بمجرد أن أعلنت نتيجة الانتخابات الأمريكية بفوز دونالد ترامب الذي يمثل اليمين المتطرف الأمريكي ، هللت بعض أوساط " المثقفين " العرب مرحبة به ، رغم أنه لم يخف أبداً احتقاره للعرب ، واستخفافه بقياداتهم ، ورغم حقيقة أنه كان الرئيس الأمريكي الأول الذي أسبغ شرعية علي إجراءات الكيان الصهيوني ، وأعلن نقل سفارة أمريكا إلي القدس والإعتراف يها عاصمة للكيان المغتصب .
ومن عجب ، أن بعض المتأمركين العرب ، بدأوا علي الفور ينظرون بفوائد تولي هذا الكاوبوي قيادة أمريكا ، وفي " إستلاب " مدهش يروجون أن لديه حلول لمشاكلنا في الشرق الأوسط ، لأنه جريء وواقعي ، وليس حالماً مثل المثاليين العرب الذين أضاعوا الأوطان بأحلامهم الفاشلة .
وقد أعاد ذلك إلي ذاكرتي علي الفور ، مرحلة تاريخية شهدت ما يشبه ذلك في مصر في ظل صعود الفاشية والنازية في أوروبا خلال فترة ثلاثينيات القرن الماضي ، حين ساد الإعتقاد بأن الشعوب التي عانت من وحشية الإستعمار الأوروبي تحتفل بهذا الصعود القوي لألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية ، علي اعتبار أن ذلك قد يحقق لتلك الشعوب الإنتقام والإستقلال ، ولو كان علي أيدي غيرهم ، علي قاعدة " عدو عدوي صديقي " ، وأن " تحررنا " ممكن علي أيدي غيرنا ، دون أن تتسخ أيادينا الناعمة !!.
وفي يوليو ١٩٤٢ نجح الفيلد مارشال الألماني إرفين رومل في الوصول إلي منطقة العلمين المصرية بعد معارك نجح فيها ثعلب الصحراء الألماني في هزيمة قوات الحلفاء التي كانت تنسحب أمامه ، حتي صار الجميع يتوقع إحتلال مصر والوصول إلي قناة السويس في زمن قصير .
وتحمل أدبيات تلك الفترة العديد من الروايات التي تحكي عن مدي ترحيب الشعب المصري وقياداته الوطنية بالجيش الزاحف في صحرائنا الغربية ، علي اعتبار أنه سيحرر مصر من الاحتلال البريطاني ، بل لقد روي الرئيس المصري الأسبق السادات ، حكايات متعددة عن دور له في الإتصال مع رومل خلال تلك الفترة الساخنة ، ووصلت المبالغة في وصف هذا الدور منتهاها في لقاء شهير مع المذيعة التليفزيونية همت مصطفي احتفالاً بعيد ميلاده ، حين أكد أنه كان علي وشك توقيع إتفاق مع رومل لولا أن المخابرات البريطانية كشفت إتصاله مع وسيط ألماني أسمه " إبلر " كان يقابله في عوامة بالنيل ، مع بعض المشهيات المعتادة في قصص الجاسوسية ، حول دور وطني لراقصة مصرية اسمها حكمت فهمي في التغطية علي الضابط الأسمر الشاب في عوامتها علي النيل .
وقيل أن المجتمع المصري في تلك الفترة كان يمر بمرحلة شائكة كفر فيها بتجربته الليبرالية ، خاصة بعد تجربة إسماعيل صدقي باشا الذي قام بإلغاء دستور ١٩٢٣ ، والذي كان يعد بحق دستور ثورة ١٩١٩ ، بل وقيل أن إغراء النماذج الفاشية والنازية في أوروبا كان خلف بروز جماعة الإخوان المسلمين عام ١٩٢٨ ، وتأسيس جماعة " مصر الفتاة " عام ١٩٣٣ ، علي أساس التسليم بفشل التجربة الليبرالية المصرية ، والإعتقاد بحيوية وفاعلية التجارب الشمولية سواء الفاشية والنازية أو الشيوعية .
