01 - 05 - 2025

قناع بلون السماء .. رواية الأربع وخمسين كبسولة مهربة

قناع بلون السماء .. رواية الأربع وخمسين كبسولة مهربة

- لو نخلنا تراب أرض فلسطين فستظهر لنا بقايانا تتحدى بنادقهم

حين بحثت عن حياة الكاتب باسم خندقجي الأسير الفلسطيني صاحب رواية "قناع بلون السماء" بعد فوزها بالجائزة العالمية للرواية العربية البوكر 2024 لأتعرف عليه، وبعد أن قرأت روايته البديعة اكتشفت أن حياته قصة روائية بامتياز تفوق في غرابتها ودراميتها روايته نفسها، وأن الأحداث التي صاحبت كتابة الرواية وحتى نشرها بها من الإثارة والكوميديا السوداء ما يفوق الإثارة في العديد من الروايات الجيدة، فهي رواية في البراح الفلسطيني كتبها سجين محكوم عليه بالسجن المؤبد لثلاث مرات أثناء اعتقاله في سجن عوفر الإسرائيلي الذي استمر حتى الآن لمدة 20 عاما، وهربها عبر أربع وخمسين كبسولة زرعت في أجسام زوار السجن والمفرج عنهم، وجمعها أخوه وطبعها بعد أن حصل على نسختين منها بنفس الطريقة، وقد انعكس هذا على تركيب الرواية رغم الجهد الذي بذل كي تنشر في أفضل صورة.لتصدر في يناير 2023 عن دار الآداب اللبنانية، وعقب الإعلان عن ترشحها لجائزة البوكر العالمية، انطلقت حملة تحريض إسرائيلية بحق باسم لتكتمل الملهاة: لم يكتف الإسرائيليون باعتقاله ومصادرة حريته، بل أرادوا كذلك منع حصوله على الجائزة، وفي النهاية وقعوا عليه غرامة كبيرة لتهريبه هذه الرواية إلى خارج السجن ووضعوه في سجن انفرادي عقابا له، وما أدراكم ما السجن الانفرادي الإسرائيلي.

بدأت رحلة رواية «قناع بلون السماء» عام 2021، أثناء سجن «باسم» فى معتقل «هداريم» الإسرائيلى، حيث عمل على توثيق شهادات الأسرى من القدس، وطلب من عائلته توفير معلومات يحتاجها في الكتابة، (سيعطي هذه التجربة فيما بعد لبطله مراد في علاقته بنور بطلة روايته) وقرر بدء المشروع عام 2022 في ظل ظروف صعبة عاشها الأسرى، تشمل مصادرة قصاصات الورق، وهو ما صوَّره خلال كتابته عن بطله «نور»، إذ إن كليهما يبحث عن ظروف مواتية للكتابة وحتى عن المصادر مهما بلغت صعوبة وخطورة ذلك.

وُلد باسم محمد خندقجي، في الثاني والعشرين من ديسمبر عام 1983 في مدينة نابلس، وكان يدرس في الثانوي حين قتلت قذيفة دبابة إسرائيلية في قطاع غزة الطفلة إيمان حجو ابنة الأشهر الأربعة في حضن والدتها وكان لهذا المشهد دويا كبيرا أثّر عليه فشكل مجموعة طلائع اليساريين الأحرار، واعتُقل بتاريخ الثاني من نوفمبر عام 2004 وهو ابن تسعة عشرة عاماً.  على يد قوات الاحتلال بعد عملية سوق الكرمل في الأول من نوفمبر للعام نفسه، والتي نفذها الشهيد عامر عبد الله من كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، واتُهم باسم بأنه كان أحد أعضاء المجموعة التي خططت للعملية. في السجن فكر كثيرا في تنمية مواهبه في الكتابة متخذا من كلمة محمود درويش: السجن كثافة )لم ألتقط أسرار العبارة إلا عندما اشتد عودي في المعتقل (جملة اتخذها مراد نقطة انطلاق ليغير حياته؛ التحق بالدراسة التي تتيحها برامج السجون حتى وصل إلى جامعة النجاح الوطنية قسم العلوم السياسية ثم حول منه إلى قسم الصحافة والإعلام.

الرواية إذن هي كتابة سجين عن سجن أكبر، يضيق بأسئلة الإنسانية والديمقراطية وحق الحياة بعنف لا يقبل المقارنة بين ما تفعله الصهيونية من اعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم وأرضهم، وما حدث في الهولوكوست لليهود من ناحية ثانية وتشويه وطمس للحقائق، وتصدير صورة مزيفة لسرقة وطن وشعب بكامله يكافح من أجل عدم طمس هويته. 

