لكل واحد منا عالمه وقصته ورحلته التى فرضتها الدنيا فرضا، وهو لا يملك فيها الا القيام بدوره وكفى، عالم خفى وقدر إلهى يسوق إليه الأحداث ويمنحه السند والمدد وعندما يقرر ان يوقف قطار عالمه هذا، يقتطع جزءا أصيلا من حائط سنده ويجعله مكشوف الظهر وحتى البطن أحيانا.
إذن الفراق واحد من أبشع المفاجأت غير السعيدة التى تقع فى حياه كل منا، لا يعرف موعدها كى يعد لها البدائل ويرسم الخطط، والحقيقة المؤكدة لأهم مظهر من مظاهر الفراق، هى الموت وهو الحقيقة المؤكدة الوحيدة فى عالمنا.
الخوف من الموت غريزة حية لا معابة فيها، وإنما العيب أن يتغلب هذا الخوف علينا ولا نتغلب عليه. يموت الجبناء مرات عديدة قبل أن يأتي أجلهم، أما الشجعان فيذوقون الموت مرة واحدة.
الموت هو قضاء الله وقدره، وهو الذي يأخذ إليه من يحب ،ولأن الله يحب عباده يختار من يريده دون أن ينظر لعمره وأبنائه وزوجته وعائلته.. فالموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة وغير ذلك زائف. فالموت هو توقف القلب عن النبض لكنَّ الفراق هو توقف الحياة عن النبض في قلوبٍ لا زالت على قيدها. انكسار وألم ووجع وانهيار هذا ما يسببه الموت من أثر في نفوسنا، يسبب الهدم الذي يهز أركان وجدران أرواحنا من كل جزء في جسدنا، فالعين تجد الدموع والعقل يقوم باسترجاع كل مواقف هذا الذي مات، والقلب يتمزق شوقاً لكي نؤنب أنفسنا على عدم الجلوس الوقت الكافي مع من اختاره الله عنده. والأقدام لا تحملنا لحمل نعشه والمشي برفقته، نحمله جسدا ويحملنا روحا وربما نتمنى ان لا يرجعها ويترك لنا الوجع.
ياعزيزى، الموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء، هكذا وصف الموت الشاعر الكبير محمود درويش فالموت حقاً لا يوجع الموتى لأنهم فارقوا هذه الحياة جسداً ولكن لا تزال أرواحهم تحلق في كل الأماكن التي حولنا تشبه الطيور التي تُغرد أجمل الألحان.
قد تفارق بالموت حبيبا هو والدك أو أخيك أو صديقك أو جارك، وهو فراق لارجعة فيه ولا حيله لك فيه، وحتما وطبقا للسنن الكونية سيخرج حزنك عليه رويدا من جسدك كخروج مرض عضال أصابك، قد يطول وقد يؤلم وتتجاذبك جوانب فراشك ولكن بقدر الله ستشفى.
أما الفراق الاخر وهو فراق الأحياء فهو مغادرة دون رجوع أيضا ولكن دون ذاكرة، قد تنسى من فارقت وتنسى ذاكرتك معه وتتذكر فقط أنه هو من دفعك إلى إنزاله في استراحة الغرباء، ولم يترك إلا بصيص ذكرى مرتبطة ارتباطا شرطيا بحزن وغضب، ولذا فأنت تصارع الزمن حتى لا تتذكرها.
غالبا فراق الدنيا يرتبط بأمرين لا ثالث لهما، يرتبط إما بالتجاهل أو الخيانة، وكلاهما يدفعان بجريان النهر نحو الفراق، وكلاهما يتسببان في فراق لا عودة له مطلقا.
عندما تفارق ميتا فانت تتذكره باكيا ونادما لو أنك أغضبته، وتذهب مرارا إلى حيث يرقد ما تبقى منه من هيكل وعظام تطلب منه الغفران في تقصير قد صدر منك، وتجمل وتزين قبره، بل أحيانا تغدق بالمال على من يحرس هذا القبر، وما أن تمر أمامه حتى تمر أمامك أيامك وعمرك وابتساماتك معه، خاصة إن كان من المقربين ، وتتمنى له "روحا وريحان وجنة نعيم"
وعندما تفارق حيا، فأنت تغضب إن تذكرته من الأساس، ولا تذهب لأي مكان جمعك به يوما ولا تمر من شارع مررت به معه، وتتمنى لو يعود إليك حتى تحسن له مجددا وتبادله إما بتجاهل او بخيانة وتمر هائما على وجهك إن ذكرك أحد به.
هناك مقولة تؤكد أن "من مات له غال، فلن يؤثر فيه فراق حي" وفي حقيقة الأمر فراق الموتى يؤلمنا، وفراق الأحياء نتمنى أن يؤلمهم وهناك فارق متسع بين ذكريات افتقدتها مع ميت وأخرى افتقدتك هى مع الأحياء.
وحتى عندما تلتقى مع صديق مشترك أو قريب ممن فارقت من الأحياء، ويحاول ان يمازحك بذكريات مؤلمة ويضطرك لسرد ما لم تود سرده يفاجئك بجمله مؤلمة ولكنها صادقة ولن تنساها "لو أنها رحلتك .. الغ رحلتك"
----------------------------
بقلم: عادل عبدالحفيظ