وقيل أيضاً أن قيام السفير البريطاني في ٤ فبراير ١٩٤٢ ، السير مايلز لامبسون بإقتحام قصر عابدين ومحاصرته بالقوات لإجبار الملك فاروق علي استدعاء زعيم حزب الوفد كي يشكل حكومة ، قد أثار الشعور الوطني الغاضب ، وأن المظاهرات خرجت هاتفة : " إلي الأمام يا رومل ! " ، كي يرفع عن مصر هذا العار .
وفي الواقع نحن في حاجة لإعادة قراءة تلك الفترة الحرجة من تاريخنا ، ويكفي مثلاً أن أشير في هذا الصدد أن رواية السادات عن " إتفاقيته مع رومل " ، كانت في نماذجها المختلفة مجرد خيال خصيب للرئيس المؤمن رحمه الله ، فقد كنت في شبابي قد وقعت علي كتاب كتبه الجاسوس الألماني إبلر ، الذي زعم السادات أنه كان يتوسط بينه وبين رومل ، وعنوان الكتاب " The Cats and Mice " أو " القطط والجرذان " ، ويحكي فيه قصته في مصر كاملة ، ولم يتضمن أي إشارة للمفاوضات التي زعمها السادات ، بل أن إسم السادات لم يرد سوي مرة واحدة ، حين أشار إلي أن تعليمات تشغيله في برلين تضمنت أنه في حالة الطوارئ فقط يمكنه الإتصال بضابط مصري وطني اسمه " عزيز المصري " ، لذلك عندما تعطل جهاز اللاسلكي الذي كان يستخدمه ، قام بالإتصال بهذا الضابط الذي أرسل إليه ضابط إشارة مصري لإصلاح الجهاز اسمه " السادات " ، الذي فشل في إصلاح الجهاز وسارع في إخلاء العوامة خشية اكتشاف أمره !!! ..ومع ذلك ، تم تخليد هذا العمل الوطني الكبير في فيلم كانت البطولة فيه للراقصة حكمت فهمي التي قامت بدورها ممثلة إغراء مصرية لعبت بطولة العديد من الأفلام الوطنية !.
من الصحيح أن " عدو عدوي صديقي " ، ولكن ليس صحيحاً أن " ترامب " يمكن أن يكون عدواً للكيان الصهيوني ٫ بل من المحقق أنه سيكون معادياً لكل آمال التحرر والحداثة في بلادنا ، فليت "المثقفين المتأمركين " يكفون عن مزامير التبعية التي لا يملون عن النفخ فيها ٫ وليعلم كل من يهمه الأمر ، أن المراجعة الصحيحة لتاريخ مصر خلال فترة الحرب العالمية الثانية لا تنفي وجود أقلية آمنت وهتفت : " إلي الأمام يا رومل " ، وربما فكر بعضهم – مثل السادات – في " توقيع " إتفاقية تستبدل بغاصب غاصب أشد غباء وتسلط ، ولكن كان هناك من يرفض هذه الفكرة ، ويدافع عن العقل المصري ، والتجربة الليبرالية المصرية في مواجهة الأفكار الفاشية والنازية ، والقاعدة هي : " لن يحك جلدك مثل ظفرك " .
وختاماً ، أرجو أن يكون الهتاف : " إلي الوراء يا ترامب ! " ، سوف نحصل علي حريتنا ، ونبني بلادنا بأيدينا ، ولن تكون في تاريخنا سوي مجرد هامش ، ومعك " المتأمركين العرب " ، بما لا يختلف عن شواهد مقابر العلمين التي تشير إلي جيش رومل ! .
----------------------
بقلم : معصوم مرزوق
* مساعد وزير الخارجية السابق