نشر باسم مجموعتين شعريتين صدرتا عامي 2009 و2013، قبل أن يكتب خمس روايات هي "مسك الكفاية" (2014) و"نرجس العزلة" (2017) و"خسوف بدر الدين" (2018) و"أنفاس امرأة مخذولة" (2020) ثم الجزء الأول من"قناع بلون السماء" (2023). ثم الجزء الثاني بعنوان: سادن المحرقة.

 عندما قرأت الرواية التي تحكي قصة شاب قرر أن يكتب رواية يدخل بها في تحدي للفشل الذي عانى منه بسبب العديد من العراقيل في بحثه التاريخيّ والآثاري عن مريم المجدليّة وأسرارها السرية المخبوءة، وفي جدل أيضًا مع رواية شفرة دافنشي لدان براون ليثبت صورة أخرى للقصة التي أوردها الكاتب عن مريم المجدلية يحفزه معرفة ابن البلد بحقيقة المكان والبحث عن روح المجدلية التي تستفز في عقلة فلسفة الأنثى الكاملة واللغط المثار حول المجدلية وعلاقتها بالمسيح عليه السلام، و"الحضور الباهت وشبه المعدوم للمجدليّة في متون التاريخ الرسمي، والتاريخ المسكوت عنه أيضاً" والذي يشبه ما تخبئه تربة أرض فلسطين من دلائل مطمورة تحت التراب بكلِّ تاريخها على الحيوات التي عاشت هنا. "إن إثبات تاريخية مريم المجدلية به شيء من العبث غير أن هذا لا يعني عدم الإيمان بوجودها إلى جانب يسوع في الحديث الإنجيلي كما يقول أوغسطين أنا لا أؤمن لأنه عبث وعليه لن يتصدى نصي لنقاش تاريخية المجدلية من عدمها بل إلى معالجة بيانات تاريخية ودينية خاصة بها وإحالتها إلى نص روائي شائق ومثير وبقدر ما تعمقت أكثر بتفاصيل تلك الحقبة التاريخية بقدر ما تهت ودخلت في عوالم ودهاليز خفية ومخيفة لكي أخرج بالنهاية بوعي تلك المرحلة إذ لا يمكنني أن أكتب دون اكتساب الوعي التاريخي الشامل الخاص بـ القرن الأول الميلادي. ص 113"

 تبدأ الرواية المتخيلة في ذهن نور المشهدي بتخيل بطل يبحث في الآثار عما يثبت حياة المجدلية في تل مجدو من خلال رواية ميتا فكشن تتم كتابتها عن طريق الخيال، فما "التاريخ في النهاية سوى تخيّل مُعقلَن". يهدم فيها المؤلف حائط الوهم الذي تسحبنا إليه الرواية بكتابة تجاربه في الوصول إلى بنية تحقق هدفه من ناحية وتشعرنا بالفارق بين بطله الرئيسي نور مشهدي ونسيم شاكر بطل الرواية المعتزم كتابتها كدراما داخل الدراما. وكان عليّ أن أتحقق من عنصرين أساسيين لمناقشة مثل هذا العمل الأول - هو وجهة نظر دان براون عن المجدلية والثاني - حقيقة المجدلية واللغط المثار حول قصتها، خاصة أننا نعرف بشكل مبدئي أن الكنيسة في روما لم تعترف بدور المجدلية إلا منذ زمن قليل. 

