تحت عنوان "نحن والغرب.. مشاهدات أربعين عامًا"، استضاف صالون جريدة المشهد العالم- الكاتب، العراقي- الدنماركي، الدكتور سليم العبدلي، في ندوة ثقافية ناقشت علاقة الشرق بالغرب عبر منظور شخصي، وضمت العديد من الشخصيات المعروفة، حيث شارك فيها بالنقاش الكاتب الصحفي د. أشرف راضي والمستشار عبدالغني عجاج نائب رئيس هيئة الاستعلامات السابق والشاعر د. فارس خضر والكاتب د. عبدالكريم الحجراوي والكاتب إبراهيم خالد وأدارها الكاتب محمد الحمامصي.
خلال الندوة قدم الدكتور العبدلي شهادته كشاهد عيان على أربعة عقود قضاها في الغرب، مستعرضًا تحولات العلاقة بين العالمين الشرقي والغربي، وتأثيراتها الثقافية والسياسية والاجتماعية.
جاءت هذه الفعالية لتسلط الضوء على رؤية متعمقة تستند إلى خبرة طويلة، وتفتح باب النقاش حول التفاعل الحضاري بين "نحن" و"الآخر"، ولكنها في الوقت نفسه - وبحسب العبدلي – انطباعات، ومشاهدات، وبالنهاية رؤية لا يمكن عدها كحقيقة وحيدة، أو خطأ لا يغتفر.
بدوره استهل الحمامصي الندوة بتساؤل يدور حول تسيد الحضارة الغربية بشكل يبدو معه بأن تاريخ الفكر الأوروبي بمثابة تاريخ الفكر الإنساني، وتجاهل ما قبلها أو حتى ما يوازيها من شرق أدنى لأوسط، حتى الحضارات القديمة بما فيها الفرعونية، أو حتى الإسلامية.
من جانب آخر ناقش الحمامصي الواقع العربي الذي يخالف أحوال النقاشات الغربية في الوقت الحالي، حيث تدور المناقشات حول نهاية الحضارة الغربية، أو حتى تدهور حالها في أحسن الأحوال، بينما يتمسك الشرقيون بفتات تلك الثقافة ويسعون لتذيلها، دون تفكير.
لماذا الغرب؟
من منا لا ينبهر بالغرب؟ أو حتى يجمع بين الانبهار والازدراء؟ هكذا شرع العبدلي في حديثه خلال الندوة، مفسرا ذهابه إلى ذلك الغرب منذ 40 عاما، وتحديدا كوبنهاجن التي هرب إليها من حقبة صدام حسين في السبعينات حيث اختار استكمال دراسته في الفيزياء، وهو المجال الذي لم يبعده عن حبه للغة العربية، والشعر والكتابة عموما، كما لم تنسيه كوبنهاجن جذوره، ولم يمنحه جواز سفرها إحساس الوطن.
لا ينكر العبدلي انبهاره منذ اللحظة الأولى بأجواء كوبنهاجن خصوصا نظامها المبهر، كذلك الالتزام بالنظافة، والأهم مدينة لا يحمل شرطييها السلاح، حيث تسود روح الإنسانية على أغلب القوانين، فضلا عن تواضع البشر وتخليهم عن العصبية، والقبلية، وحتى الألقاب.
يعترف العبدلي أن نجاحه في إيجاد التوازن اللازم كان طوق نجاته من الانسحاق أمام هذا الانبهار بحضارة "الرجل الأبيض". ذلك التوازن الذي خلقه تمسكه بقضية تحرير العراق من حكم المستبد، إذ كان القمع سببا في تهجير عائلته، ووضع أكثر من 2 مليون مواطن، ما بين التهجير والقتل، والسجن، أما حقيقة دعم تلك البلاد للاستبداد، والقمع فكانت نقطة توازنه التي لم تشعره بالنقص أبدا أمام تلك الشعوب، ولم تعرضه لعنصريتهم.
أما العبدلي، الذي حدثنا عن تواضع الغرب وإنسانيته، فقد عاد ليكشف لنا عن حدود تلك الأخلاق السامية التي لا تتجاوز حدود بلادهم. حيث لا يتوانون عن دعم كل ما يُحقق مصالحهم، سواء كان غثًّا أو سمينًا، إذ تتراجع الأخلاق والإنسانية عندما يتعلق الأمر بمصالحهم الذاتية.
وخلافا للتمسك بقضايا التحرر من الاستبداد كان على المهاجر الجديد بذل كل الجهد لإثبات وجوده كمواطن صالح مفيد للمجتمع الجديد، وذلك بشكل أكبر من المواطن الأبيض العادي، الذي تؤسس علومه، وثقافته لتفوقه بالطبيعة ودون بذل مجهود فقط نتيجة بياض بشرته المربوطة بخلايا مخه، كما روج لها المستعمرون الأول، فذهب إلى البحث وتحصيل العلوم حتى حصل عل الدكتوراه، وأصبح أستاذا جامعيا مرموقا يجوب بلاد القارات الخمس، بشكل جعل من رحلته غنية بالخبرات، والتجارب.
