02 - 05 - 2025

بناء مزيد من الطرق لتخفيف الازدحام خطأ ارتكبته مدن متقدمة سابقا وتقع فيه المدن الناشئة

بناء مزيد من الطرق لتخفيف الازدحام خطأ ارتكبته مدن متقدمة سابقا وتقع فيه المدن الناشئة

يبذل الناس الكثير في سبيل الانتقال والعيش بالمدن على الرغم من انخفاض المساحات السكنية وارتفاع الإيجارات وتكاليف المعيشة والازدحام. وقد قرروا الابتعاد عن الطبيعة والعيش في بيئة اصطناعية من الأسمنت والمعدن تختلف كل الاختلاف عن الظروف التي عاشت بها الغالبية العظمى من أسلافنا. ورغم ذلك، تتحول البشرية عن حياة القرى وتتجه نحو المراكز الحضرية بسرعة لم يسبق لها مثيل. وعلى الرغم من الضغوطات التي تفرضها، تجتذب الحياة في البيئة الحضرية ملايين السكان وتدفعهم للانتقال إلى المدن.

وفي هذا الإطار، يُعطي د. سيف جباري، الأستاذ المساعد في الهندسة المدنية والحضرية، مثالاً عن قيمة الإيجار التي يدفعها القاطنون في أحياء مدينة نيويورك، فيقول: "يُعادل إيجار شقة استوديو في حي وليام زبرغ إيجار منزل بثلاث غرف نوم في منطقة ريفرلاند، مع مسافة تنقل تعادل المسافة التي يقطعها سكان الجانب الشرقي الأعلى من مانهاتن. يعطي هذا المثال فكرة حول الصعوبات التي ستواجه الراغبين بالحياة في المدن. ورغم ذلك، تنطوي المدن على عوامل جذب متميزة، لعل أبرزها العيش على مقربة من وجهات الفنون والمجتمع والمقاهي، والتفاعل مع أفراد المجتمع والانفتاح على العديد من الفرص والآفاق الجديدة". 

ويجري جباري حالياً بحثاً متعلقاً بحركة المرور في المناطق الحضرية، يطور خلاله نماذج تهدف إلى تحديد أنماط تشكّل وتلاشي الازدحام، في محاولة لإيجاد حلول لهذه المشكلة في البيئات الحضرية. وأوضح عبر نتائج البحث بأن الطرق لا تمثل موضع الخلل، ويقول:"لا يكمن الحل في إضافة المزيد من الطرق. تتسم مشاريع البنية التحتية بارتفاع التكاليف، ولا بد أن تواجه بعض المشكلات التي تفرض دفع نفقات إضافية لإصلاحها. ورغم ذلك، تواصل المدن بناء مزيد من الطرق بغية تخفيف الازدحام. وهو خطأ ارتكبته بعض المدن المتقدمة في السابق، وتواصل المدن الناشئة الوقوع فيه حتى وقتنا الحالي". 

 ويتلخص الحل الذي قدمه جباري في التوقف عن بناء مزيد من الطرق، والتركيز على تعزيز مستويات المواصلات العامة. وهي مقاربة تضع السكان في احتكاك مباشر مع بعضهم البعض بصورة متواصلة. وبالرغم من كون هذا التواصل هو أحد أهم الأسباب التي تدفع الناس للانتقال إلى المدن، إلا أنه يعكس الطريقة التي نختارها للعيش سوية فيما بيننا. ويقول: "يمكن تشبيه حركة مرور المركبات بقسم التعليقات على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث يميل الناس لأن يكونوا أكثر اندفاعاً من المعتاد. أما عندما نكون على مقربة مادية من بعضنا البعض، فإننا نتجه بصورة طبيعية لأن نكون أكثر تسامحاً". 

 وبالتالي، فإن الاحتكاك والتفاعل المستمر يمثل في الوقت ذاته أحد أكبر عوامل الضغط والجذب الخاصة بالحياة المدنية. ويدرك جباري الصعوبات التي تفرضها حركة المرور على الجميع، وقدرة الأسباب ذاتها التي تدفع الناس للانتقال إلى المدن على توليد حالة من النزاعات أو التجزئة الاجتماعية. 

