عندما عاد بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية فى 2021 كان أحد أبرز أهدافه الخبيثة مع الحكومة اليمينية المتطرفة هو مشروع إعادة إحياء الاستيطان من خلال إعادة بناء المستوطنات التى تم تفكيكها سواء فى غزة أو فى الضفة الغربية، واتخذ نتنياهو من هجمات السابع من أكتوبر ذريعة لتنفيذ هذا المشروع تحت مزاعم منع تكرار هذه الهجمات.
ليست غزة آخر ما يطمح إليه نتنياهو ، فبمجرد الإعلان عن صفقة تبادل الأسرى ووقف الحرب فى غزة ، بدأت قوات الاحتلال فى مهاجمة جنين فى الضفة الغربية، فى محاولة لفتح جبهة جديدة للحرب أقل شراسة من غزة، لكنه فوجئ بمقاومة عنيفة من أهالى جنين.
ومع ذلك ليست الضفة أيضا آخر طموحاته، إنه يطمح إلى الشرق الأوسط الجديد، وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى التى حمل خريطتها فى الأمم المتحدة فى سبتمبر 2023. ولذلك فإن هناك ثلاث خفايا وراء تصريحات ترامب بتهجير أهالي غزة:
١- حقل غاز مارين: شكلت غزة على مر العصور مطمعا هاما بالنسبة للقوى الإقليمية، بسبب موقعها الجغرافي المتميز وتواجدها على مفترق الطرق بين ثلاثة قارات، ويعتبر غاز غزة أحدث هذه المطامع التى يسعى الجميع للاستيلاء عليها، ويعد حقل مارين الذى يبعد عن ساحل غزة بحوالى 30 كيلو مترا، ويقدر مخزون الغاز الطبيعي فيه ب 32 مليار متر مكعب، وقيمته السوقية وفقا لتقديرات صندوق الاستثمار الفلسطيني الذى أصدر تقريرا فى 2019 عن هذا الحقل، بحوالى من 6 : 8 مليار دولار، ويؤكد التقرير إمكانية توفير 8 مليار دولار على مدار 20 عاما، هى قيمة ما تستورده فلسطين من كهرباء من إسرائيل، لم تتمكن حكومة حماس من الاستفادة من حقل الغاز أو تطويره نتيجة العراقيل التى وضعتها إسرائيل لمنعها من الاقتراب من الحقل، ومنها مرور خط أنابيب الغاز الخاصة بالحقل من أراضيها لكى تتحكم فيه وفقا لمصالحها رغم أن القوانين الدولية تسمح للفلسطينيين باستغلال مواردهم الطبيعية، وحقهم فى المطالبة بتعويضات عن استغلال هذه الموارد. وقد جاءت تصريحات ترامب بضرورة تهجير سكان غزة وتنظيفها تماما لتعيد للمشهد فكرة إستيلاء إسرائيل على حقل غاز مارين الفلسطيني.
٢- أكذوبة النصر: بهذا المعنى كتب الصحفى الإسرائيلي الشهير جدعون ليڤى يوم الأحد الماضي مقالا بصحيفة هآرتس تحت عنوان "نعتقد أننا متحدون" ، استعرض فيه اتفاق وقف إطلاق النار بين حركة حماس وإسرائيل وعملية تبادل الرهائن والسجناء، ثم توقف عند مشهد إطلاق سراح المجندات الإسرائيليات الأربعة، واصفاً ما حدث فى إسرائيل بأنه احتفالات كاذبة بالنصر، قائلا: "إن ما حصل يوم السبت عند إطلاق سراح المجندات كذب ووهم ، لقد كُذّبنا يوم السبت، لقد تحطمت كذبة النصر الكامل على حماس، في ضوء قيام حماس المنظمة المسلحة، صاحبة السيادة في غزة، بإقامة احتفال تحرير على مسرح مع بعض التفاصيل الأخرى"، يرى ليفى أن حماس أدارت حربها مع إسرائيل بدرجة عالية من الحرفية وبطريقة أذهلت العالم وأسقطت نظرية الأمن الإسرائيلي التى تم ترويجها على مدار عشرات السنين ، ويعد ليفي أحد الأصوات القليلة التي تعارض الاحتلال وتصف إسرائيل بأنها نظام عنصري، وقد جاء مقاله لاذعا يصف بدقة مشهد تسليم المجندات الأسيرات لدى حماس منذ أكثر من عام بأنه نصر كاذب. كان من الضرورى أن يبحث ترامب عن مشهد مضاد يعيد الهيبة لكرامة إسرائيل المهترئة فلم يجد أفضل من استدعاء الفكرة التى سبق وأن طرحتها إدارة بايدن عقب أحداث السابع من أكتوبر ، وقوبلت برفض شديد من مصر والأردن، ظنا منه أن أوامر إدارته ستكون سيفا على الرقاب، وأنه سيأمر فيطاع، إلا أنه فوجئ برفض أكثر حزما وقوة من الجانبين، ليمتد الخط الأحمر الرافض للتهجير من مصر إلى الأردن، متزامنا مع طوفان هادر من الفلسطينيين المتجهين إلى بيوتهم فى شمال غزة سيرا على الأقدام لمسافة أكثر من عشرين كيلو مترا، قاطعين طريقهم للعودة بروح معنوية عالية ، وقاطعين على ترامب طريق التهجير القسرى الذى يريد أن يفرضه عليهم عنوة.
