02 - 05 - 2025

صباحيات | من وحي المسألة السورية .. مشكلتي مع حكم الإسلاميين؟

صباحيات | من وحي المسألة السورية .. مشكلتي مع حكم الإسلاميين؟

سألني صديق بالأمس في سياق حوار حول ما يحدث في سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد، ما مشكلتك مع حكم الإسلاميين؟ 

لم يتسع الوقت للإجابة على السؤال إلا بشكل مقتضب بأنني أعارض أي استغلال للدين في العمل السياسي وتوظيفه لدغدغة مشاعر الجمهور، والخطابات التي تتلاعب بمشاعر الجماهير هي سمة أساسية للعقائد الفاشية والمغلقة، التي تملك إجابات جاهزة وغير مختبرة لكل قضية. وسمح الوقت كذلك لسرد رواية تشير إلى أن القتل هو المصير الحتمي لمعارضيهم، لا لشيء إلا لاعتقادهم بامتلاك الحقيقة المطلقة وأنهم ينفذون "شرع الله"، ومن ثم فإن من يعترض عليهم إنما يعارض الدين الذي احتكروا الحديث باسمه. والحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال الشائك، تتطلب المزيد من التفكير والغوص في تاريخ السلطة الدينية التي تريد إعادة عقارب ساعة التاريخ للوراء. 

في سالف الأزمان، تأسست السلطة على نظرية "الحق الإلهي" في الحكم، ففي كل الحضارات الدينية والوثنية أيضاً، كان الحُكَّام ظل الله على الأرض، وأنهم اختيار إلهي لضبط ناموس الكون الذي نظمه الخالق. ومع تطور المجتمعات والتفكير العلمي والنقدي، تطور التفكير في الاجتماع البشري وما يترتب عليه من أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية، بل وعلاقات إنسانية، ومحاولة البحث عن أسس منطقية وعقلية وأسانيد مادية يمكن رصدها وقياسها لقوانين الاجتماع البشري، وظهرت نظريات العقد الاجتماعي المختلفة لتفسير نشأة الدولة والسلطة والمنطق الذي تقوم عليها العلاقة بين الحاكم والمحكومين، ولعبت الديانات المتعاقبة والفكر الديني المرتبط بهذه الديانات دوراً لا ينكر في تحرير المحكومين من العبودية للحاكم، من خلال رد الحكم لله الخالق، لكن سرعان ما أعيد توظيف الدين وتفسيراته المختلفة لخدمة السلطان من جديد، فظهرت صور عصرية لنظرية الحكم الإلهي، وإنكار لفكرة حكم رجال الدين.  

من وجهة نظر بعض الليبراليين المصريين والعرب، لا توجد مشكلة في وصول أحزاب ذات مرجعيات دينية للسلطة طالما كان وصولها للحكم عبر أليات ديمقراطية والانتخابات الحرة التي تعبر عن الإرادة الشعبية الحرة، ولا يرى العقائديون من المرجعيات المختلفة، مشكلة مع حكم الإسلاميين، ويضربون أمثلة لوجود أحزاب مسيحية ديمقراطية أو اجتماعية في كثير من الدول الديمقراطية في أوروبا، ويشيرون إلى المرجعية أو الأصول الدينية، المسيحية - اليهودية للحضارة الغربية المعاصرة، فما الضير إذاً في أن يتولى الإسلاميون السلطة في البلدان الإسلامية، وظهرت كثير من النظريات التي رعاها حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا ذو الأصول الإسلامية المعارضة للعلمانية والتي تسعى إلى إعادة أسلمة تركيا واستعادة مجدها الإمبراطوري من جديد من خلال تمرير الخطاب الإسلامي الجديد من خلال الحوار مع الليبرالية الغربية، والمصالحة التاريخية بين الإسلام والحداثة والإسلام والديمقراطية. وبغض النظر عن هذه المحاولة، تظل هناك مشكلة تتعلق بموقف الإسلاميين بالحداثة ومكتسباتها.

غواية الإسلاميين

إن المشاهد التي تناقلتها المقاطع المصورة لتقدم المعارضة السورية بقيادة هيئة تحرير الشام التي تضم فصائل مختلفة من تنظيمات إسلامية شتى، تتراوح بين تنظيم الإخوان المسلمين والقاعدة والدولة الإسلامية، تطرح شكوكاً كثيرة في مسألة حرية الشعب السوري في اختيار من يمثله، بل إن الهندسة الاجتماعية والبشرية الناجمة عن تهجير عدد كبير من السوريين والتي تؤثر أيضا في عودة السوريين، خصوصاً من مخيمات اللاجئين في تركيا، حيث كان ينشط الإسلاميون، ستلعب دوراً في رسم ملاحم سوريا الجديدة. الحقيقة المؤكدة بسبب التغير في موازين القوى الإقليمية والدولية الذي سمح بهذا التحول في سوريا، أن سوريا ستكون لسنوات في قبضة إسلاميين موالين للسلطان التركي الجديد، بعد خروجها من قبضة آيات الله الشيعة في إيران، لكن مستقبل هذا الحكم مرهون بقدرة حكام سوريا الجدد على التعلم من أخطاء تجربة الإسلاميين القصيرة في الحكم في كل من مصر وتونس، وسيكون مرهوناً أيضا بمدى احترامهم لموازين القوى الإقليمية الناشئة. 

ربما يتمتع الإسلاميون بتأييد كبير في أوساط الجماهير العريضة التي تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة في ظل حكومات استبدادية ناصبت المعارضين من شتى الاتجاهات العداء، وهذا التأييد راجع إلى استثمار الإسلاميين الذي يتبدى من خلال منابرهم الإعلامية مشاعر السخط والاستياء لدى الجماهير بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية، دون تقديم أي حلول عملية لتلك المشكلات العويصة، سوى تجاربهم في الدعم الاجتماعي التي سمحت بهم الأنظمة الاستبدادية التي استثمرت هي الأخرى في الإسلام السياسي للالتفاف حول المطالب بالإصلاح السياسي المصاحب لبرامج التكيف الهيكلي الاقتصادية والإفلات من الاستحقاقات الديمقراطية، التي تم اختزالها في انتخابات مدارة، نتيجتها محددة سلفاً لاعتبارات تتعلق بالحفاظ على السلطة في قبضة تلك الأنظمة الاستبدادية. كما يركز الخطاب الإسلامي بخصوص الأزمة الاقتصادية كثيراً على مسألة الفساد الحكومات، وهو حقيقة لا يمكن إنكارها. لكن لا يقدم الإسلاميون أي تصورات عملية للخروج من المأزق الراهن سوى خطابات فحواها أن كل الأمور ستتحسن إذا خلصت النوايا، خطاب يلقى أذاناً صاغية من الجماهير التي تأن من وطأة الاستبداد.

في مسألة الشرعية والسلطة

إن من يطرح مثل هذا السؤال الاستنكاري حول مشكلتي أو مشكلة البعض مع الحكم الإسلامي، إنما ينطلق من خلفيات معرفية مبسطة ترسم صورة وردية للتاريخ الإسلامي الذي جرى تقديسه إلى حد أن البعض يمنح شخصيات تاريخية مثل معاوية ابن أبي سفيان وعمرو ابن العاص لقب "سيدنا"، ولا يقبل بإخضاع هذا التاريخ المتخيل للبحث العلمي والنقدي ولا يقبل أي رأي يمس ما يطرحه رجال الدين من آراء وأحكام. الأهم في مسألة الخلفية المعرفية والقيمية لمثل هؤلاء الذي يقدمون دعماً غير مشروط للفصائل التي أطاحت ببشار الأسد بدعم تركي، هو موقفهم من مسألة الحريات والغرب ورفضهم لفكرة المعايير العالمية لحقوق الإنسان التي يزعمون أنها معايير غربية، دون أن يدرسوا أو يبحثوا كيف تمت صياغة هذه المعايير من خلال منظمة الأمم المتحدة التي يختزلونها في مجلس الأمن الخاضع للهيمنة الأمريكية، دون أي علم بحجم الخلافات بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة والاعتراضات على كثير من التوجهات والسياسات في برامج الأمم المتحدة المختلفة، كما أنهم يشككون في أهمية الحرية بشكل عام، والحريات الشخصية على وجه التحديد، كواحدة من القيم العليا للمجتمعات. إنهم متوافقون بشكل عام مع الأطر المرجعية والمعرفية المحافظة للإسلاميين، ومن ثم لا يرون مشكلة في توليهم السلطة. 