الجزء الثاني في بحثي في هذا العمل ينصب على فنية العمل نفسه كرواية، اختيار كسر الوهم أتاح عدة عناصر منفصلة للتعامل مع الزمن والمكان والشخصيات مما أعطى حرية للكاتب في تبادل أقنعة الراوي العليم بين نور وأور والكاتب باسم وأيضا نسيم شاكر بطل الرواية المزمع كتابتها، استخدم فيها الكاتب فقرات للتسجيل الصوتي لصديقه ورفيق طفولته المعتقل مراد لكي يقدم واقع اللحظة الراهنة المعاش في فلسطين من ناحية واستدعاء مشاهد من الماضي في فلاش باك لشرح الظروف الحياتية والتناقضات الاجتماعية والسياسية تحت الضغط المباشر للاحتلال الصهيوني من ناحية أخرى، ثم عمد إلى حيلة القناع بعثور نور طالب الآثار الذي يشبه الإشكنازيين في ملامحهم، وفي طلاقته في الحديث بالعبرية والإنجليزية، على هوية شاب إسرائيلي من الأشكيناز هو أور شاميرا، والتي تعني بالعربية نور أيضا من جهة ثالثة، وبين الكتل الثلاثة هذه يغير الكاتب الأقنعة كي تمتزج الأحداث معا في سلاسة لتعطي لشخصيات العمل الروائي الفرصة للظهور والتعرف على مجريات حياتها في براعة الاختصار الشديد بكتابتها في عدد قليل من الصفحات نجح في أن يشعر القارئ باكتمال الشخصية ونضجها الفني والتأثير في الأحداث، حتى ليظن أي من القراء أنه يعرف هذه الشخصيات معرفة حميمة مثل شخصية فاطمة الموسى أم عدلي السجين أو شخصية نورا أم نور التي ماتت فور ولادتها له ومهدي الأب المناضل الذي خرج من السجن صامتا في أواخر 1995رافضا ما آلت إليه أحوال البلاد، وجدته سمية التي ربته وحدها وزوجة أبيه خديجة ومراد صديقه وإيالا زميلته اليهودية في بعثة التنقيب وحتى أعضاء البعثة الأثرية من الأمريكان والأوروبيين الذين جاءوا لاستكشاف منطقة قريبة من مجدو. 

الجدل القائم بين نور وشخصية أور شاميرا المنتحلة والتي ارتدى قناعها كي يدخل ضمن بعثة التنقيب الاستكشافية من أبرع وأقوى المناطق الفنية في الرواية. يحيلنا الكاتب من العنوان قناع بلون السماء العتبة الأولى للنص على الفور إلى لون الهوية الإسرائيلية الزرقاء والتي سيدخلها البطل بكل إرادته مدعيا لنفسه أنه يستطيع الدخول والخروج متى شاء دون أن يتأثر من أجل أن يكتشف حقيقة الهوية الإسرائيلية من الداخل، وتطرح الرواية هذا السؤال فهل نجح نور في هذا؟ هل ما زال هو نور أم أنه أصبح أور شابيرا؟ تتحرّك كل الشخصيات ضمن سؤال الهوية والمكان، وكيف يمكن للاحتلال أن يُغيّر مصائرهم، فهل يستطيع نور أن يعود إلى هويته الأصلية بعد صدمة لقائه بسماء التي أحب وضوحها وتعبيرها عن هويتها؟ وهل إذا ما خلع قناع أور شاميرا ستصدقه سماء وتقتنع بمبرراته ليصل إلى قلبها؟

المجدلية 

من هي مريم المجدلية التي تخفى وراء البحث عنها باسم خندقجي ليصل إلى رسالته وهدفه من كتابة هذه الرواية في الكشف عن السرديَّة الأصليَّة المهمَّشة والسرديَّة السائدة المفروضة على الشعب الفلسطيني والمصنوعة بأيدي الاحتلال الصهيوني وقوى الضغط الغربية. 

وُلدت مريم ونشأت في قرية مجدلة على ضفاف بحيرة جينيسارت (الجليل). ويقال في الأناجيل أن الرب طرد سبعة شياطين من مريم ومنذ لحظة شفائها، عاشت حياة جديدة، وأصبحت تلميذة حقيقية للمخلص. هناك الكثير من الاختلاف حول شخصية المجدلية فالنساء اللاتي يُذكَرن في الإنجيل: "المرأة الخاطئة ولم يُذكَر اسمها، ومريم من بيت عنيا ومرثا أختها وبحسب التقليد الشرقي فإنهن - بالإضافة إلى المجدلية - يُعتَبَرن ثلاثة أشخاص مختلفين. أما في الغرب فإنهم يتبعون القديس غريغوريوس الكبير في القرن السادس في اعتبارهن شخصًا واحدًا واعتبرها المسيحيون الأوائل عاهرة طبقا لعظته وهو ما ناقده الكاتب باسم خندقجي حين قال أن هذه المهنة تمتهنها امرأة فقيرة في حين نشأت المجدلية في قصر وظلت هذه الفكرة قائمة على الرغم من أن الأرثوذكسية والبروتستانتية لم تتبناها عندما انفصلت هذه الديانتان لاحقًا عن الكنيسة الكاثوليكية. وظل الأمر كذلك حتى اعلنتها الكنيسة الغربية في عام 1969 م قديسة ويحتفلون بعيدها في الثاني والعشرين من شهر يوليو.

