05 - 05 - 2025

رواية "توتة محبوب" ملحمة تاريخية ذات أبعاد نفسية واجتماعية بامتياز

رواية

"توتة محبوب" للكاتب صلاح شعير  من الروايات الفريدة،  لأنها تمثل  ملحمة تاريخية صاغها الكاتب في قالب درامي ورومانسي محكم البناء،  ليجسد مأساة الفلاح والمرأة القروية خلال قرنين من الزمان،  وقد  امتلأ  السرد الروائي بالكثير من النماذج البشرية التي تتحصن بالأمل، حتى تقتنص النجاح، وأخري تسحقها قسوة الظروف، وثالثة تعيش على هامش الصمت، ورابعة تمتص دماء المعدمين، وفي إطار الصراع بين كل هؤلاء البشر،  تحدث التقلبات الاجتماعية العنيفة، حيث يهبط من كانوا بقمة الهرم إلى القاع، ويصعد من بالقاع إلى القمة، ففي "قرية أم السواقي" البيئة الحاضنة للأحداث الرئيسة، يتجول المؤلف بنا في أماكن عديدة، حيث يمتد الزمن  بين الحاضر الحالي،  وبين الماضي حتى عام 1805، منذ أن استولت عائلة أبو علم على معظم الأراضي بكافة الطرق المشروعة وغير المشروعة، يدور صراع متعدد الجوانب،  بين العائلات من أجل البقاء، كذلك صراع عائلة محبوب مع الإقطاعيين، ومع الفقر في آن واحد،  ومن خلال التناقض بين العائلتين و التحولات التاريخية استطاع الكاتب أن يخلق صراعا دراميا  شيقا بين الأضداد ليبرز سمات ومراحل الظلم الاجتماعي الذي تعرض لها عموم المصريين وكذلك صعود شرائح اجتماعية معينة على حساب  هبوط شرائح أخرى.

الشخصيات في السرد الروائي: 

تتميز شخصيات الرواية بوضوح المعالم، بوصفها عنصرًا أساسيًا من عناصر البناء المعماري للرواية، وقد رسمها المؤلف بدقة، لدرجة تشعر المتلقي بأن الشخصيات المتخيلة، كأنها حقيقة، منذ تولي محمد علي باشا زمام الأمور في مصر حتي العصر الحديث، ومن الشخصيات المحورية "عايدة" تلك الفتاة سليلة عائلة محبوب، التي تميزت بحفظ التراث الخاص بجذور العائلات وخاصة عائلتها التي شُيعت من عالم الثراء لتدفن في مقابر الفقر، هذه الفتاة التي رزقت بذكاء جعلها تتحدى كل الظروف وتحصل على بكالوريوس الزراعة، تتمتع بجمال  أشعل رغبات الذكور فيها، الكل يسعى  للزواج بها، ولكنها عصية المنال، قلبها كالقلعة الحصينة، التي لا ينجح في غزوها سوى الفارس المغوار، ولذا يتعارك الرجال من أجل الفوز بها، وتغار منها النساء، وخاصة زميلتها أسماء أبو علم.

أما شخصية "حمدي دولار" حفيد "عوض الممسوس"، ذلك الرجل القوي الذي استولى على أرض المتروك وأصلحها، ليصبح مالكا لها، ثم يموت على الطنبور وهو يروي الزرع، ولكن أولاد أبو علم  يسلبون هذه الأرض عنوة، فأصبح من المعدمين الفقراء، لذلك ترك المدرسة في المرحلة الإعدادية، ليعول نفسه وأمه، عمل في "طابونة" الخبز، ثم ذهب إلى شرم الشيخ، للعمل بأحد فنادقها،  أعجبت به سائحة ألمانية فتزوجها، وسافر معها،  وعمل مع أبيها في مناجم  الذهب الأفريقية، وعاد إلى القرية بعد عشرين عامًا بالمال والذهب، فأصبح حلم بنات القرية، ولكنه حلمه كان الحصول على "عايدة".

وهناك أيضا حسن هلال زميل عايدة بالجامعة، والذي تعلق بها من طرف واحد، يبدو شخصية مهزوزة نفسيا، بسبب انتحار أمه أمام عينيه لخروجها عارية على الملأ، بعد تورطها في علاقة جنسية من أجل سداد الدين. كذلك شخصية "رجب الأحول" ذلك الثري الأهوج، حفيد الأحول الكبير هو الآخر أحد عشاق  "عايدة"، ويغار عليها من أي شخص.

