عندما تنخفض أسعار الطماطم في الأسواق المصرية إلى مستويات متدنية تصل بالكاد إلى جنيهين أو ثلاثة، لا يلتفت أحد إلى صرخة الفلاح الذي أفنى حياته في الأرض. يمر الخبر مرور الكرام في وسائل الإعلام، ويكتفي المسؤولون بتصريحات مكررة عن زيادة المعروض وقوانين العرض والطلب، بينما الحقيقة أعمق وأشد مرارة. ما يحدث ليس مجرد انخفاض عابر، بل هو انعكاس مباشر لعشوائية الإدارة الزراعية في مصر، وتجاهل صوت الفلاح، وغياب التخطيط الاستراتيجي للزراعة التي كانت يومًا شريان حياة الأمة.
الطماطم ليست مجرد محصول زراعي، بل مرآة تعكس التخبط الذي يعيشه القطاع الزراعي منذ عقود. الفلاح يُترك وحده في مواجهة الأزمات، يتخبط في قراراته بناءً على ما يراه من ارتفاعات مؤقتة في الأسعار، وحين يقرر زراعة الطماطم يجد نفسه أمام كارثة الفائض، فينخفض السعر إلى حد يدفعه لإلقاء محصوله في الترع بدلاً من بيعه بخسارة تزيده ديونًا فوق ديونه. أين الدولة من كل هذا؟ أين دورها في حماية هذا الفلاح الذي لولاه لما وجدنا طعامًا على موائدنا؟
الحقيقة أن ما يحدث اليوم هو نتيجة مباشرة لغياب التخطيط الزراعي وعدم وجود رؤية واضحة للسياسة الزراعية في مصر. الزراعة ليست تجربة فردية أو مشروعًا صغيرًا يدار بالمصادفة، بل هي منظومة أمن قومي تحتاج إلى تخطيط دقيق، يبدأ من دراسة احتياجات السوق المحلي والدولي، ويمر بتهيئة البنية التحتية اللازمة لتخزين وتصنيع الفائض، وينتهي بفتح أسواق خارجية تضمن تسويق المنتجات بأسعار عادلة.
ما الذي دفع أسعار الطماطم إلى الانهيار؟ أولًا، اندفاع الفلاحين لزراعة الطماطم بعد الارتفاع الكبير في أسعارها بالمواسم السابقة، دون أي إرشاد أو توجيه من الجهات المعنية. الفلاح ليس خبيرًا اقتصاديًا، ولا يحمل بين يديه خرائط الأسواق أو توقعات الطلب، بل يعتمد على تجربته الشخصية وملاحظاته التي باتت تخذله عامًا بعد عام.
ثانيًا، غياب المصانع التحويلية التي تستوعب الفائض. كم مرة طالبنا بإنشاء مصانع لتصنيع الطماطم وتحويلها إلى صلصة أو معجون أو منتجات قابلة للتصدير؟ لكن يبدو أن آذان المسؤولين صماء أمام صوت الفلاحين. الفائض يذهب إلى القمامة، بينما نستورد صلصة الطماطم من الخارج. أليس هذا عبثًا؟ أليس من العار أن تكون مصر، التي كانت سلة غذاء المنطقة، عاجزة عن إدارة محصول بسيط مثل الطماطم؟
ثالثًا، انهيار منظومة الإرشاد الزراعي. أين المرشدون الزراعيون الذين كان الفلاح يجدهم في كل قرية ليشرحوا له متى يزرع ومتى يقلل المساحات؟ اليوم أصبح الإرشاد الزراعي مجرد وظيفة بلا مضمون، بينما تُترك القرارات بيد سماسرة السوق الذين يوجهون الفلاحين إلى زراعة هذا المحصول أو ذاك وفقًا لمصالحهم، وليس وفقًا لاحتياجات السوق.
رابعًا، غياب الرقابة على الأسواق. الطماطم تُباع في الحقول ببضعة قروش، لكن في المدن تصل إلى عشرة جنيهات وأكثر. الفارق يذهب إلى جيوب التجار والسماسرة، بينما الفلاح يتجرع الخسارة. من المسؤول عن هذه الفجوة؟ أين الرقابة الحكومية على سلاسل التوزيع؟ ولماذا يُترك الفلاح ليُنهب أمام عيني الدولة دون أن يتحرك أحد؟
النتيجة واضحة: خسائر فادحة للفلاحين الذين لم يتمكنوا حتى من استرداد تكاليف الزراعة. التقاوي والأسمدة والمبيدات ارتفعت أسعارها بشكل جنوني بسبب تعويم الجنيه وارتفاع تكلفة الاستيراد، بينما يباع المحصول بأسعار متدنية لا تعكس الجهد والمال والعرق الذي بُذل في زراعته. الفلاح اليوم يقف على حافة الإفلاس، وقد يضطر إلى هجر الأرض التي توارثها عن أجداده، بحثًا عن أي عمل آخر يقيه مذلة الديون.
الأمر لا يتوقف عند الطماطم وحدها. نفس السيناريو يتكرر مع البطاطس والبصل والقمح والذرة. دولة بلا سياسة زراعية واضحة تفتح أبوابها للواردات دون وعي، وتترك الفلاح المحلي ينزف، ثم تتساءل بعد ذلك عن أسباب تفاقم أزمات الأمن الغذائي.
إنني، كمواطن مصري وقيادي عمالي مستقل، أحذر من استمرار هذا النزيف. إذا استمرت الدولة في تجاهل هذا القطاع الحيوي، فلن نجد قريبًا من يزرع الأرض. نحن بحاجة إلى قرارات شجاعة تتضمن:
1. إنشاء مصانع تحويلية في كل محافظة زراعية لاستيعاب الفوائض وتحويلها إلى منتجات قابلة للتصدير.
2. إعادة تفعيل الإرشاد الزراعي بفرق متخصصة في كل قرية لتوجيه الفلاحين وفقًا لاحتياجات السوق.
3. وضع خريطة زراعية سنوية توضح المحاصيل المطلوبة محليًا ودوليًا، وتلزم الفلاحين بتوزيع المساحات المزروعة وفقًا لها.
4. دعم الفلاحين في أوقات الأزمات عبر شراء الفوائض بأسعار عادلة وتحويلها إلى احتياطي استراتيجي.
إذا كانت الدولة جادة في تحقيق الأمن الغذائي، فعليها أن تبدأ من الفلاح، وليس من الاستيراد. الفلاح هو حارس الأرض، وهو خط الدفاع الأول عن أمننا الغذائي. إذا فقدنا الفلاح، فلن نجد من يزرع، وسنصبح رهائن للمستوردين والشركات الأجنبية التي لا يهمها إلا الربح.
الفلاح المصري ليس عبئًا على الدولة، بل هو العمود الفقري للأمن القومي. دعونا نضعه في مكانه الصحيح، قبل أن نصحو ذات يوم لنجد الأرض خاوية والمحاصيل مستوردة والأسعار تتجاوز قدرة المواطن البسيط.
------------------------------------
بقلم: محمد عبدالمجيد هندي
* قيادي عمالي مستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس