- يصدر له خلال أيام كتاب عن اقتباس الكوميديا في السينما المصرية حتى نهاية الستينيات
- رغم قصة إحسان عبد القدوس ومعالجة نجيب محفوظ
- تمصير الأفلام في الستينيات ارتبط بالدعاية للحكم الناصري
منذ 2007، يعمل وليد الخشاب أستاذاً للدراسات العربية في جامعة يورك بتورونتو، كبرى المدن الكندية، ونشر أكثر من ستين بحثاً علمياً محكماً بجانب عشرات المقالات والأوراق والمحاضرات التي ألقاها في مؤتمرات علمية ومحافل ثقافية في أرجاء العالم من أستراليا إلى أمريكا الشمالية، ومن آسيا إلى أفريقيا وأوروبا، بثلاث لغات يكتب ويبحث ويدرس بها: العربية والفرنسية والإنجليزية، في مجالات الدراسات الثقافية والأدبية والسينمائية وعلاقة المقدس بالحياة اليومية والسياسة. صدر له في نهاية عام 2022 كتاب "مهندس البهجة: فؤاد المهندس ولا وعي السينما" عن دار "المرايا" بالقاهرة. ولاقى الكتاب صدى نقدياً وجماهيريا كبيراً، إذ تعددت اللقاءات والتغطيات الصحفية التي تناولت ذلك الكتاب الجديد من نوعه في الصحافة المصرية والعربية، الورقية والإلكترونية، بالإضافة للعديد من البرامج التلفزيونية التي احتفت بفن فؤاد المهندس وبتناول الخشاب لهذا الفن بالدراسة والتحليل من منظور الدراسات الثقافية.
وليد الخشاب
وهنا حوار معه لـ "المشهد":
* يترقب الوسط الثقافي الناطق بالعربية صدور كتابك الجديد عن الكوميديا والاقتباس، بعد نجاح كتابك الأخير المخصص لفن فؤاد المهندس النجم الكوميدي العربي، وعلاقته بتطور المجتمع في مرحلة التحرر الوطني. فهل تواصل تناول الكوميديا في كتابك الجديد بالمنهجية نفسها التي تبنيتها في كتاب "مهندس البهجة"؟
-كتابي الجديد سيصدر خلال أيام عن دار "المرايا" القاهرية التي أمتن لدعمها. لم يستقر الناشر على العنوان النهائي للكتاب، لكن عنوانه المؤقت هو "اقتباس الكوميديا في السينما المصرية". موضوع الكتاب هو دراسة تاريخية نظرية موجزة للقضايا الفنية والثقافية التي حكمت ظاهرة اقتباس السينما المصرية لأفلام ومسرحيات أوروبية وأمريكية، طوال فترة العصر الذهبي للسينما في القاهرة بين الأربعينيات والستينيات من القرن العشرين، أي في العصر الذي ساده إنتاج الأفلام بالأبيض والأسود، وإن كان الكتاب يتناول كذلك أفلاماً أنتجت بالألوان تنتمي للحقبة نفسها.
في مقدمة الكتاب النظرية التاريخية، أناقش قضية التمصير، أي تعديل نصوص وأفلام وعروض مسرحية غربية بحيث تكتسي ثوباً مصرياً مقنعاً، وكيف تطور مفهوم التمصير بالتوازي مع تطور وترسخ قيم الواقعية الجمالية والاجتماعية في السينما المصرية عبر العقود. تتلو المقدمة عدة فصول، كل منها مخصص لعِقد من عقود العصر الذهبي للسينما الكلاسيكية المصرية: الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. ويتضمن كل فصل تحليلاً سينمائياً وثقافياً وتاريخياً لمجموعة من الأفلام التي صارت علامات في السينما المصرية، بل والعربية.
الاقتباس والكوميديا
* هل تناقش في كتابك الجديد قضية التمصير والاقتباس في علاقتهما بالواقعية بشكل عام، أم تركز على الكوميديا تحديداً؟
- موضوع الكتاب هو اقتباس الكوميديا بالذات، وإن كانت الكثير من الأطروحات والتحليلات فيه صالحة لتناول الأفلام الجادة في الحقبة الكلاسيكية نفسها. لكني أردت مواصلة دراسة الكوميديا في الاتجاه الذي اتخذته منذ أن شرعت في دراسة فن فؤاد المهندس وكللت رحلتي البحثية مع منجزه الثقافي بنشر كتابي "مهندس البهجة". أستعيد المقولة التي أطلقتها، وهي أن الكوميديا مسألة جادة، وأن دراسة الفكاهة تكشف عن ظواهر وآليات تتحكم في المجتمع وتتفاعل فيما بينها، بحيث تطور فهمنا للتاريخ الثقافي المصري والعربي، لا سيما في مرحلة التحرر الوطني.
في كتاب "مهندس البهجة" خصصت الفصل الأخير لدراسة أفلام فؤاد المهندس المقتبسة عن أفلام أمريكية، وشعرت بالرغبة في استكشاف ظاهرة اقتباس الكوميديا في السينما المصرية، عند فنانين ونجوم آخرين. ربما لم أحقق اكتشافاً غير مسبوق حين بيّنت مدى اتساع ظاهرة اقتباس أفلام ومسرحيات أوروبية وأمريكية وتحويلها إلى أفلام مصرية، لكن الكتاب يثبت بتحليل ما يقرب من ثلاثين فيلماً أن معظم - إن لم يكن كل - كلاسيكيات الكوميديا المسرحية والسينمائية المصرية مقتبسة بدرجة أو بأخرى عن أصول أجنبية، لا سيما الأصول الفرنسية والأمريكية.
وكما أشرت في دراستي عن فؤاد المهندس أن "الأستاذ" كان كثيراً ما يعيد تمثيل أدوار كوميدية قام ببطولتها النجمان الإنجليزيان ركس هاريسون ولورنس أوليفييه، فقد وجدت أن السينما الكوميدية المصرية بشكل عام، كانت كثيراً ما تستعيد أفلاماً من بطولة نجوم أمريكيين بعينهم. هكذا اقتبست السينما المصرية أكثر من فيلم أمريكي من بطولة النجم الهوليودي ويليام باول والنجمين الثنائي بد أبوت ولو كوستيللو، وقام بالأدوار المصرية المقابلة لأدوار النجوم الأمريكيين كوكبة من النجوم من بلاد النيل، من محمد فوزي إلى إسماعيل ياسين إلى رشدي أباظة.
*في كتابك "مهندس البهجة" طرحت أن الكوميديا - وبالذات في أفلام فؤاد المهندس - كانت وعاءً للدعاية الأيديولوجية لنظام دولة التحرر الوطني، التي سميتها "أيديولوجية الفودفيل"، فهل يواصل كتابك الجديد عن اقتباس الكوميديا في السينما المصرية تتبع الأطروحة نفسها؟
- أطلقت مفهوم أيديولوجية الفودفيل على الفكر والدعاية التي يحملها خطاب الدعاية الناصرية، ويبثها عبر مواقف وأحداث الأفلام الكوميدية عموماً، وربطت تلك الأيديولوجية بنوع الفودفيل؛ لأنه النوع الكوميدي الذي تتجلى فيه خصائصها على أوضح وجه. وهي تتلخص في وعد تقدمه الدولة لأبناء المجتمع، لا سيما من الطبقات البسيطة، بأن تسمح لهم بالالتحاق بالطبقة الوسطى عن طريق التوظف وممارسة مهن تدعمها الدولة، وبأن تفتح لهم أبواب ملذات مثيلة للملذات التي نراها في كوميديا الفودفيل تحديداً، من التنعم بالعلاقات الغرامية الحرة والرفاهية الزائدة، في مقابل الولاء المطلق لدولة التحرر الوطني.
في كتابي عن اقتباس الكوميديا السينمائية المصرية عن مصادر غربية أتتبع وجود هذه الدعاية الفكرية وتشبع الكوميديا بفكرة الّلذات ومميزات الطبقة الوسطى مقابل الولاء منذ قبل قيام دولة التحرر الوطني في يوليو 1952، وقبل عصر نجومية فؤاد المهندس. وأدرس في كتابي الجديد تجلي أيديولوجية الفودفيل في أفلام نجيب الريحاني التي أنتجت في الثلاثينات والأربعينات، قبل ظهور الضباط الأحرار وتوليهم الحكم في البلاد في مطلع الخمسينيات، وبروز ملامح تلك الدعاية بدرجات مختلفة في كافة الأفلام الكوميدية، بعيداً عن أفلام الريحاني أو المهندس، من بداية الأربعينيات إلى نهاية الستينيات من القرن العشرين.
أيديولوجية الفودفيل
*هل تتجلى أيديولوجية الفودفيل في كوميديات الريحاني والمهندس فقط، أم هي ظاهرة أكثر شيوعاً؟
- في أفلام نجيب الريحاني، تقدم الطبقة الحاكمة وعوداً بمتعٍ محتملة قد يحصل عليها المتعلم ابن الطبقات الفقيرة، لكنها لا تفي بالضرورة بتلك الوعود. في فيلم "غزل البنات"، يرتقي نجيب الريحاني اجتماعياً ومالياً؛ لأنه التحق بالعمل في بيت الباشا معلماً لابنته، وهو يحب تلك الفتاة ولو تزوجها لصعد طبقياً. لكن هذا الزواج لا يتم، ويبقى الريحاني في طبقته لا يحصل على اعتبار اجتماعي إلا من حيث إنه في خدمة الطبقة الحاكمة، وترقيه البسيط مالي وليس طبقياً، والمطلوب منه ليس الولاء لدولة سارت على طريق الاستقلال بفضل معاهدة مع الاستعمار البريطاني في 1936، بل المطلوب منه هو الولاء لطبقة حاكمة. هذا ملخص لآليات عمل أيديولوجية الفودفيل: وعود بالترقي الاجتماعي ودخول الطبقة الوسطى، لكنها وعود لا تتحقق بالضرورة.في أفلام فؤاد المهندس تتحقق الوعود لأن دولة التحرر الوطني نفسها هي التي تقدمها، وهكذا نرى فؤاد المهندس في السينما والمسرح عادة ما يترقى اجتماعياً ويدخل الطبقة الوسطى ويتمتع بملذاتها من سكن راقٍ وزوجة جميلة، عادة ما تكون شويكار. ويدخل المواطن المتعلم البسيط إلى الطبقة الوسطى ويتمتع بالملذات المتاحة فيها كما نراها في كوميديات الفودفيل، مقابل الولاء لا لطبقة بعينها، لكن لدولة التحرر الوطني ذاتها ولمؤسساتها.
اتضح لي بالبحث أن آليات عمل أيديولوجية الفودفيل موجودة في كوميديات الخمسينيات والستينيات المصرية، لا سيما تلك المقتبسة عن أفلام أو مسرحيات غربية، بشكل عام وليس فقط في الأعمال التي قام فؤاد المهندس ببطولتها.
لعل واحداً من أقوى أمثلة تجسد أيديولوجية الفودفيل في السينما الكوميدية المقتبسة عن السينما الأمريكية هو فيلم "الجريمة الضاحكة" بطولة أحمد مظهر وسعاد حسني والمقتبس عن الفيلم الأمريكي "الكُشْك". في هذا الفيلم، نتتبع رحلة الشاب أحمد مظهر في الهجرة من الصعيد إلى القاهرة. من طبقة مستورة في الصعيد، يدخل الطبقة الوسطى العليا في القاهرة بزواجه من فتاة من تلك الطبقة، هي سعاد حسني، ويسكن في فيلا جميلة في حي مصر الجديدة الراقي، وبانخراطه في العمل في مؤسسة من أهم مؤسسات دولة التحرر الوطني وهي التلفزيون الرسمي الذي كان يُسَمى في الستينيات "التلفزيون العربي". مقابل ولائه لدولة التحرر وتعزيزه لمؤسساتها، يتمتع أحمد مظهر بزوجة جميلة وفيلا راقية، بل ويرتكب جريمة قتل وينجو من المساءلة القانونية بحجة درامية، وهي اتضاح أن القتيل كان قد مات بسبب مرض قلبي قبل أن يطلق عليه أحمد مظهر النار بثوانٍ. الخلاصة إذاً هي أن أيديولوجية الفودفيل تعد مَن يدين بالولاء لدولة التحرر بكل المتع وكل الحماية، حتى الحماية من السجن.
