لحظة تبدو في منتهى التفاهة أدت في النهاية إلى اشتعال الأجواء داخل البيت الأبيض، لحظة سؤال زيلينسكي "لماذا لا ترتدي بدلة؟ أنت في حضرة أعلى مستوى في هذا البلد وترفض أن ترتدي بدلة. هل هذا لأنك لا تملك واحدة؟". السائل هو برايان غلين، مراسل شؤون البيت الأبيض لحساب شبكة اسمها Real America’s Voice (صوت أمريكا الحقيقية)، وهي شبكة يمينية محافظة ظهرت حديثًا بين منظومة واسعة من الأدوات "الإعلامية" الحاملة لأجندة ما يسمى Make America Great Again - MAGA cult، الشعار الانتخابي الأساسي لترمب الذي تحول الآن إلى حركة سياسية لها رؤوس وذيول.
كيف وصل هذا "المراسل" إلى البيت الأبيض بينما حُرم عدد كبير من الصحفيين المحترمين؟ هناك عرف معمول به في مجال الصحافة الميدانية اسمه Pooling يتم تفعيله عندما يكون عدد المؤسسات الصحفية المهتمة بتغطية حدث ما أكبر من القدرة الاستيعابية للمكان و/أو لأسباب أمنية. في إطار هذا العرف يتم اختيار عدد محدود من مؤسسات بعينها بشرط أن تتيح هذه ما تنقله أو تحصل عليه لبقية المؤسسات التي لم يتم اختيارها. من الذي يختار في هذه الحالة؟ عادةً اتحاد الصحفيين، لكن البيت الأبيض لترمب انتزع هذه الصلاحية لنفسه هذا الأسبوع بحجة إتاحة الفرصة ل "أصوات جديدة".
عندما وصل زيلينسكي إلى البيت الأبيض يوم الجمعة كان أول تعليق لترمب وهو يصافحه: “You’re all dressed up today” (أنت لابس على سنجة عشرة اليوم). أضف هذا إلى ما تسرب لاحقًا من أن مسؤولين داخل البيت الأبيض كانوا قد نصحوا زيلينسكي قبل وصوله بارتداء سترة أنيقة احترامًا لترمب بدلًا من القمصان شبه العسكرية التي يرتديها تضامنًا مع جنوده على جبهات القتال، لكنه رفض. كيف علم ذلك "المراسل" - كما قال في سياق سؤاله - أن زيلينسكي رفض؟ هذا هو إصبع الديناميت الذي قرروا زرعه وفي لحظة الزرع كانت ابتسامة السماجة و "الانشكاح" على وجه نائب ترمب، جي دي فانس، أما ترمب نفسه فلم يستطع لاحقًا مقاومة غمزة إعجاب بعينه اليسرى في اتجاه "المراسل".
ربما باستثناء حكاية اللواء دكتور "عبده كفتة"، من الصعب أن تجد أتفه ولا أعيل من هذا، لكنه واحد من أبرز وأبسط الأدلة على مدى الانحدار الذي أصاب البيت الأبيض على مدى الثمانين عامًا الماضية. أثناء الحرب العالمية الثانية كانت أوروبا في حالة حرب وجودية أمام النازية وكان زعيمها آنئذ، ونستون تشرشل، يرتدي ما سماه "بدلة صفارة الإنذار" تضامنًا مع الجبهة الداخلية أمام الغارات الجوية النازية، ما نسميه نحن في مصر "عفريتة"، ولم يكن لدى أي زعيم يلتقي به أي مشكلة، بمن فيهم الرئيس الأمريكي آنئذ، فرانكلين روزفلت، الذي استقبله بهذا الشكل داخل البيت الأبيض.
قد تبدو هذه أشياء صغيرة، ولكن ما أكثر تلك الأشياء الصغيرة التي صنعت التاريخ.
----------------------
بقلم: يسري فودة
نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك