30 - 05 - 2025

ساحة الانتظار في "الانتظار"!

ساحة الانتظار في

هي المرة الأولى، بعد ثورة 25 يناير 2011 التي تنتفض خلالها فئات من المجتمع المدني ممثلة في نقابات الصحفيين والمحامين والمهندسين في مواجهة ما يمكن وصفه بإيجاز، "تغول" بعض الشركات المالكة لسلاسل معامل التحاليل على أعضاء النقابات الثلاث وفرض زيادات مضاعفة على أسعار خدماتها المعملية كأمر واقع، على النقابات الإذعان له.

والأمر الواقع يشير بوضوح إلى أن "التغول المعملي" جاء تتويجا لسياسة الاحتكار التي تتسرب إلى عديد من القطاعات والانشطة الاقتصادية في مصر.. وها نروح بعيد ليه!، الدولة بذات نفسها تحتكر إنتاج واستيراد سلع وأنشطة بعينها، على مرأى ومسمع من الناس، في الشوارع وتحت الكباري، واضطرت للقيام بدور المستورد، لكسر الاحتكار وتوفير بعض من السلع، بأسعار أقل.. مشكورة الدولة، إلا أن ذلك لن يقضي على الاحتكار، طالما أن السوق المصري بلا ضوابط حاكمة، سوق مرتهن لإرادة حكومية، تفتقد الرؤية، تدور في حلقة مفرغة بسياسات عقيمة ثبت فشلها من قبل ومن بعد.

الأمر الواقع يشير كذلك، إلى أن "التغول المعملي" مجرد نوع من أنواع التغول الصحي عموما في مصر .. أسعار الخدمات الطبية في المستشفيات العامة والخاصة وعيادات الأطباء، تتضاعف، والخدمات المقدمة للمرضى تتراجع جودتها بحدة.. لكن المشكلة الأكبر، أن القطاع الصحي كله، الحكومي والخاص، يتغول على الطبيب، العنصر الأول والأهم في الخدمة الصحية، ويتعامل معه باعتباره موظفا حكوميا يخضع لنفس لوائح وأحكام العاملين بالدولة، ما يفسر تفضيل الأطباء العمل بالخارج، والعجز في عدد الأطباء الذي يقدر بـ44 ألف (إحصائية 2022).. الدولة والقطاع الخاص، يتغولون على الأطباء وعلى المرضى، البسطاء منهم، والأغنياء.

الأمر الواقع يقول أن التغول الصحي، ليس ذئبا منفردا، إنما حالة اجتماعية، تمتد إلى أغلب القطاعات العامة والخاصة.. حتى على مستوى العلاقات الإنسانية، ستجد "التغول" ينتزع حقوق الأفراد بسيف القوة أو النفوذ..

الخطوة الجسورة التي اتخذها الصحفيون والمحامون والمهندسون، انتفاضة مدنية، في مواجهة "حالة التغول المجتمعي" الذي يعيشه المصريون، خطوة تعيد الأمل في المجتمع المدني، الذي يرفض الإذعان للمحتكرين، ويدافع عن حقوق الأفراد والجماعات، ويضغط على الحكومة بقوة الدستور الذي ينص على أن الشعب مصدر السلطات.. عودة المجتمع المدني مرة أخرى، وحضوره في لحظة تاريخية صعبة على المصريين، تُنذِر ولا تُبشِر، تؤكد أن الطبقة الوسطى ما تزال فتية رغم الضربات المتلاحقة التي تتعرض لها في مأكلها ومشربها وصحتها وتعليمها.. الطبقة الوسطى في مصر لن تتنازل عن حلمها في مجتمع يراقب السلطة ويلاحق المحتكرين والفاسدين، ينتصر للقانون، والحق.

ربما يعيدنا الموقف الجسور للنقابات الثلاثة، إلى مشهد أبناء الطبقة الوسطى، في ميدان التحرير عقب تنحي الرئيس الراحل حسني مبارك، عندما قاموا بتنظيف الشوارع وتلوين الأرصفة وغيره من سلوك يعكس رغبة جيل جديد من أبناء الطبقة الوسطى في العمل من أجل الوطن، ويعلن أن الطبقة الوسطى جاهزة، بثقافتها وعقائدها وموروثها، لحمل لواء النهضة، ومقاومة التخلف، رغم جلدها بسياط التغول عليها من كل حدب وصوب، وتحميلها فاتورة فساد الجهاز الإداري للدولة.

الخطوة النقابية الجسورة، نقطة انطلاق، للنقابات الأخرى وكل الكيانات الاجتماعية داخل المجتمع، للاتحاد فيما بينها في مواجهة الاحنكار والاستغلال والجشع الذي بات سمة السوق الاستهلاكي في مصر، طالما بقي الأمر على ما هو عليه، واستمرت الحكومة في "تغولها" على الجميع، تضع لافتة "ممنوع الاقتراب والتصوير" إلا لمن ترى فيهم مواصفات السمع والطاعة، وهؤلاء يتغولون على آخرين يتغولون على آخرين.. تكاثر التغول في بلدنا لأن الحكومة لا تعير القانون الاحترام الذي أوجبه الدستور.

الخطوة النقابية الجسورة تعيد الثقة في المجتمع المدني، وقدرته على سد الفراغ الذي تركته الدولة في "ميدان" حماية المستهلك، واعتقد كُثُر منا أن هذا الميدان حولته الإدارة الحكومية إلى ساحة انتظار للسيارات الفارهة، إلا أن المجتمع المدني، وفي القلب منه الشرائح المتعلمة من الطبقة الوسطى، يبدي، رغبة جامحة في استخدام حقه الشرعي والدستوري في الدخول بسيارتهم المتواضعة إلى ساحة الانتظار.. نجح البلشي نقيب الصحفيين، بصحبة عبد الحليم علام نقيب المحامين، وطارق النبراوي نقيب المهندسين، في الدخول بسياراتهم "المتواضعة" إلى ساحة الانتظار.. والأخيرة في الانتظار..فمن يتقدم؟
--------------------------
بقلم: أحمد عادل هاشم


مقالات اخرى للكاتب

أسكتْ ساكتْ !