توقفت حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل بمساندة أمريكية على قطاع غزة منذ قرابة العام و النصف، بشكل لا نعرف إذا كان مؤقتا أم دائما، و ذلك بموجب اتفاقية تم إبرامها 15 يناير الماضي و دخلت حيز التنفيذ يوم 19 من نفس الشهر بين حركة حماس و دولة الاحتلال الإسرائيلي بوساطة مصرية قطرية و رعاية أمريكية منحازة بشكل تام إلى إسرائيل.. لهذا لا يمكن التأكد من أن تلك الاتفاقية سوف تكتمل حى اللحظة، إلا بموقف عربي موحد و قوي نتمنى رؤيته في القمة الطارئة المزمع عقدها في القاهرة 4 مارس القادم، خاصة بعد تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حول خطته لتهجير الفلسطينيين.
بدأت هذه الحرب في اليوم التالي لعملية 7 أكتوبر التي قامت بها حماس ضد إسرائيل، في حدث غير مسبوق حيث استطاع حولي 2500 مقاتل من عناصر كتائب القسام دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة التي يقيم عليها الكيان الإسرائيلي دولته، والسيطرة على عدة مستوطنات ومناطق عسكرية إسرائيلية، و أسر مالا يقل عن 251 رهينة من الجنود و المدنيين، ومقتل المئات، مما أصاب الاحتلال بالجنون لما تلقاه من صفعة لا يمكن نسيانها مهما فعل، خاصة أنها موثقة بالصور التي يظهر فيها جنوده في منتهى الجبن و الضعف و الرعب أيضا، و هم في ثكناتهم العسكرية التي اقتحمها عناصر القسام عليهم و أسرهم من داخلها و اغتنام أسلحتهم.
منذ ذلك الحين و هناك بعض الأصوات التي تدين المقاومة و تتهمها بأن هي من تسببت في اندلاع هذه الحرب المدمرة و أنها أخطأت التقدير، و لم تخرج بفائدة تذكر.
و الحقيقة أن مثل هذا الحديث يعد سذاجة واضحة في أفضل الظنون، كونه يخدم العدو في المقام الأول و ينقل وجهة نظره بشكل تام، و التي تعتمد على التشوية الدائم للمقاومة و تحميلها كل المسئولية، كما لو أنه لا يوجد احتلال لأرض فلسطين يمارس أبشع الجرائم و يقتل ويعتقل الآلاف من الشباب و النساء و الأطفال و الشيوخ منذ أكثر من سبعين عاما، بالإضافة إلى حصار خانق لقطاع غزة كان ينقصه أن يمنع عنه الهواء و ذلك منذ 17 عاما، أو ربما من يرون أن المقاومة ارتكبت خطأ لا يريدونها من الأساس، و هكذا يتم التعايش مع فكرة الاحتلال و انتهى الأمر.. و لكن حتى إذا انبطح الجميع و قبل ذلك الهوان فإن العدو لن يقف عند هذا الحد، و إنما سينتقل إلى مرحلة أخرى بعدما ينهي الوجود الفلسطيني تماما على الأرض، وذلك أمر معلوم وليس سرا ولا يخفيه حتى كثيرين من قادة دولة الاحتلال و ساسته عندما يتحدثون عبر إعلامهم عن دولة إسرائيل الكبرى.
لا شك أن الثمن الذي تم دفعه في غزة باهظ جدا حيث مقتل و إصابة عشرات الآلاف، و تدمير كامل بشكل غير مسبوق في التاريخ للقطاع، و معاناة معيشية غير عادية لقرابة 2 مليون إنسان.. و لكن السؤال هنا، هل تتحمل المقاومة ذلك؟ أم أن هناك تواطؤ دولي حدث و صمت عربي مخجل و أصوات في الداخل الفلسطيني نفسه كانت بمثابة الخنجر في ظهر المقاومة، مما جعل الساحة ممهدة للعدو يفعل ما يشاء على مدار 476 يوما ولم يوقفه في النهاية سوى صمود المقاومة التي كبدته خسائر لم يرها من قبل في جنوده و عتاده، و كذلك كان الاحتلال مرغما على عقد اتفاقية وقف إطلاق النار من أجل الحصول على أسراه، حيث كان ذلك أهم أهداف حربه بالإضافة إلى محو حركة حماس من الوجود، و هو الأمر الذي لم يحدث مما يجعله مهزوما في معركته رغم كل إجرامه و تدميره.
أما عن مكاسب 7 أكتوبر فهي كثيرة و لا يتسع المجال لذكرها تفصيلا في مقال واحد حتى لا أطيل، و لكن أهمها إحياء القضية الفلسطينية - بعدما كانت شبه ميتة فعليا و بدأت تذهب في طي النسيان - وتصدرها للمشهد العالمي، و فضح دولة الاحتلال أمام الشعوب الحرة حيث كانت هناك أجيال لا تعرف شيئا عن إجرام ذلك الكيان أو حتى تاريخه، و أنه لقيط يعيش على أرض ليست له و إنما اغتصبها بمعاونة الغرب و على رأسه بريطانيا آنذاك.
و ذلك ليس بالأمر الهين لمن يعي أن تصفية قضية فلسطين إذا ما حدث كما كان مخططا له قبل 7 أكتوبر سيكون بداية انتقال العدو إلى الجزء التالي من خطته التوسعية التي لا تترك أرضا عربية من المحيط إلى الخليج، و ليس حتى من النيل إلى الفرات كما كنا نظن، وذلك لأن طموح هذا الاحتلال لا يتوقف خاصة عندما يجد المناخ مهيأ، و بكل وضوح هو ما كان قد تم قبل تلقيه الصفعة المزلزلة بيد المقاومة الفلسطينية، و التي أربكته من الداخل بشكل غير مسبوق و أحدثت شرخا كبيرا داخل المجتمع الإسرائيلي وحالة غير مسبوقة من انعدام الثقة بين الجميع وسيظل تأثيرها على هذا الكيان المحتل حتى زواله، إذا ما استوعب العرب الدرس و توحدوا و أخلصوا النوايا و نبذوا كل أشكال الفرقة بينهم والتي لا تصب إلا في مصلحة عدوهم.
----------------------------
بقلم: السعيد حمدي