دوما وأبدا ما نشكو حالنا الذي وصلنا إليه، ونصب جم غضبنا على زماننا ونكيل له الاتهامات جملة وتفصيلا، ونترحم على أيام زمان، ودوما ما نصفه بالزمن الجميل في كل المجالات ، فى التعليم ، في الفن بكل أنواعه ، في الثقافة ، والفكر نقول حتّى مفكر من طراز فريد من الزمن الجميل ، شاعر ذكرنا في أشعاره بالزمن الجميل زمن رامي وشوقي بك وغيرهما من شعراء العرب أرباب الشعر المقفي الذي يأخذك إلى عالم آخر تحلق فيه سابحا بخيالك في أدبيات وجماليات لا تجدها اليوم إلا قليلا.
كذلك الأمر عندما تشاهد مسلسلا تليفزيونيا أو حتى فيلم لا تجد له قصة ولا رواية ، لا طعم ولا لون ولا رائحة اللهم إلا اسفاف وتدن وإباحية وشرعنة للشذوذ والجنس وغيرها من الموبقات ، المهم الإيرادات وكم سيجني من أرباح ، بئست الأرباح هذه ، فعلى الفور تغلق الشاشة وتترحم على زمن الفن الهادف الجميل الذي يجسد قصص بطولات الرجال ، ما أحوجنا الآن إلى رجال بمعني الكلمة لا ذكور حتى لا تستطيع أن تميزهم عن النساء بملابسهم الخليعة ، بقصات شعرهم بسلاسل يطوقون بها أعناقهم ، حتى في مشيتهم لا تفرقهم عن البنات ، أي صنف من الرجال هذا ، لا نقول رجال وإنما ذكور ، نوعهم ذكر وقد يكون خلاف ذلك ، هل أمثال هؤلاء تنهض بهم الأمة؟ لا والله ، الأمة تحتاج إلى قادة أبطال كأبطال بدر وأحد واليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت، كأبطال أكتوبر الفاتحين المنتصرين ، كأبطال غزة المقاومين ، هؤلاء الذين تمت تربيتهم على الرجولة وحب الأوطان ورضعوا لبن الجهاد.
حتى في البطولات الرياضية عندما تجلس لمشاهدة أي رياضة من الرياضات وترى ضعف الأداء وسوءه تترحم على أيام الكبار وتقول الله يرحم أيام لاعبي الزمن الجميل الذي كان فيه حب حقيقي للرياضة لا مثلما يحدث الآن اتخاذها سلعة ، سبوبة للتربح بالملايين ، لا يهم يخسر الوطن بطولة ولا مسابقة ، المهم نجنى الأرباح إلا ما رحم ربي ، فلا يمكن أن نصدر الأحكام على عواهنها ونطلقها إطلاقا.
حتى فى الإعلام ، عندما نشاهد الآن البرامج التليفزيونية والإذاعية ونرى ونسمع ركاكة أسلوب المذيعين والمذيعات إلا ما رحم ربي ، وسوء لغتهم ، وفقدانهم أدوات الحوار الجيد والاهتمام الفج بالشكل والصورة والمضمون أجوف فارغ ، نقول الله يرحم زمن البرامج زمان الهادفة آلتي تعالج قضايا مجتمعية تخص الأسرة المصرية ، حتّى في برامج المسابقات والفوازير ، تسمع وتشاهد مستوى خصب يجعلك تعمل عقلك وتفكر تفكيرا منظما.
كذلك الأمر فى السياسة ، تشاهد الآن نوابا لا يستطيعون حتى أن يتكلموا وإن تحدثوا ونحن نسمعهم نقول ليتهم يصمتون ، صمتوا دهرا ونطقوا جهلا وحمقا ، لا هم لهم إلا الحفاظ على العضوية ، والحفاظ على الكارت السحري بداخل محافظهم الكارت الذي يفتح لهم الأبواب المغلقة التي يجنون من وراءها الأموال الطائلة ، (ادفع تمر ، ادفع تحصل على البركة ، على التأشيرة)، تشاهدهم تترحم وتقول الله يرحم برلمانات زمان ، برلمانات فؤاد سراج الدين ، وممتاز نصار وغيرهما ، ساسة من طراز فريد.
