تعيش سوريا في فترة من التقلبات السياسية والعسكرية المعقدة، حيث تتداخل فيها المصالح الدولية والإقليمية بشكل مكثف، ما يجعلها مسرحًا رئيسيًا للصراع الدولي، حيث ما يزال الهجوم مستمرا ويأخذ شكل التقدم من محورين، الأول باتجاه أحياء حلب ثاني أكبر المدن السورية الخاضعة لسيطرة النظام السوري، والثاني باتجاه مدينة سراقب بريف إدلب، الواقعة على الأوتوستراد الدولي المعروف برمز "إم فور".
في الوقت الحالي، تسيطر هيئة تحرير الشام على معظم مناطق حلب وإدلب، وهو أمر يثير العديد من الأسئلة حول الدور الذي تلعبه هذه الجماعة في إعادة تشكيل خريطة سوريا السياسية والعسكرية.
يلفت الانتباه أن هيئة تحرير الشام لم تدخل إلى الأحياء الكردية في حلب، وهو ما يطرح تساؤلات حول وجود استراتيجية أو حدود معينة لعملياتها في تلك المنطقة.
ويمكن النظر إلى هذه السيطرة على أنها جزء من تقسيم غير معلن لسوريا، برعاية ودعم أمريكي، وتجاهل أو تساهل روسي، ما يعكس صورة معقدة عن أهداف القوى الدولية في سوريا.
هذه التحولات قد تكون بمثابة "سايكس بيكو جديدة" في سوريا، حيث يتم إعادة رسم الحدود بطريقة أكثر مرونة تتيح للدول الكبرى رسم مناطق نفوذ جديدة تتناسب مع مصالحها، حيث تدعم الولايات المتحدة الأكراد في الشمال الشرقي، بينما تسعى روسيا إلى الحفاظ على دعمها لنظام الأسد في وسط البلاد، إضافة إلى الضغط على إيران للحد من نفوذها في المنطقة.
وقد تظهر معركة حلب كأحد المؤشرات الرئيسية لما يمكن أن يصبح توازن القوى في سوريا في المستقبل، وهو ما يشير إلى تقسيم غير رسمي للبلاد يُحتمل أن يتحول إلى واقع على الأرض مع مرور الوقت.
الدعم الأمريكي وأهدافه الاستراتيجية
على الرغم من أن هيئة تحرير الشام قد حصلت على دعم أمريكي غير مباشر، فإن الهدف الأسمى وراء هذا الدعم هو الضغط على إيران لإخراجها من سوريا، وبالتالي إعادة تشكيل الخريطة السياسية في البلاد.
تعتبر إيران حليفًا رئيسيًا لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، وداعمًا رئيسيًا للميليشيات الشيعية التي تعمل في سوريا، وهو ما يتناقض مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.
في هذا السياق، تعتبر هيئة تحرير الشام قوة مهمة في هذه الاستراتيجية، رغم ماضيها المرتبط بتنظيم القاعدة.
لا شك أن هذا الدعم الأمريكي لا يعد انتصارًا للهيئة أو مصلحة في تعزيز قوتها العسكرية، بل هو جزء من خطة أكبر تهدف إلى إعادة توزيع النفوذ في المنطقة.
أحد السيناريوهات المطروحة هو خلق مناطق حكم ذاتي على غرار إقليم كردستان العراق، وهو ما يعزز استقلالية بعض المناطق ويضعف السلطة المركزية في دمشق.
فهذه المناطق ذات الحكم الذاتي يمكن أن تكون بمثابة أدوات لتحقيق التوازن بين القوى الإقليمية والدولية في سوريا.
الوضع العسكري والسياسي لهيئة تحرير الشام
هيئة تحرير الشام، التي كانت تعرف سابقًا باسم جبهة النصرة، كانت في بداياتها تتبنى أيديولوجية تنظيم القاعدة، لكنها مع مرور الوقت دخلت في تحولات كبيرة من حيث هويتها السياسية والعسكرية.
ورغم التطورات التي شهدتها الهيئة وتحولاتها في التحالفات، إلا أنها لا تزال تعتبر جزءًا من المعارضة السورية التي ترفض حكم الأسد.
ومنذ تأسيسها، اتبعت الهيئة استراتيجية مرنة تهدف إلى تعزيز سلطتها العسكرية في مناطق الشمال السوري، وفي الوقت نفسه تتجنب المواجهة المباشرة مع القوى الكردية، مما يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقات غير المعلنة بين هذه الأطراف.
وفيما يتعلق بتشكيل الهيئة الداخلي، فهي تتكون من مزيج من الفصائل المتشددة التي تنادي بإقامة دولة إسلامية، بالإضافة إلى عناصر أكثر اعتدالًا في بعض الأحيان، وهو ما يعكس تعدد الرؤى داخلها.
ومن هنا، قد تكون هذه الاستراتيجية هي المفتاح لفهم تطور موقفها العسكري والسياسي في المنطقة، ففي حين أن الهيئة لا تتبنى سياسة المواجهة مع الأكراد، إلا أن ارتباطاتها العسكرية مع فصائل أخرى في شمال سوريا قد تقودها إلى الصدامات مع بعض المجموعات الكردية في المستقبل، وهو ما قد يغير الوضع العسكري بشكل جذري.
التقسيم غير المعلن: أبعاد الاستراتيجية الدولية
إن التحولات التي تشهدها سوريا حاليًا تشير إلى وجود تقسيم غير معلن للبلاد، يتجسد في عدة مناطق تحت سيطرة قوى متنافسة.