سؤال الهوية
خلال فتح باب المناقشة جادل الحضور حول مسألة الهوية، في ظل الطوفان الغربي، وهو السؤال الذي طرحه دكتور عبد الكريم الحجراوي، حيث يرى فيه سؤالا يراوح مكانه منذ قرنين من الزمان. في الحالة المصرية مثلا دار الجدل حول ماهية تلك الهوية عربية إسلامية أم فرعونية أم حتى إفريقية..
من جانبه رأى العبدلي أن الشعوب وحدها هي القادرة على خلق هويتها، ووضع محدداتها سواء تقاطعت مع الماضي، أو حتى قاطعته، وضرب مثلا على ذلك بالولايات المتحدة التي كانت قبل الحرب العالمية الأولى تعتبر أوروبا النموذج الأمثل للاقتداء به، ولكنهم قرروا لاحقا اختيار العزلة وصناعة الهوية الذاتية.
يعتبر العبدلي أن الاختلاف بين الناس امر ضروري وبديهي حتى أبناء الوطن الواحد يتباينون عرقيا وثقافيا وغيرها من التباينات، ولكن ما يحدد هويتهم الفعلية دستورهم الإنساني، الذي يجمع بين أبناء الوطن الواحد، فالإنسانية هي السبيل للخروج من معضلة الاختلافات الإنسانية.
وحول الهوية الإنسانية قبل كل شيء يعود العبدلي للغرب الذي يرى أن أحد اهم سماته الشخصية هي العنصرية، والتنميط، فضلا عن عدم الثقة بالآخر، رغم كل الدساتير الإنسانية التي سارعوا لوضعها فيما بعد الحرب العالمية الثانية.
يستذكر العبدلي مشرفه على رسالة الدكتوراه في كوبنهاجن الذي قال له بكل وضوح وصلف، هل تعتقد أنك تستطيع مهما فعلت وبذلت أن تتساوى مع طالب علم دنماركي!! فما كان منه إلا الشعور بالغضب ثم التوقف عن الدراسة لمدة ست سنوات، حتى عاد إليها ونجح في الحصول على الدكتوراه، والترقي علميا، حتى أصبح إنجازه الأكاديمي يتجاوز الخمسين بحثا علميا دوليا في مجال الفيزياء.
على الجانب الآخر يعقد العبدلي مقارنته بين الشرق والغرب وتحديدا الصين وثقافتها العريقة، والتي ذهب للتدريس بجامعاتها منذ سنوات، حيث يميل إلى احترام تلك الشعوب، التي لا يرى فيها الصلف أو النفاق الغربي، ويجد أحد ميزاتها الشخصية هي قلة الكلام، وعدم التعبير عن المشاعر، والأهم احترام الآخر، بكل تناقضاته، فالاحترام دائما لكل ما حولنا بما فيها الصخر والمياه، وبالطبع البشر، سمة الشخصية الصينية، التي لا تجعل منها المعتدي على الغير كما هو الحال مع النمط الغربي.
غزة التي أسقطت الأقنعة
لم تغب حرب غزة عن المناقشات أيضا حيث طرح رئيس تحريد "المشهد" مجدي شندي ما كشفت عنه الأحداث الأخيرة، خاصة الحرب على غزة والإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون، عن ازدواجية المعايير الصارخة في الموقف الغربي.
ففي حين سارعت الدول الغربية إلى تقديم الدعم الكامل لأوكرانيا عند الغزو الروسي، ووصفته كقضية دفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، نجد أن موقفها من العدوان الإسرائيلي على غزة يتسم بالصمت المشبوه أو حتى الدعم المباشر، ولكن في الوقت نفسه دعت الحرب تلك الشعوب إلى إعادة التفكير في تلك القيم، وكذلك إيمانها بدستورها الإنساني، ومدى أصالته.
العبدلي من جانبه يرى أن هذا التناقض يظهر أن المبادئ التي تدعيها هذه الدول، مثل حقوق الإنسان والعدالة الدولية، ليست سوى أدوات تُستخدم وفقًا لمصالحها الجيوسياسية. فحياة الإنسان، على ما يبدو، ليست متساوية في نظر الغرب، بل تعتمد على هويته وجنسيته.
كما يرى العبدلي أن العدوان الإسرائيلي على غزة إلى كشف الأقنعة الحقيقية للمجتمع الغربي، الذي يتغنى بحقوق الإنسان ولكن فقط عندما تخدم هذه الحقوق أجندته السياسية. ففي حين تمت معاقبة روسيا بعقوبات اقتصادية وسياسية شديدة بسبب حربها على أوكرانيا، نجد أن إسرائيل، التي ترتكب انتهاكات واضحة لحقوق الإنسان وتقوم بتدمير شامل لغزة، تحظى بدعم سياسي وعسكري من نفس الدول الغربية. هذا التناقض يوضح أن المبادئ الإنسانية التي تدعيها هذه الدول هي مجرد شعارات تتبخر عندما يتعلق الأمر بمصالحها الاستراتيجية أو تحالفاتها السياسية.
