صدر حديثًا في القاهرة كتاب حرره الباحث المصري ممدوح الشيخ، ويضم فصولًا هذا الكتاب فصول منتقاة مُحررة من شهادة الوزير الشهيد صالح مسعود أبو يصير على جهاد الفلسطينيين. مؤلف الكتاب سياسي ليبي وُلد في بنغازي سنة 1925، وأرسله والده إلى القاهرة سنة 1937 ليلتحق بالأزهر الشريف. وطوال إقامته للدراسة، التي استمرت حتى سنة 1946 ساهم في معظم الهيئات السرية التي أسسها الطلبة الليبيون في مصر الرافضة للاستعمار الإيطالي وجرائمه.
أنشأ اللجنة الإسلامية عام 1968 وتبنت تحمل تكاليف دراسة الطلبة الفلسطينيين، وهي الدعوة التي استجاب لها مئات الليبيين وغيرهم، أعد رسالة ماجستير عن جهاد شعب فلسطين. بعد قيام ثورة سبتمبر، وتحديدًا يوم 8/9/1969 عاد إلى ليبيا وكلف وزارة الخارجية. وفي 16-8-1971 تولى وزارة الإعلام.
شرع في إعداد رسالة دكتوراه عن جهاد الشعب الليبي ضد الغزو الإيطالي، ولكن الوقت لم يمهله، إذ رحل عنا يوم 22/2/1973، حيث أسقطت إسرائيل طائرة ركاب مدنية من فوق صحراء سيناء، وكان من بين ضحاياها الوزير صالح مسعود أبويصير.
الكتاب أطروحة أكاديمية حصل بها على درجة الماجستير في التاريخ وصدرت طبعته الأولى بتقديم الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. ويتميز بالإحاطة الدقيقة بأحداث خمسين عامًا – بتفصيل شديد – على المستويين الرسمي والشعبي.
وفي المقدمة يقول محرر الكتاب – ممدوح الشيخ – إنه اختصر الكتاب من ما يزيد على 600 صفحة من القطع الكبير لتيسير وصوله إلى أوسع دائرة ممكنة، وهو دفاع مجيد عن الحق الفلسطيني بالوقائع. ويثير الكتاب قضايا تبلغ الغاية في الأهمية غابت عن القسم الأكبر من الخطاب العام حول فلسطين، فضلًا عن أنه يفند اتهامات ألصقت زورًا بالشعب الفلسطيني.
أول القضايا التي يثيرها الكتاب وأكثرها أهمية – دور بريطانيا – ومن بعدها أمريكا في المشروع الصهيوني والدور الكبير للعقائد الدينية في تأسيس إسرائيل. فحسب الدكتور ويليام تومسون أسقف يورك (1875) فإن سبب اتجاه البريطانيين نحو فلسطين والاهتمام بها هو أنها حسب تعبيره "بلدنا"، وهي بلده لأنها أعطته "القوانين التي يحاول العيش بها"، كما أعطته "أعظم معرفة"، ويعني بذلك كتاب الأمة العبرية ورسلها. وقد أصبح بمرور الوقت، كما قال توماس هكسلي "الملحمة القومية لإنجلترا". ولمئات السنين توجه الإنجليز بأبصارهم لفلسطين بحثاً عن أسلافهم.
وبدأت معرفة البريطانيين بالكتاب المقدس المترجم إلى اللاتينية، وتُظهر أقدم مقالة في تاريخ إنجلترا "رسالة جيلداس" (550م) دراية كاملة بالعهد القديم، وفيها حكايات عن اعتداءات قام بها الساكسون والجوت والدنماركيون على قريته، وهو يقارنها باضطهاد الآشوريين القدماء لبني إسرائيل القدماء وبعد كل معركة كان يستعير تشبيها من العهد القديم.
وظهرت قصة أخرى لارتباط بريطانيا بفلسطين، والرابط الحقيقي بين إنجلترا القديمة وأرض كنعان يعود إلى عهد موسى بواسطة الفينيقيين، وقد تمسك البريطانيون القدامى بهذه الشعوب ونسبوا لها اكتشاف بريطانيا وإعمارها ولا يتم الحكم على هذه الفكرة بمدى معقوليتها أو صحة أدلتها بل بقدر تأكيدها فكرة الصلة بأرض كنعان.
