالة من قارئ، وتارة يروي لقاءه بشخصية معروفة، وأحيانًا يسجل انطباعاته عن كتاب قرأه أو موقف مر به. وهكذا تتوالى مقالاته دون انقطاع، وكأنها يوميات فكرية مفتوحة على العالم، تشكل سجلًا زاخرًا بالأحداث والملاحظات والانطباعات الشخصية التي تتشابك مع القضايا الفكرية والثقافية والفلسفية التي كان شغوفًا بها.
ومع ذلك فإن هذه الغزارة لم تخلُ من ظاهرة تستحق التأمل، وهي تكرار المعاني والمواضيع في بعض الأحيان. وقد أشار أنيس منصور نفسه إلى هذه المسألة في إحدى مقالاته بعنوان : "هذا الكلام قيل من قبل"، حيث أوضح أنه يعيد تناول الأفكار والمعاني لا لمجرد التكرار، بل لأنه يسعى إلى توضيحها أكثر لنفسه وللقارئ، وكأنه يعيد تشكيلها وصياغتها بزوايا مختلفة، ليقدمها بشكل أكثر وضوحًا وقربًا من المتلقي. وربما كان هذا من أسرار نجاحه، إذ استطاع عبر هذه الطريقة أن يجعل القارئ دائم الشعور بأنه يقرأ أمرًا جديدًا، حتى وإن كان الموضوع مطروقًا من قبل.
إلى جانب ذلك كان لأستاذنا أنيس منصور قدرة فريدة على استدعاء الحكايات والطرائف وربطها بالأفكار الفلسفية أو التجارب الحياتية، مما يضفي على كتاباته مسحة من السرد الممتع الذي يجمع بين التأمل والفكاهة. وهذا ما جعله قادرًا على جذب شريحة واسعة من القرّاء، حتى من غير المتخصصين في الفلسفة أو الفكر، لأنه كان يبسّط الأمور دون أن يسلبها عمقها، أو يجعلها جافة متعالية على القارئ العادي.
ومن الإنصاف أن نشير إلى دوره في تبسيط الفلسفة وجعلها في متناول القارئ العام؛ فإن من الواجب أيضًا أن نذكر أن هذا التبسيط تحول أحيانًا إلى تسطيح، بحيث أصبحت بعض مقالاته أقرب إلى استعراض سريع للأفكار الفلسفية دون نقد أو تحليل جاد!
وفي النهاية تبقى تجربة أنيس منصور متميزة في الصحافة العربية، فهو كاتب استطاع أن يمزج بين السرد الشخصي والفكر الفلسفي والتأمل العابر والنقد الأدبي، مما يجعل مقالاته تحظى بجاذبية خاصة، رغم ما قد يُؤخذ عليها من إعادة تدوير للمعاني. وربما كان هذا أحد أسرار استمراره وانتشاره، لأن كل فكرة قديمة لديه كان يجد طريقة ما ليمنحها نكهة جديدة تجعل القارئ مضطرًا للمتابعة، وكأنه أمام متوالية فكرية لا تنتهي، لكنها في كل مرة تحمل لونًا جديدًا، ونكهة مختلفة تجعلها أقرب إلى المتلقي.
ولهذا يشعر القارئ كثيرًا بأنه مدفوع لقراءة منجز أنيس منصور؛ لأن كل مقالة تحمل أشياء جديدة، ولو كان إعادة صياغة لمعانى قديمة، فالقيمة عنده ليست في الابتكار المطلق، مما يجعل تجربته الكتابية ممتدة ومتجددة رغم ما قد يراه البعض من إعادة تدوير للأفكار!
-----------------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني