أعد المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس تقريرا شاملا حول حوادث عمال الصرف الصحي في مصر.
يتناول التقرير واقع العمل في هذا القطاع، حيث يستعرض التحديات والمخاطر التي يتعرض لها العمال نتيجة الإهمال في تطبيق معايير السلامة المهنية، كما يعكس التقرير صورًا من معاناة العمال الذين يُجبرون على العمل في ظروف غير آمنة، ما يعرضهم لخطر الإصابة أو الوفاة أثناء أداء مهامهم اليومية.
ويكشف التقرير عن ضرورة اتخاذ خطوات جادة من قبل الدولة والشركات المنفذة للمشروعات لضمان حماية العمال ورفع مستوى السلامة في مواقع العمل. كما يشير التقرير إلى تحميل الدولة عبء تعويض أسر الضحايا من العمال الذين قضوا في حوادث غير مبررة، في حين أن الشركات المسؤولة عن تلك المشروعات تفلت من المحاسبة.
ويتضمن التقرير مطالب ضرورية لتغيير هذا الواقع، من خلال فرض رقابة أكثر فاعلية على مواقع العمل، وتشديد العقوبات على الشركات المخالفة، وتوفير التدريب المناسب للعمال، بالإضافة إلى تحسين خطط التعويض والرعاية للأسر المتضررة.
وفيما يلي نص التقرير:
مأساة مستمرة وسط غياب المسؤولية منذ سنوات طويلة، تواصل حوادث الصرف الصحي في مصر استنزاف أرواح العمال الذين يُجبرون على العمل في ظروف غير إنسانية، معرضين أنفسهم للموت أو الإصابات الخطيرة بسبب الإهمال الكبير في تطبيق معايير السلامة المهنية. ما يحدث اليوم في مواقع العمل ليس مجرد حوادث، بل هو واقع مؤلم يعكس غياب المسؤولية عن أرواح هؤلاء العمال، ويكشف عن حقيقة مريرة تتجاهلها الشركات المنفذة والمصالح السياسية في مصر. في ظل غياب المحاسبة والمراقبة الحقيقية، تتحمل الدولة عبء تعويض أسر هؤلاء الضحايا، دون أن تتحمل الشركات المسؤولية عن الإهمال الذي أودى بحياة أبرياء.
المشروعات التي تهدف لتحسين البنية التحتية في مصر تتطلب عملاً جاداً ومهنياً يضمن الحفاظ على أرواح العمال. ولكن الحقيقة هي أن هذه المشروعات تشهد حالة من الفوضى والانهيار، حيث تُنفذ بدون أدنى اعتبار لسلامة الأشخاص الذين يعملون في تلك المواقع. فالمسؤولية عن توفير معدات الحماية اللازمة، مثل الخوذ الواقية والأحزمة والملابس الخاصة، تكون غائبة تماماً، ولا يتم تدريب العمال على أسس التعامل مع المخاطر، بل يتم إرسالهم للعمل في ظروف تتسم بالإهمال المتعمد.
أحد أسباب الحوادث المتكررة هو أن الشركات التي تنفذ مشروعات الصرف الصحي تسعى دوماً لتقليل التكاليف بأقصى قدر ممكن، فتستغني عن المعدات المناسبة وتقلل من عدد العمال المدربين. في العديد من المواقع، لا توجد أدنى معايير للسلامة، مما يجعل كل خطوة مهددة بالخطر. تلك الشركات، التي غالباً ما تروج لنفسها على أنها قادرة على تنفيذ المشروعات بأقل التكاليف، تتسبب في كارثة يومية تكلف حياة أبرياء. وبدلاً من أن يتم محاسبتها على هذه الجرائم، غالباً ما تُفلت من العقاب، وتستمر في تنفيذ مشروعات جديدة دون أن يُفرض عليها أي نوع من الرقابة الحقيقية.
العمال الذين يتم إرسالهم للعمل في هذه المشروعات، خاصة في مجالات الصرف الصحي، هم غالباً من الطبقات الفقيرة، التي لا تجد أمامها بديلاً سوى العمل في تلك الوظائف الخطرة. بعضهم يسعى لكسب قوت يومه، والبعض الآخر لا يجد فرصة للعمل في أي مكان آخر. هؤلاء العمال لا يملكون خياراً سوى تحمل المخاطر التي تحدق بهم. وإذا وقع الحادث، وذهب أحدهم ضحية للإهمال، تُترك الأسرة في فقر مدقع، ويموت العمل في قلب الأسرة بعد أن يُحرم الأب أو الأخ من مصدر رزقهم الوحيد. وكثيراً ما تكون التعويضات التي تقدمها الدولة لأسر الضحايا غير كافية، ولا تفي بتعويض جزء من الخسارة الفادحة التي لحقت بتلك الأسر.
من جهة أخرى، ترفض الشركات المنفذة للمشروعات تحمل المسؤولية الكاملة عن الحوادث التي تقع في مواقع عملها. غالباً ما يتم التلاعب بالحقائق، ويتم تجنب الاعتراف بالتقصير أو تقديم أي نوع من الدعم للأسر المتضررة. في بعض الأحيان، لا يتم تقديم أي تعويضات على الإطلاق، وفي حالات أخرى تكون التعويضات ضئيلة للغاية ولا تغطي حتى جزءاً بسيطاً من الأضرار التي لحقت بأسر الضحايا. يتم تحميل الدولة عبء تعويضات غير عادلة، مما يزيد من الأعباء الاقتصادية على الموازنة العامة للدولة دون أن تُحمل الشركات المسؤولية أو تُعاقب على تقصيرها.
ما يثير القلق هو أن هناك تواطؤاً غير معلن بين الشركات المنفذة والمصالح السياسية، حيث تجد هذه الشركات نفسها قادرة على التهرب من المسؤولية دون أن تُفتح أمامها أي ملفات للمحاسبة. يتكرر نفس المشهد في كل مرة، وتظل الحوادث تتوالى دون أن يتم اتخاذ أي إجراءات رادعة. وفي الوقت نفسه، تُجبر الدولة على صرف تعويضات لأسر الضحايا، بينما تستمر الشركات في تنفيذ المشروعات دون أي محاسبة أو رقابة.
الواقع اليومي للمشروعات يتضح بشكل جلي في غياب أي نوع من الرقابة الحقيقية على معايير السلامة. تكاد تكون هناك لجنة تفتيش واحدة، إذا وُجدت أصلاً، تشرف على هذه المشاريع. غالباً ما تكتفي هذه اللجان بإجراء تفتيشات عشوائية وغير منتظمة، وتُغض الطرف عن المشاكل الحقيقية في المواقع. كما أن القوانين الموجودة اليوم، رغم أنها تتضمن بعض الضوابط، إلا أنها تفتقر إلى القوة والقدرة على فرض العقوبات الصارمة ضد الشركات المخالفة. بل إن المسؤولين في الدولة عادة ما يتجنبون مواجهة الشركات الكبرى التي تحظى بدعم سياسي، ويتركون العمال يواجهون مصيرهم دون أي نوع من التدخل الفعّال.
وفي ظل هذا الواقع المرير، نجد أن العمال أنفسهم هم الضحية الحقيقية. لا يتوقف الأمر عند تعرضهم للإصابات أو الوفاة، بل يمتد ليشمل الظروف النفسية والاجتماعية الصعبة التي يواجهها ذووهم بعد الحوادث. فقد يفقد الأطفال والزوجات والآباء سندهم الأساسي، ويضطرون للعيش في فقر مدقع. كما أن المجتمع نفسه يتأثر جراء غياب العدالة وعدم تحميل الشركات المسؤولية عن حوادثها. هذه الحالات تترك آثاراً عميقة على المجتمع المصري، الذي يظل يتطلع إلى العدالة والمساواة في الحقوق.
