كنت كلما سمعت أنين تكاليف المقبلين على الزواج تذكرت صباح وأغنيتها "عالبساطة" في فيلم (أهلا بالحب) مع فريد شوقي، إلى أن قرأت تعليقًا للأستاذ أنيس منصور (1924-2011).
(ما بدي قصور ولا جاه/ بس بدي عاشق إهواه.. يعيشني بأوضه صغيرة/ ما فيها غير حصيرة).متواضعة الست صباح، وكما يقول المثل (نشتري راجل).
(يغديني جبنة وزيتون/ ويعشيني بطاطا). اكتفت المسكينة بوجبتين وثلاثة أصناف، فلربما يكون عند بسلامته نظر ويشترى أجود الأنواع؛ زيتون كلاماتا اليوناني بلونه الأرجواني وحبته الطويلة، فإن لم يستطع فعليه بالمحلي، وياحبذا لو التفاح كبير الحجم الـمُشرب بحمرة خدود الجميلات، اللواتي يصبحن بلون الطماطم من نظرة، فهو الأنسب للتخليل، فإن رغب في الزيت فعليه بالحامض.
ولتخليل الزيتون عدة طرق، منها ما يُخزن من العام للعام، وقد كانت أمي - رحمها الله - بارعة في تخليله، ورثت طريقة أمها، وعلمتها لأختي، يستوي فيها الزيتون خلال أسبوع واحد، ويُطلق عليه (المفدغ)، حيث تُغسل حبات الزيتون التفاحي وتُفدغ بالدق عليها بيد الهون النحاس، فيتفسخ لحمه ثم يوضع في برطمان زجاجي وتضيف إليه الماء المملح مع قطع قرون الفلفل والبهارات، ثم ملعقتي زيت تطفوان على السطح لعزل الهواء، مع غلق البرطمان بإحكام، ولن تتخيل مدى جمال طعمه إلا إن كنت قد تذوقته.
وكانت تعرف مستوى تشبع الماء بالملح بوضع بيضة صحيحة فيه، وتستمر في إضافة الملح وتقليبه حتى تطفو على السطح، عندها تصبه في برطمان الزيتون.
أيضًا، لم تحدد الشحرورة نوع الجبنة، فكما نقول "كله شغال"؛ من القريش الذي تجاوز سعره المائة جنيه إلى الكشكفالو الأولد أمستردام، حيث الدفع بالفيزا.
كان صاحبنا في زيارة عمل لإحدى الشركات الدنماركية، وحان وقت الاستراحة فقدموا أطباق ساندويتشات، وهنا اجتهد صاحبنا ومرافقوه في مداراة امتعاضهم، ووضع البعض أكفهم على أنوفهم للتخفيف من أثر رائحة كريهة مجهولة المصدر، وهنا ابتسم مُضيفنا وأوضح أنها تعود لأفخر أنواع الجبن الدنماركي المشهور برائحته هذه، وأنها دليل حفاوة بالضيوف، فتذكر صاحبنا الفسيخ ورائحته واختلاف وجهات النظر فيه، وابتسم هو ومرافقوه، ومدوا أيديهم إلى ما أمامهم من شطائر متجنبين ذلك الجبن الفاخر، فلا فاخر إلا ما أحببت.
ولن أحدثك يا سيدي عن البطاطا التي كانت صباح تحبها، وأصنافها المتنوعة، ولكن عليك أن تنتبه أنها تقصد (البطاطس) في العامية المصرية، وهنا حدث ولا حرج عن طرق إعدادها؛ البوريه لمن يتجنب الزيوت، والمطهية وأشهرها المحمر المعروف في الإنجليزية بـFrench fries نسبة إلى فرنسا، بينما تؤكد بلجيكا أحقيتها بالملكية الفكرية.
أصبحت French fries صناعة عالمية وماركة مسجلة، تمامًا كما تطلب في أي مقاهي في العالم Café au lait، فيعود لك النادل بفنجان قهوة باللبن تتناوله مع الكرواسون الساخن، ليمنحك جرعة تفاؤل تستقبل بها يوم عمل شاق، نكاية في الذوق الإيطالي، ويعني إيه شربت صوفيا لورين القهوة الإسبريسو العلقم مع شريحة فطير تفاح في فيلم، فقلدوها وكأن الأيام ناقصة مر، ولا يغيظك إلا أن يطلب الواقف إلى جوارك Espressodouble shots، ليجعل المر مرين، كأن الدنيا خلت مما عداها من مشروبات، فتنظر له بنصف عين، وتدعي لعل الله يتوب عليه ويعرف إن الدنيا فيها مشروبات أخرى.
المهم يا سادة أن أنيس منصور اغتاظ من الصبوحة بعد ما غنت "عالبساطة" في حفل زينت فيه جيدها بعقد من اللؤلؤ فاق ثمنه وقتها العشرة آلاف جنيه - ما يعادل ملايين الجنيهات اليوم - وكان قبلها قد مدح بساطتها، حتى لتظنه يتحدث عن المهاتما غاندي، فشعر أنه انضحك عليه، فكتب مُقرًا بغفلته وراح يهجو صباح.
-------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]