 تبعت المجدلية المسيح حين كان يجول مع الرسل في مدن وقرى اليهودية والجليل يبشر بملكوت الله. وكانت حاضرة على الجلجثة لحظة صلبه بلا خوف مع والدته والرسول يوحنا، بينما هرب جميع تلاميذه. وعند فجر يوم الأحد جمعت النساء الطيب للذهاب إلى قبر المسيح ودهن جسده حسب عادة اليهود. وذهبت مريم إلى القبر مبكرًا بمفردها، فلما رأت الحجر ينزاح عن القبر ركضت خائفة لتخبر الرسولين بطرس ويوحنا المقربين للمسيح. فلما سمعا الرسالة الغريبة بأنه قد رحل عن القبر ركض الرسولان نحوه، ولما رأيا الكفن واللفائف اندهشا وعادا إلى بيتيهما لكن مريم أرادت أن تجد دليلاً على أن القبر فارغ حقًا، فنزلت إليه ورأت ملاكين بثياب بيضاء، أحدهما جالس عند الرأس والآخر عند القدمين، حيث وُضع جسد يسوع. سألوها: "يا امرأة، لماذا تبكين؟" فأجابتهم بالكلمات التي قالتها للرسل: "لقد أخذوا ربي، ولست أعلم أين وضعوه". في تلك اللحظة، التفتت ورأت يسوع القائم واقفا بالقرب من القبر، لكنها لم تعرفه، فسألها: «يا امرأة، لماذا تبكين؟ من تطلبين؟» فأجابت وهي تظن أنها تنظر إلى البستاني: «يا سيد، إن كنت أنت قد أخذته فقل أين وضعته، وأنا آخذه.

ثم عرفت صوته نطق باسمها، وأطلقت صرخة فرح: "رابي" (أي معلم)، فألقت بنفسها عند قدميه لتغسلهما بدموع الفرح. لكنه قال لها: "لا تلمسيني، لأني لم أصعد بعد إلى أبي، لكن اذهبي إلى إخوتي وقولي لهم: إني أصعد إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم". فعادت إلى رشدها وركضت إلى الرسل لتنفيذ مشيئة الرب الذي أرسلها للتبشير. وأعلنت: "لقد رأيت الرب!" وكانت هذه أول تبشير في العالم بالقيامة.

تنقل لنا الرسوم القديمة يسوع على المائدة في بيت الفريسي، يستقبل مريم المجدلية، التي صورت على شكل عاهرة تنحني عند قدمي يسوع. وتدهن قدميه بالطيب وهي الفكرة التي استخدمها المؤلف في نفي كونها عاهرة فثمن عطر الناردين كان يبلغ ثلاثمائة دينار روماني وهو مبلغ ليس في إمكان عاهرة امتلاكه كما استغل فكرة الطيب في اتباع الرائحة القوية النفاذة في القبو الذي تبعه من البئر في حلم نور ليصل إلى المجدلية الحية حتى الآن كما صورها.

في التاريخ سعى بعض المسيحيين الأوائل إلى التقليل من تأثير مريم، وسعى آخرون إلى إبرازه. وعلى سبيل المثال: في إنجيل مريم، وهو نص يعود تاريخه إلى القرن الثاني الميلادي ظهر في مصر عام 1896، وضع مريم المجدلية فوق تلاميذ المسيح الذكور في المعرفة والتأثير. كما ظهرت بشكل بارز فيما يسمى بالأناجيل الغنوصية، وهي مجموعة من النصوص التي يُعتقد أن المسيحيين الأوائل كتبوها منذ القرن الثاني الميلادي، ولكن لم يتم اكتشافها حتى عام 1945، بالقرب من مدينة نجع حمادي المصرية منها إنجيل فيليب الذي أشار إلى مريم المجدلية باعتبارها رفيقة يسوع وزعم أن يسوع أحبها أكثر من التلاميذ الآخرين. من ناحية أخرى، لم يشر الكتاب المقدس إلى أن مريم المجدلية كانت زوجة يسوع. 

من هنا جاءت حبكة رواية شفرة دافنشي بأن يسوع ومريم المجدلية أنجبا أطفالًا معًا. وكانت الفكرة الرئيسية في رواية الإغواء الأخير للمسيح" عام 1955 لنيكوس كازانتزاكيس، والفيلم عنها من إخراج مارتن سكورسيزي.