حتى إذا ما وصلنا للثقافة فحدث ولا حرج ، ثقافة التيك أوي ، ثقافة اللقطة وعيش اللحظة ، ثقافة أضحك بجوار ما يسمى كتابا حتى تطلع الصورة حلوة ، ثقافة المأكولات والمشروبات الغازية وسندوتشات البرجر (وانتش وأجري) ، وإذا ما قام أحد بتوجيه نقد بناء ، تجد الأبواق تصيح وتصرخ في وجهه ،اسكت يا عدو الثقافة ، اخرجوه من هنا يريد أن يفسد علينا نادينا المتلأليء بالمثقفات والمثقفين (فيلم ثقافي)، أخرجوهم من أنديتنا إنهم ليسوا منا ، إنهم أناس يتطهرون.
يجعلك تصاب بالغثيان وتصرخ فيه وجوههم الملطخة بالمثقفة ، أين زمان وثقافة زمان ، يرحم زمان وثقافة زمان وقصور ثقافة ومسارح زمان ومنتديات زمان وحلاوة مؤتمرات زمان وفعاليات زمان.
أما التعليم في كل مراحله ملهاة ومهزلة فوضوية عبثية تشعر أنك في مولد وصاحبه ليس غائبا وإنما مغيب ، حال المعلم مرثاة ، حال الطالب مأساة ، حال الكتاب حشو في حشو ، حال أولياء الأمور أنهكتهم الدروس الخصوصية والجامعات الخاصة والملازم المرغمين على شرائها قسرا وجبرا.
لا طالب يريد أن يتعلم ، لا أستاذ يريد أن يشرح دروسه بما يرضي الله، وعندما تنصح ، الجواب على الفور حاضر على الشفاه (على أد فلوسهم)، الطالب في واد والمعلم في واد آخر سرحان في همومه وكيف يتم الشهر براتبه الهزيل ، قيم خلقية تدنت ، الطالب لا مبال بمحاضرة أو درس ، يدخن السجائر أمام أستاذه ، يتهكم ويسخر من معلمه ، يتفنن فى ابتكار وسائل الغش ، يمر عام تلو عام تلو عام آخر ، تنتهي حياته الدراسية ، تسأله ماذا اكتسبت ، ماذا تعلمت ، لا يفقه شيئا ، لا يعلم شيئا.
كل هذه الملهاة العبثية ، التراجيديا الباكية تجعلنا نأسى على ماض تولى ، تجعلنا نصرخ بأعلى أصواتنا ، يا ليت زماننا الجميل يعود ، لكن هل سيعود حقا أم هي أمنيات نتمناها.؟!
أقولها بأعلى صوتي ، الزمان لن يعود ، والأيام تنقضي ودورة حياتنا ستنتهي ، لكن نحن من بيدهم صنع زمان وإيجاد زمان تتحقق فيه الأمنيات لا بالكلام، بل بتذكر زماننا الجميل وجعله أمامنا باستمرار ولنقول لأنفسنا: لماذا هموا كانوا هكذا ولماذا صرنا نحن هكذا ، أليس من الممكن أن نكون مثلهم ، القضية ليست صعبة ومن الممكن كسبها ، لكن كيف ، فليفتش كل واحد منا في ذاته عن هذا الكيف.؟!
دائما وأبدا لأ أعمم الأحكام ،ولا أصدرها على عواهنها فلكل قاعدة شواذ ، لذا دائما وأبدا أقول إلا ما رحم ربي، حتى لا يتهمنا أحد بأن نظرتنا تشاؤمية أو سوداوية ، لا وإنما هو واقع نعيشه ونحياه ، نريد أن نرتقي به فبرقيه نرقى وبعلوه نعلو، وبسموه نسمو ، وبصفوه نصفو ، وبجماله نحلو وتتحقق سعادتنا المرجوة.
-------------------------
بقلم: د. عادل القليعي
*أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان