المشهد العبثي في البيت الأبيض أثناء استضافة الرئيس الأوكراني ، يحمل أيضاً درساً هاماً يضاف إلي ما سبق كتابته ، وهو أن أخطاء التعبير التي وقع فيها زيلينسكي نتجت من إصراره علي الحديث بالإنجليزية التي لا يجيدها ، وذلك قد يغتفر في أحاديث جانبية إحتماعية ، ولكنه قد يكون ذا آثار وخيمة علي مائدة تفاوض أو مؤتمر صحفي.
كان يمكن ، بل ويجب التحدث فقط باللغة الأوكرانية ، وانتظار ترجمة ما يقوله الرئيس الأمريكي ، ولا يبادر بالرد ، ففضلا عن أن ذلك يحول دون وقوعه في أخطاء قد تكلف دولته الكثير ، فأنه يعطي لنفسه فرصة كافية للتفكير أثناء عملية الترجمة من كلتا اللغتين .
وذلك هو ما يقع فيه المسؤول عندما يرتجل دون إعداد جيد لما يريده " أن يبدو ارتجالاً " ، لأسباب تتعلق بإقناع الطرف الآخر بسلامة النية ، أو بقدرات المسؤول في السيطرة علي موضوع التفاوض..
ولكن يفضل دائماً تفادي هذه المخاطرة ، والإقتصار علي القراءة المباشرة من المذكرات التي أعدها المتخصصون الذين يعدون ملاحظات تكون مكتوبة وجاهزة لإستخدامها في كل احتمال متوقع بما في ذلك اقتراح المضيف فجأة نخباً مصحوبا بكلمة قصيرة تتطلب رداً مناسباً .
ومن الواضح مما حدث أن المخاطر تتزايد إذا كان المضيف يتمتع بقدر - لا ينكره ويتباهي به - من الوقاحة واستغلال ضعف الضيف ، بإعتباره "صيدا" لإقتناص صفقة ، ولعل من يقرأ الكتب التي كتبها ترامب عن نفسه أو كتبها عنه الآخرين ، تؤكد علي تلك الحقيقة التي كان ينبغي علي زيلنسكي إدراكها لو حاول قراءة بعض هذه الكتب أو قرأ ما أظن أن مساعديه قد اعدوه للتحضير لمثل هذا اللقاء الهام .
ويبقي بعد ذلك موضوع شكلي آخر ، وهو مسألة " الزي " الذي ارتداه زيلينسكي ، فقد يمكن قبوله إذا كان مثلا الزي الشعبي للأوكرانيين ، أو إذا كان زي المحاربين مثل تلك التي كان يرتديها كاسترو وجيفارا ، أو إذا كان اللقاء في كامب ديفيد أو أي منتجع آخر .
ورغم حقيقة أن الرجل سبق له زيارة أمريكا بنفس الزي " الكاجوال " ، وصفقوا وهتفوا له كثيرا ، إلا أنه كان لابد أن يتحلي بقدر من الذكاء كي يدرك أن هذه الزيارة مختلفة ، فقد كان كل ما سبقها يمهد تقريبا لما حدث فيها ، وربما تخفف الرجل علي الاقل من التعرض لإنتقاد بسبب الزي ، لأنه تم تفسيره بأنه استهانة بلقاء علي هذا المستوي " الرفيع " في المكتب البيضاوي .
وأخيراً ، فقد كان من الممكن أن يصر الضيف علي أن تكون كل المحادثات خلف الأبواب المغلقة ، وإذا تم إجباره علي التعرض " فجأة " لحصار إعلامي ، مثلما حدث مع ملك الأردن ، أن يكتفي بالإبتسام والرد بأنه ليس لديه تعليق no comment ، أو الإطالة في الحديث باللغة الأوكرانية في موضوعات لا علاقة لها بالأسئلة ، تتعلق بالعلاقات القوية بين البلدين ، وإن كل شئ سوف يتم مناقشته بصراحة ... إلخ .
لقد أوشك طرالمبو أن يقول :"أنا ربكم الأعلي" ، وهو يتباهي بقدراته علي امتلاك منح الموت أو الحياة ، بينما تمسك زيلنسكي بمواصلة الإستعراض بوصفه ممثلا كوميديا سابقا ، دون أن يفرّق ما بين مسرحه الصغير في كييف ، وهيكل الأصنام في البيت الأبيض ، وزاد الطين بله أنه كان يقرأ نصاً مسرحيأ رديئاً ، ينطق كلماته متلعثماً .
-----------------------
بقلم: معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية الأسبق