21 - 05 - 2025

لمحات عن شخصية الزعيم الكردي عبد الله أوجلان (1) خرج من هامش التاريخ ليعيد تشكيل مركزه

لمحات عن شخصية الزعيم الكردي عبد الله أوجلان (1) خرج من هامش التاريخ ليعيد تشكيل مركزه

حياة القادة الاستثنائيين ليست مجرد تواريخ وأحداث، بل هي منظومة متشابكة من التجارب والانفعالات تشكل رؤيتهم للعالم.. بعضهم خرج من رحم المعاناة ليبني نظريات كبرى، ولم يتمكن البعض الآخر من تجاوز أزماتهم النفسية والسياسية. 

في هذه السلسلة من المقالات، نلقي الضوء على البعد الأنثروبولوجي والنفسي لنشأة واحد من الشخصيات التي صنعت تاريخًا، لنبحث كيف تتحول التجارب الفردية إلى أفكار تؤثر في ملايين البشر. الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، الرجل الذي خرج من هامش التاريخ، ليعيد تشكيل مركزه. 

في طفولته، لم يكن يدرك أن إحساسه بالعزلة سيتحول إلى مشروع فكري وسياسي، يرسم ملامح مستقبل أمة بأكملها. التجربة الشخصية لهذا الرجل تستحق وقفة، لننظر إليها لا بوصفها مجرد محطات في سيرته، بل باعتبارها جذوراً فكرية لحركته ونضاله.

في المقال الأول، نغوص في مرحلة التكوين النفسي والفكري لهذا الرجل، لنفهم كيف شكلت معاناته الأولى رؤيته، وكيف أصبحت الطفولة الحزينة حجر الأساس لمشروع أيديولوجي كامل، ليس كل طفل يعاني الاضطهاد يصبح قائداً، لكن القادة الكبار غالباً ماحملوا جراح طفولتهم إلى مساحات الفكر والفعل. 

نشأة عبدالله أوجلان ليست مجرد قصة فردية لطفل كردي نشأ في بيئة معادية، بل نموذج لفهم كيف يتفاعل الفرد مع الإقصاء القومي والعرقي، ليعيد تشكيل ذاته من خلال الفكر والسياسة. منذ سنواته الأولى، وجد أوجلان نفسه محاصراً بين لغتين، بين هوية يعتز بها ونظام يريد محوها، وبين مشاعر فردية لم تلبث أن تحولت إلى إدراك جمعي. لم يكن الألم عائقًا أمامه، بل كان دافعاً للتفكير في حلول أوسع من ذاته؛ ومن هنا، تبدأ رحلته من طفل يشعر بالاغتراب إلى مفكر يسعى لصياغة مفهوم جديد للدولة والمجتمع.

نشأة صعبة وأزمات متعددة

في قلب قرية صغيرة بجبال جنوب شرق تركيا، ولد عبد الله أوجلان، لم يكن يعرف في طفولته المبكرة أن حياته ستتداخل مع مصير شعب بأكمله. نشأ أوجلان وسط تحديات كثيرة، حيث كانت خلفيته الكردية تشكل حاجزاً أمامه منذ اليوم الأول في المدرسة؛ كان يشعر بالغربة في بيئة تحاول إلغاء هويته، فلم تكن مشكلته مجرد كلمات أو لغة، بل كان يواجه نظاماً يحاول طمس كل ما يمثل هويته الكردية.

مع الوقت، لم يعد أوجلان ينظر إلى هذه التحديات كأزمات شخصية فقط، بل رأى فيها تجسيداً لمعاناة أمة بأكملها. ومن هنا، بدأت رحلته الفكرية والنضالية، حيث وجد أن طريق الحرية والمساواة لا يمكن أن يُبنى إلا على أساس الديمقراطية والعلمانية، بعيدًا عن الهيمنة القومية والعرقية.

هذه التجربة المريرة في طفولته لم تحطمه، بل كانت الدافع الأساسي الذي قاده إلى تكوين رؤيته الفلسفية والنضالية، تلك الرؤية التي حملت أملاً جديداً لشعبه ولكل من يعاني من الظلم والتهميش. 

