تتزاحم في رأسها مخاوف سوداء ، حتى وإن رضيت من قسمتها بهذه العزلة ، تجاهد نفسها فرارا من شعاع الذكريات المتدفق بالحيرة ، صممت على ألا يربطها بمن حولها رابط ، نجحت لسنوات في اسدال الستار عن المشهد ، حتى ذاتها ، غيبتها بين طيات ثيابها السود التي ترفض استبدالها.
" اعتدال " جلبها الحاج " مدكور " تاجر المواشي الكبير من مسقط رأسه ، فتاة ريفية ساذجة ، على قدر وافر من الملاحة والصبا ، قد غلف الفقر جمالها بغلالة كثيفة ، كانت ابنة لصديقه " عوض " وعوض فلاح بسيط لا يملك غير فأسه وشرفه ، وتلك ثروة الريفي ومدخره ، رآها " مدكور " في أحد الأفراح ، ساعتها لمعت عيناه ،واشتد وجيب قلبه ، ظل يشتهيها بكل جارحة من جوارحه ، تفجرت في العجوز ينابيع غنية من الحب والوله ، لم يهنأ له بال ؛ حتى ضمها إليه ، عاشت الفتاة سنوات تنعم في عز باذخ ، فتكشفت مفاتن جسدها الحارة ، وبرقت طازجة تسر الناظرين ، فبدت غزيرة الأنوثة ، رأت من عطفه ما أنساها الفقر وأيامه ، فانجذب قلبها إلى قلبه ، رغم ما بينهما من فارق العمر.
لم تدم سعادتها طويلا ، ولم يهنأ بالتنعم في بستان حبها الجني ، غادر الحياة دون إنذار ، تبخرت برحيله كل طمأنينة ، وجدت نفسها وجها لوجه مع مصير تجهله ، فكان منها ما كان.
وبين عشية وضحاها تبدلت أحوالها ، شعرت وكأنها خلقت خلقا جديدا ، رويدا رويدا انقشعت منابت الألم ، انبسطت أساريرها ، ولمعت عيناها، ألقت عنها السواد ، واقبلت ثانية تعانق الحياة ، والسبب في هذا " محسن " ابن جارتها "عطيات" ، و" محسن " شاب لعوب طائش، أوتي قدرا من الملاحة والظرف ، لا تفارق محياه ابتسامته الصاخبة ، يمرح ويلهو وكأنما ليس في الحياة غير المرح والانطلاق ، تسلل خلسة إلى حياتها ، وفرض بصخبه نفسه عليها ، زاحمها وسد عليها جميع مسالكها حتى استسلمت ، أحست بأن مشاعرها لم تزدهر بهذه الطريقة من قبل ، ما إن تلمحه وقد اقبل ، إلا وتخف إليه في تلهف كمراهقة صغيرة، تتطلع نحوه في إحساس هائم لذيذ ، يبادرها بالتحية في مشاكسة ، فتصغي إليه منتشية ، تلعقه بعيونها ، نجحت في أن تجعل وسيلتها إليه ما بينها وبين أمه من صداقة، أما هو ، فلم يدخر وسعا ليكسر الطوق الذي فرضته من حولها لسنوات ، أن يخرج كوامن الأنثى المتشظية ، حركت كلماته المعسولة شيئا فيها ، نفخت الرماد من فوق جمرات لا تزال ملتهبة في جوفها ، جعل منها كائنا آخر يسيل بالمشاعر ويهتف بالحب .
لم يدم الأمر طويلا ، اسقطت في يده ، لتتطور الأمور بينهما نحو المنحدر، لم تعد تسعه وحدها الكلمات، كانت وفي كل مرة تجلس إلى نفسها منهزمة ، تمضغ القلق ، تتوق أن يطير خبر تعلقها بفتاها فيملأ الدنيا ، لكنها مع هذه تكره الذكرات التي عصرت شبابها، تكره أن تعود إليها، ماذا تفعل وقد وجدت ما يؤجج عاطفتها، ويجدد ثقتها بالحياة ، " محسن " ، وإن يصغرها ، وإن ظنت فيه الظنون لا يهم ، إنه فتاها الوفي، أنه محررها من قيودها الثقيلة التي كبلتها لسنوات ، سريعا ذاب التحفظ بينهما ، لتعطيه كل شيء كانت ترده عنه ، أسلمت قيادها إليه يوجهها كيفما شاء ، قالت يوما ، وقد انتشرت أبخرة الرغبة تحجب كل تفكيرها :" لماذا أخاف الناس ، هذه حياتي وحدي ، والإنسان يعيش لمرة واحدة ، يكفي ما ضاع مع تاجر البهائم " ، التمعت عينها سرورا ، عزمت من وقتها التحرر من هذا الهوان الذي تقاسيه ، استجمعت شتات نفسها ، لتقول وآي الاهتمام ترتسم على محياها :" لنتزوج ، نعم الزواج هو الحل الوحيد ، لتخرس ألسن الناس ، واحتفظ بحبي" ، انتظرت مجيئه، هذا موعده لماذا تأخر ؟ ، حاولت أن تخفف من ثورتها ، غاصت بسمتها الوليدة ، اطرقت هنيهة حاولت فيها استجماع شتات نفسها الموزعة ، انفجر في رأسها خاطر ، لتجيب بصوت محموم :" لأذهب إليه وليكن ما يكون "، توالت طرقاتها في توتر ، انفرج الباب قليلا ، اطلت والدة " محسن " بوجه كالح على غير العادة ،وقد انفرجت أسنانها عن ابتسامة خبيثة ، لتقول هازئة :" لقد سافر محسن فجرا ، سافر إلى الكويت " ، ثم أغلقت في وجهها الباب ، دارت الأرض بها ، قالت وقد تلون وجهها بجمر الغضب :" سافر؟!" ، عادت تجر أذيال خيبتها ، مشت في صمت مبهورة الأنفاس زائغة البصر، وفي الصباح كان " عبده " السمسار يعاين بيتها ، لقد عرضته للبيع ، بعدما قررت الرحيل.
---------------------------------------
قصة قصيرة يكتبها: محمد فيض خالد