يبدو حوار زيلينسكي وترامب مثيرا ومسرحيا وشهيا للاستهلاك الإعلامي، وللأسف يختزل بشكل مخل أكثر من 35 سنة من الصراع على أوكرانيا.
تبدأ مأساة أوكرانيا قبيل تفكك الاتحاد السوفيتي حين كان الرؤساء الأمريكيون حريصون على تحريض أوكرانيا على الإفلات سريعا من تبعية موسكو في عهد جورباتشوف.
لا أوافق مع التوصيف السطحي بأن المتغطي بأمريكا عريان، فسوريا الأسد كانت تتغطى بروسيا أيضا وأصبحت في ليلة واحدة عريانة من كل دعم.
سوريا وأوكرانيا قطعتان على الشطرنج، والشطرنج هو أسوأ تشبيه لقتل الشعوب والأمم، لكنه واقع في صراع الحيتان الكبرى.
الوعود التي أعطيت لروسيا بترجيح كفتها في أوكرانيا حال خروجها من سوريا والسكوت عن الهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط أصبحت أقرب للتحقيق (كما كتبت هنا قبل ثلاثة أشهر).
وبالتالي، فإنه لا روسيا ولا الولايات المتحدة تدعم أي طرف حبا أو كرامة أو مناصرة لأي قضية بقدر ما هي مصالح وحسابات بلا قلب.
كان بوسع أوكرانيا أن تعيش في سلام ونعيم لمدة 35 سنة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، فهي الشقيقة الصغرى المدللة لروسيا، لكن كان عليها أن تبقى دوما تابعة لموسكو وسياساتها.
النخبة التقدمية في أوكرانيا كانت تحلم بالغرب الأوروبي والانفتاح والفكاك من الاستبداد الروسي القديم الذي كان يطبق مفهوم "الأخ الأكبر المتسلط".
الخيارات كانت واضحة كالشمس بين البقاء في أمن وسلام وحياة متوسطة ونظم شبه اشتراكية في كنف موسكو وبين وميض الغرب وإغرائه وإغوائه وألوانه ووعوده البراقة.
زيلينسكي هو الرئيس الوحيد الذي جاء في زمن اللاعودة في الاستقطاب الغربي، كل من سبقوه عاشوا بدرجة أو بأخرى متأرجحين بين روسيا والغرب والاستفادة من الطرفين.
زيلينسكي مع ذلك لم يخلق أزمة أوكرانيا بل ورثها عن الرؤساء السابقين، خضع للتغلغل الغربي ووعود حلف الناتو بدرجة تفوق قدراته على تخيل العواقب والتداعيات الكارثية، فهو قبل شيء ممثل كوميدي محبوب دخل عالم السياسة بالصدفة.
راهن زيلينسكي على الرعب الأوروبي من أن ابتلاع أوكرانيا يعني وصول الجيش الروسي إلى باريس وبرلين وعودة الشبح الأحمر المهدد لأوروبا كاملة، وحصل على دعم غير مسبوق في تاريخ التسليح والمواجهة في شرق أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
دمرت روسيا أوكرانيا وتشتت الشعب الأوكراني وتفرقت أفضل عقوله وخبراته لصالح المجتمع الأوروبي الذي استقبل المهاجرين من الحرب.
كسبت روسيا بوتين المعركة على الجبهة الأوكرانية لكنها خسرت بالطبع وجودها الفعال في الشرق الأوسط بعد الاستهداف الأخير لحزب الله وإيران وسوريا وفلسطين وارتفاع نجم إسرائيل.
زيلينسكي رئيس دولة متوسطة الحجم بالنسبة لنا صغيرة للغاية بالنسبة لمساحة روسيا، يكرر زيلينسكي نفس المشهد الذي حدث قبل قرنين من الزمن في صراع روسيا القيصرية والدولة العثمانية في جبال القوقاز.
في جبال القوقاز كانت هناك إمارات وممالك إسلامية تنتظر الدعم من الدولة العثمانية في حربها للاستقلال عن القبضة الروسية، جاءت الوعود من الباب العالي "أيها المسلمون ..استمروا في القتال وسنرسل لكم المدد" !
تشير بعض الوثائق أن محمد علي كلف إبراهيم باشا بعد طلب الدولة العثمانية بتقديم الدعم للثوار في جبال القوقاز (داغستان والشيشان حاليا) لمقاومة الغزو الروسي ..لكن حسابات الصراع بين مصر والدولة العثمانية والانكفاء في الباب العالي على ملفات أخرى ترك شعب القوقاز جائزة كبرى لروسيا منذ ذلك التاريخ.
أوكرانيا مثلها مثل دول إقليم الشرق الأوسط الذي نعيش فيه، إذ تقع جغرافيا في أقاليم التكسر بين القوى الكبرى، وتحتاج إلى براعة ومهارة ومكر ومراوغة وذكاء طبيعي واصطناعي لمواجهة الأطماع الدولية والعالمية للحيلوية دون إساءة استخدامها ورقة في المصالح الكبرى.
وتحتاج مثل هذه الدول إلى جبهة وطنية واحدة ولحمة وطنية تجمع المتفرق ولا تقسم الناس إلى أقسام طائفية أو عرقية أو جهوية.
إن المشاهد المثيرة في لقاء زيلينسكي وترامب ستبيع جيدا ملايين المشاهدات من أجل التسلية والإبهار، لكنها تخفي مأساة كبيرة في التلاعب بمقدرات الشعوب التي تتحكم فيها مجموعة شريرة من أساليب استعمارية متجددة طورت نفسها منذ آلاف السنين ويذهب ضحيتها الأقل ذكاء، والأكثر غرورا، والأقرب للشقاق والانقسام، والأبعد عن التطور والحداثة، والأقرب نسبا لسياسات القبيلة والعشائرية والمصلحة.
لم يتغير شيء في المصطلح المؤلم "اللعبة الكبرى" الذي ظهر بوضوح في مطلع القرن العشرين، ورغم أن اللعبة ترجمة حرفية لكلمة المباراة أو المبارزة إلا أنها بكل أسف تناسب مفهوم "التلاعب بمصير الأمم والشعوب"
---------------------------
بقلم: د. عاطف معتمد
(نقلا عن صفحة الكاتب على فيس بوك)