الدراما الروائية ولغة السرد:  

تجري الأحداث في بناء درامي شيق، منسوج بشكل احترافي، في سبعة فصول معنونه، تتنامى فيه الصراعات، حيث يتصاعد التشويق في تلك الرواية بسبب عايدة، وما يدور حولها من صراعات ذكورية، بالإضافة إلى الرجوع بالزمن الماضي "الفلاش باك" مما أثار فضول المتلقي للتعرف على جذور العائلات، وعلاقة الماضي بالحاضر، وارتباطه بأحداث زمن الرواية، حيث تفجير المفاجآت في الأحداث الرئيسية، كخروج "أم حسن عارية" من غرفة الفاجر صاحب ورشة النجارة، أمام أهل القرية وأمام ابنها، بعد أن اقتحمت زوجته مع أخوته مكان الجريمة، كذلك اكتشاف كنز عائلة محبوب، وغيرها  من أحداث الفرعية متدفقة، مما أضاف عناصر تشويقية على البناء الدرامي.

لقد تمكن الكاتب من صياغة الأحداث الدرامية في لغة سردية وصفية سهلة كما استخدام التعبيرات البلاغية الرشيقة، ولكنه لم يسرف فيها، فكانت تعبيرات مؤثرة، في عقل القارئ ووجدانه، ومن العبارات البلاغية المبتكرة ما وصف به القرية في الفصل الأول عندما قال :

"تعانق الخضرة أرجاء المكان" و "تعج الأرض بالحيوانات و الأطفال" و"تحت كل ضربة فأس تنبت لقمة عيش"

أما العبارات البلاغية التي وضعها على لسان الشخصية المحورية في الرواية فقد كشفت أغوار نفسية الأنثى تجاه الرجل عندما قالت عن خطيبها حمدي دولار في الفصل الثاني: "ربما شجعه صمتي على الاستمرار في مخاطبة غريزتي دون قلبي"

ومن العبارات المؤثرة و المبتكرة أيضا تلك التي استخدمها الكاتب في وصف معاناة عبدالله الذي كان يعمل بالسخرة في شق القنوات والترع في زمن محمد علي باشا فقال:

"كان العرق المالح الذي يخرج منه بالنهار يجري فوق الجروح التي سببها الضرب بالسياط فيشتد شعوره بالألم" و يقول في موضع آخر " تحول التراب الذي التصق بشعره و رموش عينيه إلى طين متجمد و تحول الطين المعجون بالعرق إلى شوك مغروس في جسده" فكانت تلك الكلمات أبلغ تعبير عن الهوان و الذل الذي تعرض له المصريون في عصر محمد علي باشا.

و لكنه استخدم بعض الكلمات العامية للتعبير عن جو القرية المصرية و التي كان يمكن أن يستغني عن كثير منها دون الإخلال بروح النص.

الأبعاد التاريخية والنفسية والاجتماعية بالرواية:  

من ثراء تلك الرواية، أنها ذات أبعاد اجتماعية  تاريخية و نفسية عميقة فهي ليست مسطحة بل هي ثلاثية الأبعاد. الكاتب يضرب بكلماته جذور الظلم الاجتماعي في مقتل، كما بالفصل الرابع عندما كانت عايدة تتساءل: "ما الفرق بين الإقطاعيين بالماضي و بين أصحاب الأعمال في هذه الأيام؟"

وكذلك ظهر هذا الظلم الاجتماعي في مأساة والد "حسن هلال" الذي باع كل ما يملك ليهاجر عبر البحر ثم وفاته في عبارة السلام ليترك زوجة تضطر لبيع جسدها مقابل سداد قرض من المال ثم تموت منتحرة فيرث ابنها العار.

جسدت الرواية بالفصل الرابع مأساة "عبد الله محبوب" عامل السخرة في شق الترع، أما في الفصل  الخامس فقد تعرض الكاتب لمأساة الأمهات اللائي يحدثن عاهات في أولادهن بهدف الهروب من  التجنيد الإجباري و كذلك تفشي الظلم البين في تطبيق قانون محمد علي الذي يقضي بمعاقبة مرتكبي  تلك الأفعال من الأمهات بالإعدام شنقا بالطرح في الترع.

أما عن الأبعاد النفسية في الرواية فقد تجلت في شخصية "حسن الهلالي" و صراعه مع المرض النفسي وشفقة "عايدة" عليه، وظهر البعد النفسي كذلك في صراع "عايدة" النفسي؛ بين الحب العذري ورغبتها  الجنسية. والأمثلة على ذلك كثيرة لا يتسع لذكرها هذا المقال.

ان رواية توتة محبوب يمكن تحويلها إلى سيناريو فيلم سينمائي ليتعرف عليها جمهور أوسع فهي ملحمة تاريخية تستحق التقدير، تلك الرواية ستحفر في فكر القارئ المصري مثلما حفرت رواية البؤساء لفيكتور هوجو في أفكار الفرنسيين وكما أثرت رواية الحرب والسلام لتولستوي في المجتمع الروسي. ومن الجدير بالذكر أن الرواية صادر عن دار هلا للنشر بالقاهرة عام 2022م، وتقع في 202 صفحة من القطع المتوسط.
----------------------------
بقلم: هشام العطار