من أجل تحسين الوضع الحالي، يجب أن يتم اتخاذ خطوات حاسمة لتغيير هذه المعادلة المأساوية. أولاً، يجب فرض رقابة حقيقية على المشروعات، لا أن تقتصر الرقابة على الفحوصات الروتينية التي لا تحمل في طياتها أي قيمة فعلية. من الضروري أن يتم تعديل القوانين لتشديد العقوبات ضد الشركات المخالفة وتفعيل القوانين التي تكفل حماية العمال. يجب أن تُفرض غرامات رادعة على الشركات التي تتسبب في الحوادث، ويجب أن تتحمل الشركات تكاليف تعويضات العمال المتضررين، بدلاً من تحميل الدولة العبء كاملاً.
وفي الوقت ذاته، يجب تخصيص موارد كافية لتوفير التدريب الشامل للعمال على إجراءات السلامة، كما يجب تأهيلهم للتعامل مع مختلف المخاطر التي قد يواجهونها. هذا بالإضافة إلى ضرورة تفعيل الخطط الطبية والإنقاذ الطارئ في مواقع العمل، بحيث يمكن تقديم المساعدة السريعة في حال وقوع أي حادث.
كما يجب أن يتم وضع خطط تعويض فعّالة تضمن توفير حياة كريمة لأسر الضحايا، بما في ذلك تعويضات مالية تُغطي احتياجات الأسرة الأساسية، ورعاية صحية مجانية للأسر المتضررة. هذا بالإضافة إلى دعم نفسي للأطفال والزوجات الذين يتأثرون بشكل كبير بعد فقدان المعيل الوحيد.
إن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر، ويجب أن نكون جميعاً على وعي تام بأن الحياة البشرية أغلى من أي صفقة مالية أو مشروع اقتصادي. لذلك، يجب أن تكون هناك إرادة حقيقية من قبل الحكومة والشركات لضمان سلامة العمال وحمايتهم من أي مخاطر قد تهدد حياتهم.
مآسي العمال وأسرهم
الموت والإصابات المأساوية:
في كل حادثة، تُفقد أرواح عمال أبرياء، كانوا يكافحون لكسب لقمة العيش. الذين ينجون غالبًا ما يعانون من إصابات خطيرة، تمنعهم من العودة إلى العمل أو الحياة بشكل طبيعي، ليصبحوا عبئًا على أسرهم التي كانت تعتمد عليهم.
أسر تواجه الضياع:
الحوادث تترك خلفها أسرًا مكلومة، تعاني الفقر والحرمان بعد فقدان العائل الوحيد. التعويضات المقدمة غالبًا ما تكون رمزية وغير كافية لتلبية احتياجات الأسرة الأساسية، مما يدفع العديد منهم إلى مواجهة المجهول.
تكاليف نفسية واجتماعية:
الأطفال الذين فقدوا آباءهم نتيجة هذه الحوادث يواجهون مشكلات نفسية واجتماعية عميقة، إذ إنهم يكبرون في ظل غياب الدعم والرعاية، مما يُلقي بظلال قاتمة على مستقبلهم.
الشركات المنفذة: استهتار لا يُغتفر
إهمال كامل:
معظم الشركات المنفذة لمشروعات الصرف الصحي تُعلي مصلحتها الربحية على أرواح العمال. تسعى لتقليل التكلفة بأي طريقة، حتى لو كان ذلك على حساب أرواح البشر.
غياب المحاسبة:
على الرغم من وضوح مسؤولية الشركات عن العديد من الحوادث، إلا أنها غالبًا ما تُفلت من العقاب، حيث لا تُفرض عليها غرامات رادعة أو تُلزم بتعويض أسر الضحايا.
تحميل الدولة الأعباء المالية:
بدلاً من تحميل الشركات المنفذة تكلفة تعويض أسر الضحايا، تتحمل الدولة هذا العبء، مما يُثقل كاهل الموازنة العامة ويُشجع الشركات على الاستمرار في نهجها المتسيب.