٣- إحياء اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية: كانت اتفاقيات التطبيع الخليجي الإسرائيلي آخر ما أنجزه ترامب فى ولايته الأولى فى سبتمبر 2020، فقد وقعت دولتا الإمارات العربية المتحدة والبحرين على اتفاقيات إبراهام ، التى تقضى بإقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع إسرائيل، وانضمت إليهما المغرب والسودان لاحقًا، وكانت السعودية قاب قوسين أو أدنى من التطبيع لولا عملية طوفان الأقصى التى جمدت كل المفاوضات بين الجانبين، كانت الاتفاقيات بمثابة بداية فصل جديد من التعاون العربى الإسرائيلى، وقتها أعلن ترامب تصريحه الشهير: "لقد حان فجر الشرق الأوسط الجديد" .. ويعود ترامب الآن بعد أيام من تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة ليستكمل ما بدأه فى ولايته الأولى ، ليعيد الاتفاقيات الإبراهيمية للواجهة، وبالطبع لن يتقبل العرب عودة العلاقات بهذه البساطة بعد كل جرائم الحرب والإبادة التى ارتكبتها إسرائيل فى غزة ، فكان لزاما على ترامب أن يبحث عن أوراق ضغط يستخدمها ضد الدول العربية كى تهدأ وتستكين وتعود لطاولة المفاوضات، وأول هذه الأوراق هى ورقة تهجير الفلسطينيين من غزة وتنظيفها تماما وفق تعبير ترامب، الأمر الذى يؤكد الرغبة المحمومة فى احتلالها مجددا، والاستيلاء على مقدراتها، وهى ورقة حرقتها مشاهد العودة الفلسطينية لبيوتهم المهدمة فى الشمال وتمسكهم بأرضهم حتى آخر نفس. مرددين أبيات الشاعر الفلسطينى توفيق زياد
هنا على صدوركم باقون ، كالجدار نجوع .. نعرى .. نتحدى
ننشد الأشعار ونملأ الشوارع الغضاب بالمظاهرات
ونملأ السجون كبرياء
ونصنع الأطفال .. جيلا ثائرا .. وراء جيل
كأننا عشرون مستحيل..
فهل تكفى هذه الحشود الفلسطينية الهادرة المتشبثة بأرضها ليهدأ سيد البيت الأبيض ويعود لصوابه، ويدرك أن الأوطان لا تباع ولا تشترى ، وأنه كما يرفض دخول المهاجرين غير الشرعيين إلى بلاده، فليس من حقه أن يفرض الهجرة على أى شعب أو دولة، ولماذا لا يفكر فى الطرح البديل لتهجير الفلسطينيين، والذى طرحه عباس عراقجي وزير خارجية إيران خلال مقابلة مع شبكة سكاي نيوز البريطانية: "اقتراحي مختلف..بدلاً من الفلسطينيين، دعهم يحاولون ترحيل الإسرائيليين، ونقلهم إلى جرينلاند.. بهذه الطريقة يمكنهم ضرب عصفورين بحجر واحد".. أليست فكرة عبقرية تريح الشرق الأوسط كله من هذا الكابوس.
------------------------------
بقلم: سحر عبدالرحيم