في هذا المقال، سنتعرف على كيف تحولت معاناة ذلك الطفل إلى قوة فكرية ألهمت الملايين.

ولد عبد الله أوجلان في قرية من قرى جنوب شرق تركيا تسمى "أمارا" لعائلة كردية، ذهب إلى المدرسة الابتدائية في قرية "جبيل" التي تبعد كيلو مترين ونصف عن قريته، وقد تعرض لإشكاليات عديدة من صغره ناتجة عن كونه كردياً في مدرسة تركية.

طفل محاصر خلف قضبان العرقية

لو تأملنا حقيقة هذا الطفل الذي وجد نفسه محاطاً بعرقية تزدري عرقيته، ومحاطاً أيضاً بمشاعره التي ظن أنها فردية وسلوكيات الازدراء موجهة نحو شخصه، ثم اكتشف مرة تلو الأخرى أنها إشكالية أمة بكاملها، الأمة التي زاد من تعميق أزمتها تبني فكرة الدولة القومية على نطاق عالمي، فأصبح يسمى الحق الكردي "المشكلة الكردية"، بجانب رؤيته لمظاهر الازدراء لكونه كردياً في محيط تركي يرى عرقه الأسمى والأعلى بين أعراق البشرية، وتجسدت تلك النظرة الاستعلائية في النظرية العرقية الأتاتوركية المفروضة على البلاد منذ عام 1923.

ينشأ بعض الأطفال وبداخلهم هذا الشعور بالاضطهاد بسبب شيء لم يكن يوماً بإرادتهم، هؤلاء الاطفال من الملايين في المناطق المهمشة من العالم أو العرقيات غير المرحب بها في حاضنة المجتمعات أو الدول ذات المرجعيات الدينية.

من هنا نرى أن دعوة الرجل للعلمانية، هي رغبته منذ طفولته بقدر من المساواة بينه وبين أقرانه من العرقيات الأخرى، هذه المساواة التي اكتشف من خلال تجاربه الفكرية والحياتية أنها لا يمكن أن توجد إلا في ظل نظام ديمقراطي علماني لا يفرق بين مواطن وآخر ولا بين عرقية وأخرى. ونستطيع أن نرى كيف كانت ردة فعل هذا الطفل الذكي الذي قرر وهو في سن الطفولة أن يكون كما روى عن نفسه في كتابه، هو "الطفل المميز لدى جميع معلميه".

وحقيقة كون هذا الدافع - ازدراء المجتمع له لكونه كردياً - هو المحرك الأول والبذرة الأولى في تكوين هذا الفيلسوف والقائد والسياسي لم تكن مفاجأة بالنسبة إلي، فقليل من القادة على مر التاريخ من جمع بين القدرات العسكرية والسياسية، وهو قد جمع بينهما والفلسفة والإلمام العلمي، وهو شيء عظيم ومن نوادر التاريخ، أن ترى كل تلك المواهب في شخص واحد، ولا يخفى على أحد ممن يقرأ التاريخ أن تلك الظروف القاسية والصعبة فقط من يمكنها أن تنتج هذا العقل وهذه القدرات ومثل تلك الإرادة الصلبة.

مرور من الألم العميق إلى رحابة عالم الأفكار

مر الكثيرون بتجارب طفولية عنيفة كهذه، لكنها ظلت جاثمة على صدورهم تمنعهم الفعل والحركة، وقليل من ينجون منها، إلا أن هذا الطفل لم يكتف بالنجاة، بل تغلب عليها وأنتج أفكاراً ثم طرحها فسمعتها الأرض من جميع أطرافها، ومن حظنا كأفراد نسعى للمعرفة أن هذا الرجل لا يزال حياً، ومن واجب التاريخ علينا أن نوثق له ونعطيه حقه من التأمل والمتابعة والتدوين.