اعتبر العبدلي أن الفرق في التعامل بين أوكرانيا وغزة يسلط الضوء على معايير مزدوجة لا يمكن تجاهلها هكذا يوضح العبدلي، فبينما تم تقديم أوكرانيا كرمز للمقاومة والدفاع عن السيادة، تم تصوير غزة وكأنها مسرح لصراع معقد، دون التركيز على معاناة المدنيين الفلسطينيين. الإعلام الغربي، بدلًا من أن يكون صوتًا للحقيقة، تحول إلى أداة لتبرير العدوان الإسرائيلي، مما يعكس تحيزًا واضحًا. هذا التناقض ليس فقط أخلاقيًا، بل هو أيضًا سياسي، حيث يكشف أن القيم التي تدعيها الدول الغربية هي مجرد أدوات لتبرير هيمنتها وحماية مصالحها، وليست مبادئ حقيقية تُطبق على الجميع.
ولكن العبدلي لم يغفل تأثير "طوفان الأقصى" على القضية الفلسطينية ذاتها التي يؤكد أن الشعب الفلسطيني لم يكن في حساباتها قبل 7 أكتوبر، بل كان الأمر يقتصر على الإسرائيليين كطرف وحيد في القضية.
تلك الحسابات غيرتها الحرب تماما من وجهة نظر العبدلي، حيث أصبح الحديث عن حل الدولتين هو المخرج الوحيد لأي سياسي في أوروبا الآن، حتى ألمانيا التي أظهرت كل الدعم للكيان الإسرائيلي خلال الحرب، فالاحتفاظ بالمنصب يعني الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما لم يكن يحدث لولا "الطوفان".
للمفارقة، تتساءل الشعوب الغربية، التي بدأت تراجع أفكارها حول حكوماتها ودساتيرها المزعومة بالإنسانية، عن غياب الموقف العربي الواضح، خاصة على الصعيد السياسي، تجاه الحرب الدائرة في غزة. كما تتساءل عن الخطط المستقبلية للدول العربية، لا سيما في ظل التطورات الأخيرة المتعلقة باقتراح ترامب.
من جهة أخرى، يرى العبدلي أن الفارق بين أوروبا والولايات المتحدة، حتى على المستوى الثقافي الشعبي، هو فارق شاسع. هذا الفارق يجعل الشعوب الأوروبية اليوم في حالة غليان واضحة، يصعب معها التنبؤ بمآلاتها أو نتائجها المستقبلية. هذه الحالة تعكس تناقضات عميقة داخل المجتمعات الغربية، وتُظهر مدى التباين في الرؤى والمواقف بين ضفتي الأطلسي.
وطرح الدكتور أشرف راضي فكرة فتح ملف "نحن والغرب" حتى يعين النخب السياسية والثفافية على استيعاب المفاتيح التي تحكم العقل العربي ، مع دعوة كبار الكتاب المصريين والعرب للإسهام فيه على صفحات المشهد، على أن يتم جمعه لاحقا في كتاب.
جدير بالذكر أن الشاعر والعالم العراقي سليم العبدلي قدم ثلاث مجموعات شعرية "الأمكنة مقابر الوقت"، و"من رائحة الفراق"، و"همس المرآة.. أسرار الجسد" الصادر عن دار ابن رشد في القاهرة، وجميعها مجموعات ينشغل صانعها بقضايا وجودية، فهي أقرب للفلسفة في صيغة شعرية، وهو ما يشرحه العبدلي بنفسه حينما قال إن حتى تخصصه العلمي في الفيزياء ما هو إلا علم يخص فلسفة الطبيعة، وهو المصطلح الذي كان يطلق على علوم الفيزياء أو علوم الطبيعة.
تنقل العبدلي بحكم عمله بين بلدان عديدة، وتعايش مع حضارات وثقافات شتى ويقول في احد حوارته الصحفية، وما نختم به حديثنا عن العبدلي وإليه:
"عشت في كثير من البلدان، وطالت فترة بقائي في بعض منها وقصرت في البعض الآخر، فقد عشت في بلدان عديدة في أوروبا، وفي ولايات متعددة من أميركا، في الشرق الأوسط وفي الشرق الأقصى ووصلت حتى إلى استراليا المنفية.
وهناك حقيقة أود أن أطلعك عليها، ألا وهي أني ومنذ مغادرتي بغداد لم أكن سائحا يوما، والمدن التي كتبت عنها عشت حقا فيها، فقد اختلطت بأهلها وعملت فيها، والأهم درست تاريخها وتاريخ أهلها وثقافاتها، ولذا تركت كل منها شيئا في ذاتي، اتنقل به من مدينة إلى أخرى، وامتدت معرفتي بهذه المدن لتغطي فترات مختلفة من حياتي، وفي كل مرة أعود اليها، أعود بوعي جديد ومعرفة جديدة عن المدينة نفسها وعن المدن الأخرى، حتى تسنى لهذه المدائن التأثير في الوجدان، تأثيرا يفرض نفسه في الكتابة".
----------------------------------------
تقرير: أسماء زيدان