***

تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام يمثل كل قسم شخصية رئيسية -  نور وأور شاميرا ثم سماء الفلسطينية التي انضمت إلى فريق التنقيب عن الآثار يلعب نور دور المنظر في كيفية بناء الرواية الفني القابل للهدم والإعادة وهو ما يتيح للمؤلف استعراض العديد من المعلومات والشخصيات فيستطيع من خلال استخدام بطاقة أور وانتحال شخصيته وحضور محاضرات في القدس، والتسجيل في بعثة تنقيب آثار تذهب إلى كيبوتس "مشمار هعيمق" الملاصق للمكان الذي كان يريد بطله نور أن يبحث فيه عن صندوق يضم أسرار المجدلية. في أراضي قرية أبو شوشة المهجرة، وهو المكان الذي حدثت فيه واحدة من أكبر وأشرس المعارك التي جرت أثناء نكبة 1948، ليثبت بعض الوقائع التاريخية، التي جرت في مستوطنة مجدو، رغم أن إحدى رسائل مراد نصحته بوضوح أن يتجه كخبير آثار للتأكيد على ملكية أراضي الشيخ جراح، بصفتها قضية أهم وأكثر إلحاحا من البحث في تاريخ مريم المجدلية.

كما يستطيع بهذا البناء استعراض الدور الذي يلعبه صديقه مراد داخل السجن وهو يكتب بحثًا للدكتوراه عن الاحتلال والكولونيالية، وعن الحرية والهوية. وهذه المقاطع البحثية تدخل متن الرواية بسلاسة ونعومة ولا تمثل عبئًا على الرواية نفسها فقد استطاع خلق التوازن بين المعلومات البحثية وبين متن الرواية كمتخيل فني وهي ميزة لا يستطيعها الكثيرون. كما أن الكاتب تلاعب بالأزمنة الأنية ومدتها خمس سنوات والأزمنة التاريخية في زمن المسيح ابن مريم. 

القسم الثاني أور شاميرا هل انتحل نور شخصيّة الإسرائيلي (أور شابيرا) ليتحرّر من أكذوبة إسرائيل؟ لقد صرّح نور لمراد بأنّه لم ينتحله ليتحرّر منه، بل قبل ذلك ليدركه ويتعلّمهُ. يريد أن يتعرّف إلى كيفيّة قيامه ونظره إلى الواقع من حوله! وهنا يجب أن أشير إلى اختياره للمجدلية كبطلة موازية وقد لفت انتباهي استخدامه لكلمة المرآة في مواضع مختلفة في الحوار بين نور وأور. وإذا أنا استخدمت المرآة لفك شفرة سر المجدلية في الرواية سأجد أنها في نظرتها وبقائها مع المسيح أثناء صلبه تقف باكية أمام إهانة اليهود للمسيح وإذلاله على الصليب وفي المرآة إذلال اليهود للشعب الفلسطيني الآن.  أظن أن ما لاقته المجدلية نابع من اتخاذها لمواقف مختلفة عن النمط اليهودي ونظرته المتدنية للمرأة لهذا يكون من الطبيعي أن تعتبر خاطئة لمجرد تصرف يكسر إحدى العادات اليهودية كالخروج يوم السبت على سبيل المثال ولا ننسى أن كل ما يتعلق بالنجاسة التي تخص الوظائف الفسيولوجية أصلها يهودي. بالتالي لا يكون مريحا للحواريين حول المسيح خاصة بطرس أن يضع المسيح عليه السلام المجدلية في مكانة خاصة وأن توضع في موقع قيادي ضد كل الأعراف اليهودية في ذلك الوقت قال بطرس: "دعوا مريم تغادرنا، إنّ النساء لسن جديرات بالحياة... لقد قال يسوع: أنا سوف أقودها بنفسي، لكي تصبح ذكرًا..". من هنا انتصر الفكر الذكوريّ على الفكر الأنثويّ، واختفت المجدليّة من المتون الدينيّة الانجيليّة الرسميّة".

القسم الثالث: سماء

أحسن باسم خندقجي اختيار اسم سماء للفتاة الفلسطينية التي تلتحق بفريق التنقيب على الآثار بهويتها الرسمية واسمها الحقيقي ووضوح الرؤية لديها عن حقوقها وحقوق شعبها فسماء المعنون بها الرواية قناع بلون السماء ترمز إلى اتساع الأفق اللانهائي وإلى السمو والعلو الذي لا يطال، وربما أبلغ ما جاء على لسانها أنها تكافح منذ سنوات للتخلص من الهوية الإسرائيلية باعتبارها من عرب ثمانية وأربعين، وينتحل نور بكل بساطة هوية أور اليهودي الإشكنازي. 

