عالم النفس والمفكر الكبير إيريك فروم، الذي وضع العديد من الكتب التي تبحث أغوار النفس الإنسانية، والتي يعد كتاب "الخوف من الحرية" أشهرها، له كتاب مهم صدرت طبعته العربية في جزئين بعنوان "تشريح التدميرية البشرية"، الصادر في عام 2016 وله كتاب آخر ترجمة الأستاذ سعد زهران نشر في سلسلة عالم المعرفة في أغسطس 1989، بعنوان "الإنسان بين الجوهر والمظهر"، وهي ترجمة بتصرف للعنوان الإنجليزي للكتاب وهو "أن تملك أو أن تكون"، وأيضا كتاب "الإنسان المستلب وآفاق تحرره"، الذي نشرت ترجمته العربية في عام 2003. هناك جملة وردت في تعليق الأستاذ الدكتور حسن حماد على مداخلات جمهور ندوة صالون "علمانيون"، دفعتني لاستدعاء هذه الكتب المشار إليها، وتعبر هذه الجملة التي قالها في محاولة لتحليل الأسباب التي تدفع الإنسان للإذعان للقمع مقدساً كان أو غير مقدس، وأشار في هذا الصدد إلى كتاب "الخوف من الحرية"، الذي ترجمه الأستاذ مجاهد عبد المنعم مجاهد وإلى كتاب "العبودية المختارة: مرافعة ضد الطغيان"، الذي نشر في القرن السادس عشر، ونقله إلى العربية في طبعة قديمة الدكتور مصطفى صفوان، وصدرت ترجمة عربية أحدث له عن دار الساقي في عام 2016.
بالمصادفة، أعكف الآن على قراءة كتاب "السرب البشري: كيف تنشأ مجتمعاتنا وتزدهر وتسقط"، الذي صدر مؤخراً في جزئين عن سلسلة عالم المعرفة وهو دراسة فلسفية مهمة لعالم الأحياء الأمريكي مارك موفيت، تحاول فهم تكون المجتمعات البشرية في سياق الظاهرة البيولوجية باعتبار أن البشر مكون له تمايز خاص في سياق هذه الظاهرة. هذه الكتابات، بما في ذلك كتاب "القمع المقدس"، تقدم على اختلافها رؤية فلسفية عميقة لأزمة الإنسان، وكيف تتعامل الأديان والعقائد الكبرى مع هذه الأزمة أو تستغلها من أجل استعباده. السؤال المحوري في كتاب "القمع البشري"، وفي الكتب المذكورة، هو لماذا يقبل الإنسان طواعية الإذعان والاستعباد؟ الإيمان في جوهره هي محاولة لتحرير الإنسان، واعية لميل الإنسان لأن يكون مستعبداً، بدفع الإنسان لعبودية الإله الخالق وتحريره من أشكال العبودية الأخرى، لكنها تترك فجوة تتعلق بميل وثني لدى الإنسان تجعله عاجزاً عن إدراك وفهم الإيمان بفكرة متعالية ومتجاوزة الواقع المادي، ويسعى لملء هذه الفجوة رجال السلطة بدفع الإنسان من جديد لأن يكون عبداً للصور المختلفة للسلطة، ولا يمكن التحرر من هذا السعي دون التفكير النقدي وإعمال العقل، لكن العقل أو التفكير لا يكون دائما أو في معظم الأحيان الموجه للقرارات أو ما يصدر عن الإنسان الفرد من أفعال وأقوال.
تأتي هنا، محاولة مهمة وردت في كتاب من تأليف المهندس المصري نشأت جعفر بعنوان "القرآن وثالوث الاستبداد الديني والسياسي والمالي"، الذي صدر في القاهرة عام 2015 عن دار صفصافة، وعذراً للأصدقاء الذين يشعرون بحرج في نفوسهم لكثرة الاستشهاد بالكتب، إما عن جهل على الأغلب بأهمية الكتاب وقيمته في بناء الفكر وفي عمليات التفكير أو عن شعور بالنقص لعدم قدرتهم على القراءة أحياناً، يقدم هذا الكتاب فهماً أراه الأكثر دقة وإحكاماً للموقف من ثلاثية الاستبداد، حسبما ورد في آيات الذكر الحكيم، وهو جهد مشكور ومحمود للمؤلف توفيه قراءة الكتاب والتنويه إليه القليل جداً مما يستحقه، ومثل هذه الرؤية الصافية ما كان يمكن له الوصول إليه إلى التحرر من أوهام الكهف المترسخة في كتب التراث.