التوق إلى الانتماء 

 بغض النظر عن حركة المرور، يملك الناس العديد من الأسباب الوجيهة للانتقال والعيش في المدن؛ إذ توفر المدن للأفراد فرصاً متعددة للارتقاء بجودة ونوعية حياتهم. كما تمثل البيئات الحضرية مراكزَ للإبداع والإنتاجية بمقدورها فتح المجال أمام طاقات بشرية لانهائية. إلا أن السبب الرئيسي لانتقال السكان للعيش في المدن يتمثل في مجالات التواصل. 

وبهذا الصدد، تشير جيمي نابيير، الأستاذ المساعد في علم النفس، إلى أن طبيعتنا البشرية وغريزتنا للبقاء تفرض علينا أن نكون كائنات اجتماعية تسعى على الدوام لأن تكون جزءاً من مجموعة تملك "دافعاً جوهرياً للانتماء". وعبر الانتقال للعيش في المدن، فإننا نحاول إنشاء تجربة جماعية، وتكوين ما تصفه نابيير بـ"الواقع المشترك"، وهو عبارة عن سلسلة من التجارب التي تجمع الأفراد غير المتصلين ببعضهم البعض بروابط أخرى. 

 وتقدم فكرة نابييرعن الواقع المشترك تفسيراً حول قدرة سؤال بسيط عن حالة الطقس على اختراق الصمت المربك بين شخصين. 

 وتضيف "يختار الناس هذا السؤال لكونه واقعاً مشتركاً ومحسوساً فيما بينهم. أما إذا بدأت المحاولة بتعبير أحد الأشخاص عن إحساسه بالحرارة والآخر عن إحساسه بالبرودة على سبيل المثال، فإن محاولة التواصل لن يكتب لها النجاح بهذه الطريقة. وفي حالة المجموعات الصغيرة، يميل الأفراد إلى التوافق والانسجام مع الجو السائد سعياً منهم لأن يكونوا جزءاً من المجموعة. إلا أنه بالمقدور التفكير بحالات يتفادى خلالها الناس التواصل خشية عدم القدرة على الوصول إلى حالة الانسجام تلك". 

 وتمثل هذه النقطة السبب الرئيسي الذي يدفع الناس للانتقال إلى المدن التي تعكس رؤيتهم للعالم بصورة أفضل. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يتجه مزيد من الشباب للانتقال إلى المدن التي تعكس هويتهم السياسية والاجتماعية. وبالرغم من كون هذا التوجه يفيد في جعل المدن أكثر تناغماً، إلا أنه بالمقابل يقوّض كون المدن عوالم مصغرة ومتنوعة تضمن لقاء وتعايش الناس من مختلف المشارب والخلفيات. 

 ومع ذلك، سيواصل الناس على اختلاف توجهاتهم الانتقال إلى المدن بحثاً عن الفرص المادية وغيرها من الأسباب الدافعة الأخرى. إلا أنه وتزامناً مع نمو توجهات الانعزالية وكراهية الأجانب، قد يقود التنوع المتميز للمدن إلى حالة من التفكك المدني. 

 صدام الثقافات في البيئات الحضرية 

تركّز كينجا ماكوفي، الأستاذ المساعد في الأبحاث الاجتماعية والسياسة العامة، جهودها على الشبكات الاجتماعية. وتأتي أعمالها تزامناً مع النسب غير المسبوقة لانتقال الناس إلى المدن من جهة، والزيادة القياسية في أعداد المهاجرين من البلدان المختلفة من جهة أخرى. ففي عام 2018، بلغ عدد المهاجرين 272 مليون شخص حول العالم، بزيادة بلغت 50 مليون مهاجر مقارنةً مع عام 2010، وهي أرقام قابلة للزيادة في المستقبل. وبالتالي، يتعين على هؤلاء المهاجرين التأقلم مع الحياة في بيئة قد لا تنطوي على أي قواسم مشتركة مع ثقافاتهم الخاصة.

