09 - 05 - 2025

عام على طوفان الأقصى .. ما وراء حسابات الربح والخسارة (1): صراع مركزي وممتد يتجاوز الجيوش

عام على طوفان الأقصى .. ما وراء حسابات الربح والخسارة (1): صراع مركزي وممتد يتجاوز الجيوش

عام كامل مع كل هذه الصور للدمار والخراب المدفوعين بتصورات القوى الأكثر تطرفاً
- لا أحد يعلم أين يمكن أن تقف حدود هذه الحرب، في ضوء الحشود العسكرية وتقاطعات المصالح الإقليمية والدولية

هناك صراعات يصعب فيها إجراء حسابات دقيقة للربح والخسارة، أو بالأحرى لا يمكن الحكم على نتائجها بما يحققه هذا الطرف أو ذاك من الأطراف المنخرطة في الصراع من مكاسب وما يتكبده من خسائر، ولا يخرج أي من الأطراف المتحاربة منتصراً بشكل حاسم في حين يكون من الصعب عليهم جميعاً الإقرار بالهزيمة في أي جولة من الجولات العسكرية المتكررة الحدوث في مثل هذه الصراعات.

يأتي الصراع بين دول المنطقة وشعوبها وبين المشروع الصهيوني، الذي تجسده دولة إسرائيل، في مقدمة هذه الصراعات التي تُصنَّف كصراعات اجتماعية ممتدة، تتجاوز الجيوش المتحاربة لتشمل المجتمع بأسره، وتتعدد مستوياته وتتداخل أبعاده وتتشابك. ويندرج في تلك الفئة من الصراعات الصراع مع إسرائيل، حتى بعد انحساره إقليمياً، في أعقاب حرب أكتوبر 1973، وتحوله إلى صراع فلسطيني -إسرائيلي.

في مثل هذه الصراعات، يكون من الأفضل تحليل التأثير المترتب على كل جولة من جولات المواجهة على الأطراف ومعرفة كيفية استجاباتهم للتحولات في بيئات الصراع الثلاث، الداخلية والإقليمية والدولية، واختبار التصورات النظرية والفرضيات الأخرى المستمدة من سرديات كبرى ومدى اتفاقها مع الواقع وتغيراته ومدى اختلافها عنه، وتحليل التفاعلات فيما بين الأطراف المنخرطة في هذا الصراع. 

وقد يكون السؤال الأحرى بالبحث بعد مرور عام على الحرب التي أطلقت شرارتها عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023، ما الذي تغير نتيجة هذه الحرب أم ستكون مثل سابقتها من حروب عانى منها القطاع المحاصر منذ عام 2007؟ وما الذي استطاعت الأطراف المنخرطة تحقيقه من أهداف معلنة أو متصورة أو مفترضة وما لم تستطع تحقيقه؟ 

ربما يكون هذا التقييم فرصة، أرجو ألا تكون ضائعة كغيرها من الفرص التي ضاعت، في خضم هذا الصراع وتاريخه الممتد، لإعادة النظر فيما كتب من تحليلات بخصوص هذه المواجهة الأحدث والأكثر دموية، وتقييم مساهمة تلك التحليلات في تحسين رؤيتنا أو فهمنا للصراع ولقواه المحركة ورصد التغيرات التي طرأت عليه، أم أنها أدت إلى زيادة تشوش الرؤية والفهم، وقد تكون المراجعة فرصة لاختبار مدى ثبات، أو جمود، نظرتنا للصراع في ضوء المتغيرات الجارية في العالم وفي مجتمعاتنا، وتأثير تلك النظرة في تحديد رؤيتنا لمسار الصراع ومستقبله وإمكانية حسمه، وتقييم محاولات تسويته، وهل هي محاولات جادة للتسوية أما أنها تندرج في إطار إدارته لتحقيق مصالح هذا الطرف أو ذاك، وهل يفسر ذلك عجز القوى المختلفة عن تسويته على نحو يضمن التوصل لترتيبات مستقرة لفترات طويلة تساعد على التنبؤ بمسارته وتطوراته، خاصة أن هذا الصراع يوصف، عادة، بأنه مراوغ وعصي على الفهم، إذ لا يوجد صراع مثله شهد مثل هذه الخلافات الجذرية بخصوص تحليل طبيعته، هل هو صراع دولي أم صراع إقليمي متعدد الأطراف؟ هل هو صراع قومي أم ديني؟ حضاري مرتبط بالسعي إلى تغيير قيم الأطراف المنخرطة فيه والثوابت التي ينطلقون منها؟ هل هو صراع وجود بين مشروعين أو أكثر، أم صراع حدود؟ هل يقبل هذا الصراع التوصل إلى حل ينهي حالة العداء القائمة ويحد من ميله للانفجار بشكل متكرر في صورة مواجهات مسلحة، إما سعياً لتعديل مواقف أطرافه أو أملا في التمكن من حسمه بالقوة المسلحة؟ 