المثير طبعاً أن القصة الأمريكية تبدو مقتصرة على التسلية والتشويق الكوميدي، بينما الاقتباس المصري في سياق الستينيات يضفي على القصة بعداً اجتماعياً وسياسياً يرتبط بتنشيط دعاية أيديولوجية الفودفيل.
امبراطورية م
إمبراطورية ميم
*وهل تتبع كتابك المترقب صدوره بكتاب آخر يغطي المرحلة من السبعينيات إلى اليوم؟ لماذا توقفت دراستك عند نهاية الستينيات؟
- ربما تسمح لي الظروف بمتابعة تحليل ظاهرة اقتبس الأفلام الكوميدية حتى يومنا هذا في مشروع لاحق. توقفت في كتابي هذا عند دراسة الكوميديا السينمائية المقتبسة حتى العام 1970 - مع استثناء واحد في ختام الكتاب أحلل فيه فيلماً من عام 1972- لأن مساحة الكتاب لا تحتمل أن يتسع كتاب واحد لكم الأفلام المصرية المنتجة في تلك الفترة الممتدة من 1971 حتى عام 2024. أختتم الكتاب بنموذج واحد لتحليل فيلم من السبعينيات هو "إمبراطورية ميم" للمخرج حسين كمال ومن بطولة السيدة فاتن حمامة. ربما فعلتُ هذا من باب التشويق، كما ينتهي مسلسل بمشهد أخير يُعَدُ في الواقع بدايةً لجزءٍ ثانٍ تالٍ من المسلسل. لكني أرى في تناولي لذلك الفيلم في ختام كتابي دليلاً على استمرارية الظواهر التي أدرسها لعدة عقود على الأقل، من السبعينيات إلى التسعينيات. "إمبراطورية ميم" يثير مجموعة من التساؤلات حول هل هو كوميديا بالفعل؟ وإجابتي نعم هو كوميديا. هل هو مقتبس عن فيلم أمريكي بالفعل، رغم أنه يشتهر بأنه مأخوذ عن قصة لإحسان عبد القدوس ومعالجة سينمائية لنجيب محفوظ؟ وإجابتي هنا أيضاً هي نعم "إمبراطورية ميم" مقتبس عن الفيلم الأمريكي "الدستة أرخص"، وتحليلي في الكتاب يؤكد هذا.
ويفصل أيضاً تحليلي لـ "إمبراطورية ميم" ظاهرة تتكرر في الكوميديات السينمائية المصرية في الستينيات، لا سيما تلك المقتبسة عن أصول غربية، وهي أن الفيلم المصري المقتبس يضيف جرعة سياسية غير موجودة في الفيلم الأمريكي الأصلي، ويسقط أحداث الفيلم وشخصياته على أوضاع اجتماعية وسياسية مصرية. هذه الإضافات والإسقاطات في الفيلم الكوميدي المصري تزيد من مصرية الفيلم وتعزز التصاقه بالواقع المعيش في مجتمعاتنا، وبالتالي تزيد من واقعية الفيلم. هكذا يبرز الكتاب ظاهرة تقع على عكس ما قد يتصور المرء من أن الكوميديا للتسلية وأنها نوع فني يبعد عن التفاعل مع القضايا المجتمعية، لا سيما إن كانت مقتبسة عن فيلم أمريكي.
وربما أخصص كتاباً قادماً لاقتباس الكوميديا السينمائية في نصف القرن الذي يلي فيلم "إمبراطورية ميم". لا شك أن الاقتباس مستمر إلى يومنا هذا، لكنه لم يعد معنياً بالتمصير وإعلاء شأن العوامل الاجتماعية والسياسية المصرية مثلما كان الحال في الستينات.
----------------------------------
حوار: حسين عبد الرحيم
حسين عبدالرحيم