وقد تضاعفت الجهود للبحث عن الأصول الدينية للقومية البريطانية، وهو ما تطلـَّب وجود مؤسس ذي حضور قوي وكان هذا الشخص "يوسف الرامي"، وهو يهودي غني كان – سراً – حوارياً للمسيح، ونشأت أسطورته في كنيسة جلاستنبري الأقدم في بريطانيا، وإليه يرجع الفضل في وجودها. وفي حقبة الحروب الصليبية كان هناك دور مركزي بريطاني في هذه الحروب، ومثل القوارض الآدمية كان كل جيل من الصليبيين يلقي نفسه في إثر آبائه، وأصبحت فلسطين الوطن الثاني والمقبرة لنصف أسر أوروبا!.
وكان واعظ الحملة الصليبية لثانية القديس برنارد أوف كلايرفو يفخر بأنه لم يترك سوى رجل واحد لتعزية كل سبع أرامل. وكان مما جعل هذه الأرض البعيدة شديدة الألفة أن البريطانيين دأبوا على الذهاب إليها على مدى قرنين، فكان من المعتاد أن يستقر أو يحارب أو يموت ثلاثة أو أربعة أجيال من أسرة واحدة في فلسطين.
وإلى يومنا هذا توجد حانات تحمل شعار "رأس العربي"!.
وحسب مؤرخ اللورد بلفور، فإن اهتمامه بالصهيونية راجع لتعلمه العهد القديم على يد والدته. وأينما سيطر الإصلاح حل الكتاب المقدس محل البابا كسلطة روحية عليا، وحلت كلمة الرب كما هي في العهد القديم محل الأوامر البابوية، وازداد التركيز على الأصول الفلسطينية للمسيحية لإضعاف مركز روما. و"لم يتغلغل كتاب آخر في دماء وعروق البريطانيين كما فعل هذا الكتاب".وعرفت الأجيال الإنجليزية المتعاقبة الكتاب المقدس، وأن الله واحد وأن اليهود شعب اله المختار لينقل رسالته ويعيش بها مهما كان قصوره. ولا نستطيع أن نحدد التاريخ الدقيق الذي أصبحت بعده إنجلترا بروتستانتية وأصبح إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب إله الإنجليز. ولفترة وجيزة خلال القرن الثالث عشر ازدهرت منح دراسة اللغة العبرية وصار لليهود واحد من أكبر تجمعاتهم في أكسفورد.
وقد تغلغلت فكرة المجيء الثاني للمسيح في الوجدان البريطاني، وتلك كانت بريطانيا كرومويل "خادم الرب بسيفه وبكتابه المقدس". وفي عام 1648 صدر مرسوم التسامح مع كل الأديان وخرج مفكرو البيوريتانيين بخطة دعوة اليهود مجددًا إلى إنجلترا لتحويلهم للمسيحية بأسرع ما يمكن. والحرص البريطاني على استعادة إسرائيل ذو أصل ديني بلا جدال، لكن الدين لم يكن كافيًا لولا تدخل السياسة والاقتصاد. ومنذ كرومويل حتى الآن فإن كل اهتمام بريطاني بإسرائيل مدفوع بهدف الربح التجاري أو العسكري أو الاستعماري، وبهدف ديني موروث في آن واحد. وكما هو الحال الآن "يجب أن تبقى المنطقة من القاهرة للقسطنطينية في يد أي طامع في حكم العالم"، وتلك هي القضية التي عرفت في القرن التاسع عشر باسم "المسألة الشرقية" وهو اسم ذو مذاق فيكتوري قديم إذ يجعل سامعه يفكر في القلاع والحصون والمطارنة والمعاهدات السرية والقياصرة والباشوات والبكوات ودزرائيلي وقناة السويس و....
الكولونيل تشارلز هنري تشرشل (أحد أسلاف وينستون تشرشل) ألقى خطابًا مهمًا قال فيه إنه يأمل أن تكون ساعة "تحرير" إسرائيل تقترب ووصف بريطانيا بأنها الدولة الوحيدة المشجعة للآمال اليهودية.