وتقول "يتمثل السؤال الأهم هنا في كيفية تأقلم المهاجرين مع بيئتهم الجديدة والمحافظة في الوقت ذاته على هوياتهم الخاصة التي تربطهم ببلدانهم الأم! وبالتأكيد، سيسعى المهاجرون إلى تكوين علاقات ضمن بيئاتهم الجديدة، إلا أن العلاقات الإيجابية الوثيقة التي تربطهم ببيئاتهم الأصلية قد تفرض عليهم أحياناً بعض التحديات التي يصعب تجاوزها. وغالباً ما تكون هذه الناحية أصعب بكثير بالنسبة لليافعين والشبان الذين ينتقلون إلى بلد جديد برفقة أهاليهم". 

وبالإضافة لذلك، لا تتكلل محاولات المهاجرين للفصل بين هذين العالمين بالنجاح على المدى الطويل. وتواجه هذه المقاربة صعوبات كبيرة تحديداً في حال وجود تباين كبير بين الهوية المطلوبة من المجتمع الجديد وبين هويتهم الثقافية الأصلية. 

 وتتناول أبحاث ماكوفي نظرة المدن والبيئات الأخرى إلى الأقليات. وتشير إلى أن قرار الانتقال إلى بيئة جديدة يعتمد على مدى الاندماج الثقافي للمهاجرين ضمن تلك البيئة. ولعل أبرز النتائج التي توصلت إليها ماكوفي في أحدث دراساتها، بالتعاون مع زميلتيها ميلينا بالاتس واناهيت سرجسيان من جامعة نيويورك أبوظبي، تفيد بأن الاختلاف الديني قد يشكل الحاجز الأهم أمام الاندماج ضمن الأحياء السكنية والمدارس وسوق العمل. 

وأجرت ماكوفي دراسة بحثية تناولت كيفية تعامل الأشخاص مع هوياتهم الثانوية، وبشكل خاص كيفية تعاملهم مع المعلومات المتعلقة بانتماءاتهم وآرائهم المختلفة. وأضافت: "قد لا نشعر بالارتياح لمشاركة آرائنا الخاصة مع أشخاص مختلفين عنّا، وهذا ما يدفعنا لعدم البوح بها أو التظاهر بأننا نملك آراءً سياسية مختلفة نتيجة الخوف من سوء المعاملة. وقد تُلاحظ هذه الظاهرة بصورة أكبر في المدن، حيث يتفاعل الناس مع كثير من الغرباء أو الأشخاص الذين تجمعهم معرفة سطحية. وبعبارةٍ أخرى، فإن هذا التوجه قد لا يكون شائعاً في المناطق ذات الكثافة السكانية الأقل، حيث يعرف الجميع بعضهم البعض، وبالتالي لا توجد مساحة كافية لمواربة الآراء الشخصية على سبيل المثال".

وفي دراسة أخرى أجرتها بالتعاون مع ماريا اباسكال واناهيت سرجسيان، توصلت ماكوفي إلى أن هذا النوع من الادعاء قد يؤدي إلى آثار سلبية للغاية. 

 وما يزال الانفتاح يُجسد قيمة هشّة في حقبة العولمة التي نعيشها حالياً؛ إذ يزداد حرص الدول على انتخاب مسؤولين يمثلون الغالبية السكانية، ما يحد من سويات التنوّع التي كانت سابقاً موضع دعم وتأييد. وبهذا الإطار، يفيد هذا البحث والجهود البحثية المستقبلية التي تجريها جامعة نيويورك أبوظبي في تقديم فهم أفضل لأنماط التفاعل الحضرية المعقدة والدقيقة، الأمر الذي من شأنه تزويد المسؤولين وصناع السياسات بالقدرة على الوصول إلى قرارات تفيد في إنشاء مدن أكثر تقبلاً وانفتاحاً في المستقبل.