دور الدولة: الحاضر الغائب
ضعف الرقابة:
الجهات الحكومية المسؤولة عن متابعة تنفيذ مشروعات الصرف الصحي لا تقوم بدورها الرقابي على الوجه الأمثل، مما يسمح للشركات بالإهمال دون خوف من المحاسبة.
غياب القوانين الرادعة:
القوانين الحالية المتعلقة بالسلامة المهنية والعمل لا تحتوي على عقوبات كافية لردع الشركات المخالفة أو إلزامها بتحمل مسؤولياتها تجاه العمال.
تحمل الدولة لتكاليف الإهمال:
بدلاً من فرض المسؤولية على الشركات، تُضطر الدولة لصرف تعويضات مالية لأسر الضحايا، مما يزيد من الأعباء الاقتصادية على الحكومة دون تحقيق العدالة.
الجانب الإنساني للحوادث
الحوادث ليست مجرد أرقام تُسجل في سجلات الدولة، بل هي قصص إنسانية تعكس معاناة آلاف الأسر التي تُحرم من معيلها الأساسي. أرواح هؤلاء العمال ليست سلعة تُباع أو تُشترى، بل هي جوهر التنمية التي تسعى الدولة لتحقيقها.
التشريعات والمطالب العمالي
تعديل القوانين:
ضرورة تعديل قانون العمل لتشديد العقوبات على الشركات التي تتسبب في الحوادث بسبب الإهمال.
إلزام الشركات بتوفير بوليصة تأمين تغطي إصابات العمل والوفاة.
تعويض عادل:
إنشاء صندوق وطني لتعويض أسر الضحايا، يتم تمويله من مساهمات الشركات المنفذة للمشروعات.
ضمان تعويضات مالية ومعنوية عادلة للأسر، بما يكفي لتلبية احتياجاتهم الأساسية.
إلزام الشركات بالمسؤولية:
اشتراط تقديم تقارير دورية عن إجراءات السلامة في مواقع العمل.
منع الشركات التي يثبت إهمالها من المشاركة في مشروعات مستقبلية.
التوصيات لمعالجة الأزمة
تعزيز الرقابة:
إنشاء هيئة مستقلة للرقابة على مشروعات البنية التحتية، تُشرف على تنفيذ معايير السلامة المهنية.
تكليف لجان تفتيش دورية ومفاجئة لمواقع العمل لضمان الالتزام.
التدريب والتوعية:
إطلاق برامج توعية مستمرة للعمال حول مخاطر العمل في مشروعات الصرف الصحي.
إلزام الشركات بتوفير دورات تدريبية للعمال كشرط للموافقة على بدء المشروعات.
تحميل الشركات المسؤولية الكاملة:
إلزام الشركات المنفذة بتغطية تكاليف الحوادث بالكامل، سواء على مستوى التعويضات أو الرعاية الطبية.
فرض غرامات مالية ضخمة على الشركات التي يثبت إهمالها، وتحويل المسؤولين عنها إلى المحاكم المختصة.
كرامة العامل فوق كل اعتبار
إن أرواح العمال هي جوهر بناء الوطن، وأي استهتار بها هو خيانة للقيم الإنسانية والوطنية. لا يمكن أن تستمر مشروعات التنمية على حساب دماء الكادحين.
إن الحلول ليست مستحيلة، لكنها تتطلب إرادة سياسية حازمة وإدارة مسؤولة تُدرك قيمة الإنسان. نحن، في المجلس القومي للعمال والفلاحين، نُجدد التزامنا بالدفاع عن حقوق العمال، ونطالب الدولة بتبني حلول شاملة تضمن السلامة والكرامة لكل عامل في هذا الوطن.
_______________________
إعداد: محمد عبدالمجيد هندي، القيادي العمالي المستقل، مؤسس ورئيس المجلس القومي للعمال والفلاحين تحت التأسيس