في الشمال الغربي، تسيطر هيئة تحرير الشام على إدلب، وهي منطقة باتت تُعتبر واحدة من أبرز معاقل المعارضة السورية، حيث تلعب الهيئة دورًا مركزيًا في الميدان العسكري.
في الوقت نفسه، تشهد المناطق الشرقية والشمالية الشرقية وجودًا مكثفًا للقوات الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، والتي تسعى إلى تحقيق نوع من الاستقلال الذاتي، وهو ما يثير قلق تركيا بشكل خاص.
أما في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة السورية، فإن هناك استمرارًا في الصراع مع الجماعات المعارضة والميليشيات المتشددة، بينما تقوم القوات الروسية بتقديم الدعم لنظام الأسد، وهو ما يساهم في الحفاظ على التوازن العسكري في بعض المناطق، لكنه لا يفضي إلى حل سياسي دائم للأزمة.
إن التقسيم الفعلي لسوريا يعكس تحولات متواصلة في مصالح القوى الدولية والإقليمية، فمن جهة، يسعى التحالف الأمريكي إلى تقليص نفوذ إيران في المنطقة، بينما تحاول روسيا أن تبقي على دعمها لنظام الأسد بشكل يمنع تحولات قد تضر بمصالحها الاستراتيجية في سوريا.
في المقابل، تتواصل محاولات تركيا لإبعاد الأكراد عن مناطقها الحدودية، مما يخلق توترات إضافية على الأرض.
تحديات الهوية السياسية والعسكرية
منذ بداية الأزمة السورية، كانت هيئة تحرير الشام تعتبر جزءًا من تنظيمات إسلامية متشددة، ولكن مع مرور الوقت، تحولت هذه الهيئة إلى عنصر مهم في معركة المعارضة ضد النظام السوري.
بالرغم من أن الهيئة قد تراجعت عن علاقتها المباشرة مع تنظيم القاعدة، إلا أن ارتباطاتها بالجماعات الجهادية الأخرى لا تزال تؤثر في شكلها السياسي والعسكري.
ويظهر هذا بشكل واضح في التنافس مع الفصائل الأخرى في المعارضة السورية على النفوذ في شمال غرب سوريا، حيث تتداخل المصالح المحلية والإقليمية.
علاوة على ذلك، تعيش الهيئة تحديات كبيرة من حيث المحافظة على تماسكها الداخلي، خصوصًا في ظل الضغوط العسكرية والسياسية من مختلف الأطراف الدولية والإقليمية.
ورغم التحولات التي شهدتها هيئة تحرير الشام، إلا أنها لا تزال تواجه تساؤلات حول قدرتها على الحفاظ على استقلالها السياسي والعسكري في ظل الضغوط المتزايدة.
السيناريوهات المستقبلية والتقسيمات الجديدة
تتمثل إحدى السيناريوهات المحتملة في أن تتحول سوريا إلى مجموعة من المناطق ذات الحكم الذاتي، مماثلة لنموذج إقليم كردستان العراق، إذا استمر الوضع على حاله، يمكن أن تتقسم سوريا إلى مناطق تحت سيطرة القوى المختلفة، مثل:
المنطقة التي تسيطر عليها الحكومة السورية: هذه المنطقة تضم العاصمة دمشق وبعض المناطق الغربية، وبدعم من روسيا وإيران، قد تظل هذه المنطقة تحت النفوذ الروسي والإيراني.
المنطقة الكردية: الشمال الشرقي من سوريا، التي يسيطر عليها الأكراد بدعم أمريكي، قد تشهد المزيد من الاستقلالية، مع حماية للقوات الأمريكية في المنطقة.
مناطق نفوذ تحرير الشام: المناطق التي تسيطر عليها جماعات المعارضة مثل هيئة تحرير الشام، حيث تسعى هذه الجماعات إلى الاستقلال الجزئي، مع دعم غير مباشر من القوى الغربية.
المناطق التركية: جنوب سوريا، خصوصًا في إدلب وعفرين، تسيطر عليها تركيا أو تفرض نفوذًا كبيرًا عليها، بما يتناسب مع مصالحها في منع الأكراد من تكوين كيان مستقل.
التقسيم الجديد: هوية سياسية جديدة لسوريا؟
يمكن اعتبار ما يحدث الآن في سوريا بمثابة تحولات حقيقية في المعركة على الهوية السياسية للبلاد، فالصراع المستمر من أجل السيطرة على الأرض يترافق مع محاولات لاعتماد نموذج جديد للتقسيم يمكن أن يكون أقرب إلى تقسيم فعلي، لا يتوافق بالضرورة مع الحدود التي أُنشئت في اتفاقية سايكس بيكو ولكنها تتبع نفس المنطق في تقسيم المنطقة إلى مناطق نفوذ منفصلة.
هذا التقسيم قد يشمل مناطق حكم ذاتي تحت إشراف دولي، وربما يصبح محركًا لإعادة تشكيل الخريطة السياسية السورية بطريقة تتناسب مع القوى العالمية الحالية.
الخلاصة هي أن الوضع الحالي في سوريا يزداد تعقيدًا مع مرور الوقت، في الوقت الذي تسيطر فيه هيئة تحرير الشام على مناطق واسعة في الشمال الغربي من سوريا، يبقى الدور الأمريكي في هذا الصراع محوريًا في محاولة لتحقيق أهدافه الاستراتيجية المتعلقة بإيران والنفوذ الروسي، وفي الوقت نفسه، تعكس هذه السيطرة العسكرية التغيرات المستمرة في توازن القوى داخل سوريا وخارجها، مما يساهم في تشكيل خريطة سياسية وعسكرية جديدة قد تستمر في التغير مع الوقت.