هذه الأسئلة وعشرات الأسئلة الأخرى والمطروحة منذ بداية هذا الصراع تجددت مع حرب غزة المستمرة إلى اليوم والتي من المحتمل أن تتحول إلى حرب إقليمية أوسع قد تتطور إلى حرب عالمية. لا يوجد صراع عالمي، مثل صراع الشرق الأوسط، حظّي بهذا القدر من الاهتمام من قبل كبار السياسيين والزعماء في العالم، وعلى المستوى الأكاديمي من قبل الباحثين والدارسين والخبراء، والذي عقدت لبحثه ومناقشة تطوراته واحتمالات تسويته آلاف الندوات والمؤتمرات الأكاديمية وورش العمل وحلقات النقاش، ولم يستحوذ صراع مثله على اهتمام وسائل الإعلام المحلية والعالمية، في فترات مختلفة من تاريخه الممتد لقرابة 80 عاماَ، منذ الحرب العربية الإسرائيلية الأولى في عام 1948، والتي سبقتها عقود طويلة من الصراع على أرض فلسطين قبل الانتداب البريطاني وأثناءه، بين السكان المقيمين وبين المهاجرين اليهود. اللافت للنظر أن هذا الصراع المستعصي على الحل، صمد في مواجهة رياح التغيير العاتية، التي اجتاحت العالم شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً وظلت له ملامح ثابتة لا تتغير بتغير الظروف المحيطة به وإن تبدلت مستوياته وتغيرت صوره وأدواته. ولا يوجد صراع مثله تداخلت فيه كل التناقضات الداخلية والخارجية وشهد الكثير من تبدل التحالفات حوله.

لقد كان الصراع العربي-الإسرائيلي والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، الذي عرف في كثير من أدبيات الأمم المتحدة بمشكلة الشرق الأوسط، محوراً رئيسيا لدراسات الشرق الأوسط في كثير من الجامعات والمعاهد ومراكز التفكير والبحث في الولايات المتحدة وفي أوروبا وفي العالم العربي والتي أصدرت عدداً لا يحصى من الدراسات والتقارير والكتب، التي تناولت الجوانب المختلفة لهذا الصراع وأطلقت مئات البرامج البحثية التي جعلت من الصراع ميداناً للبحث لاختبار نظريات الصراع وتطويرها، فظهرت العديد من النماذج التحليلية والأطر النظرية لتفسير هذا الصراع في مراحله المختلفة وفي الاشتباك مع كثير من المفاهيم التي ارتبطت به، وظهرت في سياق هذه الدراسات العديد من التخصصات الفرعية، مثل الدراسات الإسرائيلية وتسوية الصراع وأبحاث السلام التي عقدت مقارنات بين هذا صراع الشرق وبين كثير من الصراعات الدولية، والتي تناولت مفاهيم مثل التطبيع والخصوصية، أو ظواهر مثل الإرهاب. 