الوعي ومسيرة الإنسان نحو التحرر والارتقاء
استدعت كلمات الأستاذ الدكتور حسن حماد في تحليله لطبيعة الإنسان بكونه كائنا مجبولا على الأنانية ومملوءا بالغرور والنرجسية، وأضيف هنا تماديه في الحرص الشديد على إخفاء طبيعته القذرة من خلال المظهر والملبس، وكلما زاد حرصه على هذه الأشياء والتباهي بها واستعراضها للفت الانتباه واستثارة الإعجاب، كلما دل ذلك على مدى وضاعته وتدنيه الأخلاقي وشعوره بالنقص، استدعت هذه الكلمات لذاكرتي كتاب "الجين الأناني"، لريتشارد داوكينز، الصادر في عام 1989، والذي صدرت ترجمته العربية بعد ذلك بعشر سنوات. ويحاول داوكينز في هذا الكتاب تفسير الأنانية المجبول عليها الإنسان من خلال الاستفادة من دراسة الجينوم البشري، الذي قدم إجابات مهمة مرتبطة بالسؤال الرئيسي لماذا وجد البشر؟ من خلال البحث عن أسباب جينية متعلقة بالمورثات البشرية للأنانية والعدائية وصراع الأجيال والصراع بين الجنسين، وتوقفت عند عنوان الفصل العاشر من الكتاب وهو بعنوان "تخدمني فاستغلك"، لأنه كاشف لنقيصة أساسية في نفوس بعض المحيطين بنا، والذين نصادفهم في كثير من المواقف، والذي قيل بشأنهم العديد من الأمثال الشعبية من قبيل "المعروف لغير أهله ليس بمعروف" في إشارة لمردوده العكسي الذي يعبر عنها القول المأثور والشائع "اتق شر من أحسنت إليه"، خصوصاً إذا اعتبر هذا الإحسان نوعاً من "الشطارة" منه أو "الفهلوة"، أو ظناً منه أن حقيقته لن تكتشف. ربما يحتاج الشق الآخر من هذا المثل الأخير الذي يقترح اتقاء الشر "بمواصلة الإحسان" إلى مراجعة في بعض الحالات، التي يصل فيها الشر إلى حد خيانة الصداقة بالمعنى الحرفي للكلمة. يُراهن مثل هؤلاء الوضعاء ضعاف النفوس على روح للتسامح لدى الآخرين وينسون أنهم لم يبقوا لديهم أي مساحة لمثل هذا التسامح أو الود. وللأسف الشديد أن كثيراً من المفتونين بهؤلاء الأوغاد ممن تخلب أبصارهم المسوح الزائفة والرخيصة التي يرتدونها، غير قادرين على التحرر من تأثيرهم إلا بعد صدمات قد تكون مؤذية لهم نفسيا ومادياً، والأكثر إيلاماً أن المرء قد لا يملك لهؤلاء المُغرر بهم والمفتونين سوى الدعاء لهم بأن تُزال الغشاوة من على أعينهم في الوقت المناسب وقبل فوات الأوان، خاصة أن لمثل هؤلاء الأوغاد سجل حافل بالتلاعب بالبشر واستغلال مشاعرهم أسوأ استغلال وبأساليب هي أقرب ما تكون إلى أساليب النصابين والمحتالين، وليس هذا بمستغرب على من يحرص على تزييف حقيقته.
هذا جانب يسير من جوانب النقص في نفوس البعض والتي لا يكلف المصابون بها أنفسهم أي جهد للارتقاء والتسامي على الضعة والخسة والدناءة، بل يستمرؤون الأمر ويمضون في غيهم غير عابئين بمصائر من تلاعبوا بهم وبمشاعرهم والذي كانوا ضحايا لهم. ويكثر أمثال هؤلاء في المجتمعات في مرحلة الأزمات والانحطاط، والتي يرصدها عالم النفس المصري الدكتور أحمد عكاشة في كتابه "ثقوب في الضمير: نظرة على أحوالنا" الصادر عام 1993، وترصد العديد والعديد من البحوث الاجتماعية والنفسية، قصدت منه التفاعل مع رؤية فلسفية عميقة في محاولة الدكتور حماد تفسير ميل الناس للاستعباد الذي يوقعهم ضحايا للقمع وللعنف أحياناً، وقصدت من استعراض بعض مما قرأت بإمعان أو قراءة سريعة، لتوسيع دائرة الاهتمام والجهود لتفسير كثير من الحالات التي نصادفها في حياتنا اليومية، ولا قيمة لأي بحث أو علم لا يساعدنا على التفقه على شؤون دنيانا وفهم ما يدور حولنا، ومن هنا تبرز قيمة الكتابات التنويرية التي أشرت إليها وفي مقدمتها كتاب "القمع المقدس"، رغم كثرة "القمع غير المقدس" والأساليب القذرة التي نصادفها أو نكتشفها في حياتنا اليومية بقصد أو بدون قصد.