وجولة المواجهة التي انطلقت في السابع من أكتوبر 2023 أعادت طرح أسئلة تتصل بهذا الصراع وأبعاده السياسية المباشرة، فضلًا عن أصوله العقائدية وأبعادة الاستراتيجية الأبعد مدى، لكنها في الوقت نفسه كشفت الحاجة الكبيرة إلى توفير أدبيات أكثر بساطة – وتفصيلًا – للجيل الأصغر سنًا الذي حرم من أن يحصل على قدر كافٍ عن القضية ووجد كثير أبنائه أنفسهم يسألون ويغرقون في بحر من الأكاذيب والتحريفات وأشكال التنميط التي تججب الحقيقة حاضرًا وماضيًا.
في بداية الكتاب يتساءل صالح مسعود بو يصير: هل لليهود علاقة بفلسطين؟ هل لهم واقع تاريخي يسمح لهم بأن يطالبوا بها؟ هل يحفظ لهم التاريخ ذكرى تسبق ذكرى العرب وتاريخهم، أو تستطيع أن تزحزح من واقع العرب في فلسطين؟
وتبدأ فصول الشهادة التي اختارها محرره – ممدوح الشيخ – من الاحتلال البريطاني لفلسطين، حيث تمَّ للإنجليز ما أرادوه، وأصبح سلطانهم العسكري هو المهيمن الوحيد في فلسطين، حين أتموا احتلال جميع أطرافها في أواخر عام ١٩١٨، وأدرك شعب فلسطين أنه يواجه مؤامرة خطيرة، قد تودي به إلى مصير أليم.
وهكذا أصبح الشعب العربي في فلسطين يئن تحت الحكم العسكري البريطاني الذي بدا واضحًا من أول وهلة أنه ينفذ برنامج التهويد. ولا يحتاج الأمر إلى تساؤل، فالوطن القومي اليهودي فسره اللورد كيرزون تفسيرًا واضحًا حين قال:"إن الوطن القومي مفاده كيان سياسي يؤلفه اليهود، ويدير شؤونه اليهود، ويحكم وفقا لمصالح اليهود".
ولابد من فتح باب الهجرة اليهودية من جميع أنحاء العالم، حتى يتكاثروا ويكونوا أغلبية أو شبه أغلبية، ولا بد من أرض يستولون عليها، فهجرة دون أرض هي اغتراب لا يساعد على تنفيذ البرنامج الصهيوني، والهجرة لا بد لممارستها من دولة تحميها، وتلك الأرض التي يسعون لامتلاكها لن تكون سهلة ميسرة ما لم تكن فلسطين واقعة تحت نفوذ دولة صدقت لهم الود، ومدت لهم اليد.
وخطب وايزمان في أواخر ١٩١٩ مدعيًا أن حالة اليهود في أوربا سيئة جدًا، ويجب ترحيل مليون يهودي إلى فلسطين، ليكونوا عمالًا وصناعًا مهرة، وأصحاب أموال. وتحركت المؤامرة في كل مكان تريد تأكيد الانتداب البريطاني وجعله حقيقة واقعة، وسارت بريطانيا شوطًا بعيدًا في تنفيذ مخططها فاستلت الموافقة على وعد بلفور من كبار الدول، وهي بذلك تقيم لليهود وطنًا وسط العرب، فتشغلهم به وتهددهم، وهي بذلك تفصل بين العالم العربي مشرقه ومغربه وهي بذلك تقيم دولة تشعر بفضلها، وتعمل بوحيها، إلى جانب قناة السويس التي كانت تعتقد أنها سيدتها وحاكمتها إلى أبد الآبدين.
وتأتي الأجزاء المختارة تحت عناوين: شعب فلسطين يواجه المحنة، صُوَر مِن تآمر الاسْتِعمار والصهيونية على فلسطين، ثورة العرب عام 1929، ثورة العرب الكبرى1936، لجنة بيل تقترح تقسيم فلسطين، التطوّرات الخطيرة أمام شعب فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، الحرب الرسمية ونتائجها ١٩٤٨ – ١٩٤٩، صلابة شعب فلسطين أمام المحن.
الكتاب: نصف قرن من جهاد الشعب الفلسطيني
فصول من شهادة الوزير الشهيد صالح مسعود أبو يصير
تحرير وتقديم: ممدوح الشيخ
الناشر: مكتبة بيروت (القاهرة – مسقط)
الطبعة الأولى: 2025
الحجم: 225 صفحة من القطع الكبير.