في الحقيقة، لن تكون هناك أي مشكلة في وصول أحزاب سياسية ذات مرجعية إسلامية إلى الحكم عبر الانتخابات في ظل نظام ديمقراطي مستقر وراسخ. والنظام الديمقراطي المستقر والراسخ يعني انتقال السلطة بشكل سلمي، أي دون إراقة للدماء أو تهديد بالعنف أو ترويع وترهيب للجمهور، واحترام إرادة الناخبين، وتعني حق الناخبين في سحب الثقة أو التفويض الممنوح للحزب الحاكم إذا حاد عن الدستور أو لم يحترم القانون وحقها في المراقبة المستمرة لسلوك الحكومة وأفعالها وخضوع كل مستويات السلطة لمبدأ المساءلة، ولا تعنى العصف بالحقوق الطبيعية والحقوق المكتسبة للمواطنين، والانقلاب الدستوري على نظام الحكم بمزاعم أسلمة القوانين وتطبيق الشريعة الإسلامية. ولا مشكلة في وصول مثل هذه الأحزاب للسلطة طالما جرى تغيير المعايير التي يستمد منها الحاكم شرعيته ومشروعيته، والانتقال إلى ربط هذه الشرعية وتلك المشروعية بالإنجازات التي يشعر بها المواطنون وتتحدث عن نفسها لا أن يتحدث عنها الإعلام الموجه والأدوات الدعائية للسلطة. 

المشكلة إذا، ليست مع الإسلاميين أو الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية، إنما المشكلة مع البنية الاستبدادية التي لم يطرح الإسلاميون بديلاً لها بل يميلون إلى استغلالها وترسيخها. إن أزمة الإخوان المسلمين في تجربتهم القصيرة في الحكم في مصر بدأت يوم 22 نوفمبر 2012، عندما أصدر الرئيس المنتخب إعلاناً دستورياً رأت فيه القوى السياسية والجماهير التي حاصرت قصر الاتحادية في ذلك اليوم لتبدأ مسيرة الإطاحة بحكم الجماعة، خطوة أولى على الطريق للتأسيس لنظام استبدادي ذي مرجعية إسلامية، ستحيل أي معارضة له إلى معارضة للثوابت الدينية والخروج على شرع الله، ورأت الجماهير بحسها الفطري السليم أنه هذا الاستبداد أشد خطراً على مستقبلها من أي استبداد آخر، قد ينشأ نتيجة لمنع ترسيخ استبداد "الجماعة والأهل والعشيرة".

الحقيقة أن هذا النزوع الاستبدادي لدى الإسلاميين الذين يحولون منابر المساجد إلى منابر سياسية قديم، ولا يقتصر فقط على الإسلاميين بل نافستهم في ذلك الأنظمة الاستبدادية التي لم تجد سندا لشرعيتها سوى الخطاب الديني لتغطية فشلها في تحقيق أي إنجازات ملموسة للقطاعات الواسعة من المواطنين وكسب تأييدهم في الوقت نفسه، ولم تجد وسيلة للبقاء في الحكم سوى تربية الوحش المتمثل في الجماعات المتأسلمة وترويضه. وينتهي الأمر غالباً بأن يلتهم الوحش اليد التي ربته وأطعمته في اللحظة التي يشعر فيها أن هذه اليد لم تعد قادرة على ترويضه.. 

لا أعرف إذا كان هذا الرد الموسع يكفي كي يعيد صديقي الذي طرح السؤال التفكير، أم أن سطوة الأيديولوجية والأنساق القيمية أقوى؟ لذا اختم الرد بتلك الفقرة المقتبسة من كتاب "فلسفة حضارات العالم: نظريات الحقيقة وتأويلها" الصادر باللغة الألمانية في عام 2006، والذي صدرت طبعته العربية الأولى في عام 2010، " النقلة من التفسير الأسطوري للعالم إلى التفكير العقلاني المكثف بداية الفلسفة بالمعنى الدقيق للكلمة"، لتأكيد أن مثل هذه الأسئلة القلقة التي يحملها صديقي تتطلب التحرر من التفسيرات الأسطورية للعالم ولأحداث التاريخ وتحتاج إلى تفكير عقلاني مكثف، وفي النهاية، من الضروري أن ما كتبته في إجابتي هذه لن يؤثر على مجريات الأمور في سوريا المدفوعة بقوى عمياء وأذان صمت من كثرة دوي المدافع، لكنها شهادة واجبة.
---------------------------------
بقلم: أشرف راضي

  

مقالات اخرى للكاتب

انتخابات الصحفيين 2025 | المؤسسات والجمعية العمومية للنقابة