في هذا القسم تدور حوارات كثيرة بين أيالا وسماء توضح الجانب العدائي في شخصية أيالا التي تمثل الشخصية اليهودية المحتلة العادية في نظرتها إلى العرب وإلى حقوقهم بالمقارنة بحقوق اليهود سواء أكانت ضد الاضطهاد في الهولوكوست أو في السيطرة على أرض فلسطين التي ليست لهم كما يوضح هذا القسم وجهة نظر الكاتب في أن ما بني على باطل يبقى باطلا حتى بعد مرور سبعين عاما وإبادة قرى فلسطينية بكاملها ثم زرع غابة فوق أرض المذبحة من هنا يأتي ذكاء المؤلف في اختيار تل مجدو الذي يحمل آثار قرية أبو شوشة التي تم تدميرها في نكبة ثمانية وأربعين وهذا ما كتبه في الفصل السادس انتبهوا معي للشحنة الشعرية في النص:

" ليطل على سهل

ربوة حبلى بأكثر من عشرين مدينة تتقلب فوق آلام مخاضها منذ آلاف السنين.

مجدو،

يا أنثى السر القديم،

كم من معركة وقعت في سريرك السهل الذي لم يكن سهلا على العالمين؟

كم من قوافل محملة بالأقدار مرت من هنا؟

كم من حتف مسجى على نعش المؤامرة والدهاء مر من أمامها؟

كم من إمبراطور صار إلى مآلات نهايته أو مجده؟

كم من خليفة شد سروج خيله في طريقه إلى سدة خلافته أو قبره المسموم؟ 

مجدو المدرجة بالدماء أعظم ميادين الموت في التاريخ منذ المعركة الأولى."

في هذا الفصل تشتعل المعركة بين نور وأور وبين نور وأيالا وبين سماء وأيالا حتى يشك نور أنه غير عائد إلى نفسه في يوم ما، خاصة حين صدم في رأي سماء التي لم تصدق أنه عربي ينتحل بإرادته هوية العدو مهما كانت الأسباب، لكن نور يخلع قناع أور ويمزق الهوية أمامها ويلقي بها وبالميدالية التي يرتديها إلى الطريق وهو يفر في سيارتها نحو عالمه الأصيل، ويقول لها هامسًا بكلّ ما أوتي من لغته العربيّة المستعادة: "أنتِ هويّتي ومآلي". لينتهي الجزء الأول من الرواية.

الرواية باذخة في لغتها، وممتعة في قراءتها فإذا كانت الرواية لغة، فلغة هذه الرواية فذة ومتقنة في نص أدبي مكثف، تستخدم الكثير من الرموز والإسقاطات السياسية والفلسفية والدينية أحيانا، أعجبتني الثنائيات في هذا العمل ثنائية نور الرومانسي في مواجهة مراد العملي. وأيالا اليهودية المتعصبة بلا حق في مواجهة سماء المتمسكة بأرضها وحقها. وصمت وانعزال المهدي والد نور واستسلامه لقدره في مواجهة غضب وصخب نور وإصراره على التمسك بحلمه.

في المشهد الحسي الوحيد داخل الرواية هناك خطأ زمني في ترتيب الفقرات وتعالوا نتخيل معا كيف كتب باسم خندقجي روايته. في العادة يكتب الكاتب قصاصات من هنا وهناك شذرات من هنا وهناك حتى تنمو هذه الفسيفساء وتلتئم بجانب نظيرتها وتكون اللوحة الروائية، لكن الرجل الذي يكتب قصاصات ويهربها من الزنزانة قبل أن تمزق وتصادر لم تكن لديه الفرصة لوضع هذه القصاصات معا ورؤيتها ليقوم بعملية التشذيب النهائية للرواية، لهذا لم يزعجني أن أجد خطأ وحيدا في الزمن بين فقرات هذا المشهد واعتبرتها بطولة أن يستطيع أن يلملم روايته في ذاكرته وحدها وأقول له مهما طال الزمن لو نخلنا تراب أرض فلسطين فستظهر لنا بقايانا، تتحدى غاباتهم وبنادقهم وأولادهم المولودين فوق أرضنا، وسينتصر كل باسم خندقجي وأولاده من بعده، ولن يصمت المهدي المشهدي أبدا بعد ذلك.
--------------------------
بقلم: هالة البدري