إذا كان الاقتصاد هو عصب الحياة لأي دولة، فإن التحكم في الأسعار هو ميزان العدالة الذي يحدد استقرار المجتمع. ولكن عندما تصبح الأسواق رهينة لاحتكار قلة من التجار والصناع، وعندما تتضاعف أرباحهم في سنوات قليلة بينما تغرق الطبقات المتوسطة والفقيرة في مستنقع الغلاء، فلابد أن نتساءل: هل الدولة مستفيدة حقًا من الضرائب التي تفرضها على هؤلاء التجار بما يعوض ما يفقده الشعب من قدرته الشرائية؟ أم أن هناك منظومة متكاملة تعمل لصالح القلة على حساب الأغلبية؟
أسعار خارج المنطق في بلد يعاني الفقر
من غير المعقول أن يصل سعر شقة في مصر إلى 12 مليون جنيه في بلد تتجاوز فيه نسبة الفقر 48% وفق الإحصاءات الرسمية، أو أن يصبح شراء الثلاجة أو الهاتف المحمول رفاهية تتجاوز 100 ألف جنيه. كيف يمكن لمواطن يعاني من ضعف الدخل أن يؤسس بيتًا جديدًا إذا كان أقل تجهيز له يكلف نصف مليون جنيه؟
هل المشكلة في قيمة الجمارك؟ أم في غياب الرقابة على هوامش الأرباح؟ أم أن الأزمة أكبر من ذلك، حيث تحولت السوق إلى ساحة مفتوحة للمضاربة، يتحكم فيها كبار الصناع والتجار دون أي التزام بمعايير السوق العادلة؟
لماذا ترتفع الأسعار بسرعة ولا تنخفض؟
هناك قاعدة غير مكتوبة في الاقتصاد المصري: عندما يرتفع سعر الدولار، تقفز أسعار السلع جميعها، حتى السلع المنتجة محليًا والتي لا تعتمد على الاستيراد ! لكن عندما ينخفض الدولار، لا تتحرك الأسعار إلا نادرًا، وكأن هناك اتفاقًا غير معلن على أن التراجع غير مسموح به.
انظر مثلًا إلى سعر الطماطم، الذي قد يرتفع بعشرة جنيهات مع أي تقلب في سعر الصرف، لكنه لا ينخفض بنفس السرعة عندما يتحسن الوضع. أما البيض، فالمفارقة تكمن في أن استيراده من تركيا وصل بسعر 150 جنيهًا للكرتونة، في حين أن المنتج المحلي كان يباع بـ195 جنيهًا، رغم أن الفارق في الجودة والمعالجة الصحية واضح للعيان.
الاحتكار المغلف بحماية الصناعة المحلية
في كثير من الأحيان، تُستخدم حجة "حماية الصناعة المحلية" كذريعة لفرض ضرائب وجمارك مرتفعة على السلع المستوردة، ولكن هل حقًا يتم توجيه هذه السياسة لدعم المواطن؟ الحقيقة أن الأسعار في مصر قد تكون أعلى بكثير من نظيراتها في دول مثل الهند أو الصين أو حتى الأردن، رغم أن تكاليف الإنتاج في مصر ليست بالضرورة أعلى.
على سبيل المثال، إذا كانت الثلاجة تُباع في الأردن بحوالي 15 ألف جنيه (300 دولار)، فلماذا تباع في مصر بـ30 ألف جنيه، رغم أنها تُصنع محليًا؟ الفارق هنا لا يذهب لصالح الاقتصاد الوطني أو حتى الخزانة العامة، بل يذهب إلى أرباح مضاعفة للمصنعين المحليين الذين استغلوا الحماية الجمركية لتحقيق مكاسب هائلة دون أي التزام بتوفير المنتج بسعر عادل.
الدائرة الجهنمية للجمارك: من يدفع الثمن؟
كل جنيه يضاف داخل الدائرة الجهنمية، أقصد الدائرة الجمركية، يكتوي به المواطن. فقيام المثمنين بالجمارك برفع قيمة الفواتير دون ضوابط قانونية، وطبقًا للهوى، وتحميلها بالغرامات التي يتم تحصيل نسبة منها، هو عبء إضافي يُلقى على عاتق المستهلك النهائي. كل جنيه تفرضه الجهات الحكومية دون رقابة ودون قانون يكتوي بناره المواطن. هذه الزيادات غير المبررة في التكلفة لا تؤثر فقط على أسعار السلع، بل تؤدي إلى تدهور حياة الناس، مما ينتج عنه الغليان، والكراهية، والفقر، وانعدام الأمن. ولا أظن أن الدولة في هذا الوقت تحتاج إلى حماية مجموعة من أصحاب المصالح أكثر من احتياجها للشعب.
دور الدولة في ضبط السوق
يبدو أن الدولة قد تعاملت بقبضة من حديد مع بعض القطاعات، كما حدث مع منتجي الكتاكيت والبيض، حيث فرضت عليهم استيراد البيض عندما تجاوزت الأسعار الحد المقبول. لكن لماذا لا تُطبَّق نفس الإجراءات مع باقي القطاعات التي تستنزف جيوب المواطنين؟ لماذا لا تتدخل الدولة لحماية المواطن من جشع التجار كما تحمي الصناع والمستثمرين من المنافسة الخارجية؟
الإصلاح المطلوب: تحرير السوق من قبضة الكارتيلات
إذا كانت الدولة جادة في حماية المواطن، فعليها اتخاذ خطوات جذرية، منها:
*. إعادة هيكلة الغرف التجارية بحيث لا يكون التجار وأصحاب المصانع هم المتحكمون في الأسعار والسياسات الاقتصادية.
*. تحديد هوامش أرباح عادلة للمنتجات الأساسية، وربط التسعير بتكلفة الإنتاج الفعلية وليس بالمضاربة.
*. مراقبة الأسواق بآليات صارمة تمنع الاحتكار وترصد ارتفاع الأسعار غير المبرر.
*. إعادة تسعير الجمارك والضرائب بما يتماشى مع الواقع الفعلي للأسعار العالمية، وليس بناءً على تقديرات غير منطقية تزيد من أعباء المستورد والمستهلك على حد سواء.
*. تشجيع المنافسة العادلة عبر تسهيل الاستيراد في القطاعات التي يعاني فيها السوق المحلي من ارتفاع غير منطقي في الأسعار، مع وضع ضوابط تضمن عدم تضرر الصناعة الوطنية.
الخاتمة: حماية المستهلك قبل حماية الصناعة
في النهاية، لا يمكن الحديث عن دعم الصناعة الوطنية إذا كان ذلك يتم على حساب المواطن. فالاقتصاد ليس مجرد أرقام ونسب نمو، بل هو قدرة المواطن على العيش بكرامة. وإذا استمر الوضع الحالي دون تدخل حقيقي من الدولة، فإن الفجوة بين الأغنياء والفقراء ستزداد اتساعًا، وسنجد أنفسنا أمام مجتمع يعاني من أزمات اجتماعية واقتصادية لا يمكن احتواؤها بسهولة.
إن إعادة ضبط الأسواق ليست رفاهية، بل ضرورة ملحة لإنقاذ الطبقة المتوسطة من الانهيار، ولحماية الفقراء من الوقوع في براثن العوز الكامل. فهل تتحرك الدولة قبل فوات الأوان؟
-------------------
بقلم: عز الدين الهواري