الحقيقة أن هذا الطرح ليس دافعه الأساسي الإشارة إلى وجود مثل هؤلاء الأوغاد حولنا، فقد تكون في الإشارة تنبيها لذوي الألباب الطيبين الذين يحلون في المرتبة الأولى، حسبما جاء في الفصل الثاني عشر من كتاب "الجين الأناني"، والتنبيه أيضاً إلى أن وجود مثل هؤلاء الذين يسهمون في خلق أجواء مسممة أمر لا يمكن تفاديه ولكن يمكن التعامل معه وفضحه ومحاصرته، والطريق الأساسي لذلك هو التسلح بالمعرفة والوعي، من اللافت في هذا الصدد أن مشروع البحث للمفكر وعالم النفس الأمريكي والألماني الأصل إيريك فروم الذي أشرت إليه في بداية المقال قائم على فكرة أساسية وردت في أنجيل يوحنا "وتعرفون الحق والحق يحرركم" (يو 8: 32)، والتي تعني أن الهدف والغاية الأساسية للإنسان هي السعي الدؤوب من أجل معرفة الحق والتحرر، مع الاحتفاظ بالقلق المعرفي وعدم الاطمئنان إلى وصوله للحق، كي لا يقع في أسر الحقيقة المطلقة كمالك لها أو خاضع تأثير مُلَّاكها، وهذا القلق وثيق الصلة بالمبدأ الثاني في مشروع فروم الفكري، والمتعلق بالفكر المنظم والبحث المعمق في معرفة مجتمع البشر، والذي تتضافر فيه نظم معرفية مختلفة على النحو الذي تكشفه الدراسات الحديثة.
والانشغال بالسؤال المحوري في مسيرة الإنسان نحو التمدين أو التحضر وتفسير نشوء الحضارات واضمحلالها، مرتبط ارتباطاً أساسياً بمسيرة البشر نحو التحرر والحرية، وبقدرة الإنسان على التحرر من غرائزه البدائية، والتي تجعله يسلك سلوكاً أقرب إلى سلوك الحيوان، فمهما تكن أوجه الشبه بيننا وبين غيرنا من جماعات في المملكة الحيوانية الأوسع، والتي تساعد دراستها على توسيع مساحة الكشف الذي يعري السرائر والنفوس، هدف أساسي للبحث الجاد وللفلسفة والتأمل في أحول البشر، يظل الفارق بين الإنسان وبين الحيوان يتلخص في أمرين اثنين، هو تفرد الإنسان بالقدرة على التفكير المجرد والارتقاء بنفسه والتحكم في الجزء الغرائزي الذي يشكل الجزء الأعظم في الدماغ البشري، من خلال تقوية الجزء المسؤول عن التفكير الذي تطور عبر مئات آلاف السنين وتحكيمه، والفكرة الأساسية التي أبدعها هذا، ألا وهو الأخلاق، التي تشكل فرعاً أساسيا من فروع الفلسفة إلى جانب الوجود والمعرفة والكون. لذا، يرى كثير من الفلاسفة والمفكرين أن أزمة الإنسان المعاصر هي أزمة أخلاقية بالأساس، وأن ضعف الأخلاق التي تعد ركناً أساسياً في انتظام العلاقات بين البشر القائمة أساساً على مبدأ الثقة عاملاً أساسيا في تفسخ المجتمعات وانهيارها، ومن ثم تصبح خيانة الثقة والأمانة أم الكبائر جميعاً في كل الثقافات والمجتمعات.
السؤال الذي يجب أن يكون شاغلاً أساسياً لنا جميعاً في ظل هذه الأجواء المسمومة، والتي من المحتمل أن يزداد تسممها بفعل الأزمات التي توجد سوابق تاريخية على أن اشتدادها قد يكون سببا لتحول البشر إلى وحوش يأكلون بعضهم البعض بالمعنى الحرفي، أن نحاصر على القدر الأدنى من الثقة اللازم لانتظام العلاقات والمجتمع، وهذه أمر قد يصعب على القوانين حلها أو التعامل معها، وليس مضموناً أن يكون للوعظ أو الإرشاد الديني أو التربية الأخلاقية أي تأثير على ضعاف النفوس، الحل بأيدينا ويتمثل في التسلح بالوعي وبالمعرفة وكشف أمثال هؤلاء وفضحهم ومحاصرته بعدم ترديد ما تفرزه نفوسهم المريضة من قول أو فعل، وألا نتخلى في الوقت نفسه عن ذواتنا مدفوعين بروح الانتقام والتمادي معهم في سلوكهم الوضيع، علينا أن نتعامل مع العالم كما هو، ولكن بقلب دافئ وأعين مفتوحة وعقل يقظ ومتحرر وقادر على التعامل مع المشكلات التي سيصادفها الإنسان حتماً في مسيرته وحياته.
-----------------------------
بقلم: أشرف راضي