لم يقف الطفل الذي عانى تلك المشاعر الصعبة حد التفوق العلمي الفردي، ولا نظر إلى نفسه وقال أنجو أنا، إنما نظر بصورة ماكروسكوبية إلى وضع شعبه بالكامل، وجد أنه مهما بلغ من النجاح على المستوى الفردي سوف تبقى غصة العنصرية في حلقه تقلق روحه وتعبث بأمانه النفسي، وجد في قضية قومه سبيلاً لإنقاذ جميع أطفال أمته من هذا الشعور المؤلم، وبالتالي أصبح هذا الطفل فيلسوفاً يكره "الفلسفة الرأسمالية الفردية" التي تدعو إلى النجاح الفردي أو "النجاة الفردية". 

معاناة اللغة وإشكالية الكتابة

عانى هذا الطفل من اشكاليات مركبة، إحداها مشكلة اللغة، فمن ناحية هو يتكلم التركية في المدرسة ويذهب إلى البيت حيث يتحدث الكردية، ولا يمكنه تحدث الكردية مع أقرانه ولو من الأكراد، ومن ناحية أخرى فاللغة الكردية ليس لها أبجدية كتابية خاصة بها، بعض المناطق تكتب بالعربية والبعض الآخر باللاتينية، وكأن اللغة ذاتها كانت عبئاً حمله الطفل كلما أدرك مع الزمن أهمية وجود الأبجدية في حضارة الأمم، وأن "شعباً لا يستطيع الكتابة بلغته جدير بالازدراء" فتحدث عن المشكلة في مقدمة كتابه "مانفستو الحضارة الديمقراطية"، فحتى اللغة التي هي وسيلة اتصال وتعارف وتلاقي أفكار أصبحت هماً يحمله كتف الطفل الممتلئ بالأحمال.

أوصى أوجلان الآباء والأمهات أن يستمعوا إلى أبنائهم وأن يراقبوا مثل هذه المشاعر السلبية عند نفوس أطفالهم، فيقول "إن توضيح المسألة الكردية وجعلها مفهومة قد أخذ منه سباقاً ماراثونياً لأكثر من خمسين عاماً" وما ينبغي لها أن تأخذ كل تلك المدة لو فقهه والداه في المسألة الكردية وحقيقتها، واختصرا عليه بعض الوقت الذي اعتمد فيه على ذاته منذ صغره ليسلك أغوار الطريق الصعب للمعرفة، وحديث الوالدين مع أطفالهم هو مما يخفف من العبء الروحي للطفل، والحقيقة قوة الصدق والصراحة والوضوح في كلمات الرجل هي أول ما شدني إلى مواصلة القراءة، وكأنه يفتح قلبه للقارئ ليقرأ ما يظهر دون مواراة أو تزييف أو تعمية.

اكتشاف ما بعد التجربة 

أخيراً.. وبعد أن اكتشف الطفل أنه لا مناص له إلا أن تحل مشكلته من خلال حل مشكلة هذا الشعب الباحث عن الاستقلال والحرية، وأنه كي يستطيع حل تلك المشكلة لابد وأن تتغير بعض العناصر المتجذرة في الأنساق السياسية والاجتماعية في المجتمع، فدرس الفلسفة وتبحر في علم الاجتماع وأتحفنا بكل تلك الأفكار التي سوف نعرضها تباعاً في نقاشات أخرى.
وأترككم مع اقتباس من كتابه "مانفستو الأمة الديمقراطية".

"الدافع والمُحَفِّز الأساسي الكامن وراء تقديمي مرافعتي إلى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية كتابياً، هو برهنة كون روحي الطفولية لم تفقد شيئاً من حيوية موقفها المتمرد، الذي أبدته إزاء مواقف الازدراء والنظرة الدونية حيالها، وإزاءَ أَوجُهِ العَظَمَةِ المُصطَنَعةِ في العصر المتأخر. كما إنه يُدَلِّلُ على أن روحي تلك تُلِحُ على بقائها كإنسان، وعلى مواظبتها في ذلك بمضمون وشكل اجتماعيين مناسبين".
-------------------
بقلم: حسن صابر