وعلى الرغم من كل المحاولات التي استهدفت تحويله من صراع مركزي إلى واحد من بين الصراعات العديدة التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط التي تعج بالصراعات منذ مطلع القرن العشرين، والتي جعلت المنطقة التي تشكل قلب العالم القديم الأكثر اضطراباً والأقل استقرارا في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، إلا أن تطورات الصراع وتعرجاته تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذا الصراع هو محور للصراع الإقليمي وربما الصراع العالمي، وأنه صراع مركزي قد يترتب على تسويته أو حله أو حسمه الكثير من الترتيبات العالمية. 

وهذه الوضعية جعلت هذا الصراع ميداناً رئيسيا لسيادة نظريات المؤامرة أو لتفسير الحوادث التاريخية من منظور المؤامرة، التي يراها البعض صهيونية، فيما يراها آخرون مؤامرة كونية كبرى. في ظل سيادة هذه النظرية وتلك التفسيرات، جرى ربط كل الصراعات والحروب في المنطقة وربما في مناطق أخرى من العالم بهذا الصراع، حتى لو تكن إسرائيل طرفاً فيها، ونظر إليها كخطوة في سبيل تحقيق المشروع الصهيوني وإقامة إسرائيل الكبرى التي تمتد من النيل إلى الفرات حسبما تقول أسطورة أرض الميعاد في نسختيها اليهودية أو العربية، والتي كانت نقطة انطلاق لكثير من الناس عند الحديث عن أي موضوع يتصل بالصراع مع إسرائيل. 

وإذا لم تعجبك النسخة الدينية لرواية المؤامرة، فهناك نسخة يسارية تتشارك فيها بعض العقائد السياسية العلمانية تضع هذا الصراع في سياق الصراع الأممي الممتد، تاريخاً وجغرافية، ضد الرأسمالية ومشروعها التوسعي وتنظر إلى إسرائيل باعتبارها قاعدة متقدمة للإمبريالية العالمية التي تتزعمها الولايات المتحدة التي تسعي للسيطرة على مقدرات الشعوب وثرواتها، أو مخلباً لتأديب من يتجرأ على تحدي القوى الإمبريالية، ووفق هذه السردية فإن إسرائيل ربيبة الاستعمار القديم والحديث، وأي استعمار قد ينشأ. وفي كل هذه السرديات هناك الكثير جداً من الأساطير والأوهام والقليل جداً من الحقائق والوقائع، وفي ظلها، يتم التركيز على حالة الحرب المستمرة وإخفاء الممكنات الأخرى للمسارات البديلة في تاريخ هذه العلاقة المضطربة والمعقدة، ويتم أيضاً تغليب الرؤى الكارثية التي تبشر بالخراب والدمار وتنشر صوره في كل مكان وتحجب صوراً أخرى تشير إلى تغيرات قد تساهم في تغيير هذا الواقع المرير إلى واقع أفضل، والغلبة في كل هذا لمشاعر الكراهية المتبادلة بين العرب والمسلمين واليهود، والتي ترد الصراع إلى مكوناته الدينية والقومية.

عشنا طوال عام كامل مع كل هذه الصور للدمار والخراب المدفوعين بتصورات القوى الأكثر تطرفاً التي تتصدر المشهد بعدما تراجعت القوى الأكثر اعتدالاً التي كان من الممكن أن ترسم صورة أخرى للمستقبل، خصوصاً بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين الذي أراد أن يشق طريقا جديداً مغايرا للمستقبل، وحاول في عام 1992، التعامل مع المشكلة بشكل مباشر، مثلما فعل السادات في عام 1977، ولا غرابة في أن يكون الرجلان هدفاً لقوى التطرف الديني والقومي، الذين رأوا فيما طرحه الرجلان عقبة أمام مساعيهم للهيمنة وفرض تصوراتهم على الجماهير التي تدفع ثمن هذا الصراع، قتلا وتشريدا وتهجيرا، وهي راضية ومقتنعة بأنه ثمن زهيد من أجل الغايات العليا والأهداف السامية. ومع كل تجدد للقتال تنتعش الآمال في أننا نشهد معركة النهاية الفاصلة وتُصَمُ الآذان عن سماع أي قول يردد أنها جولة من الجولات التي من المرجح أن نشهد عشرات مثلها طالما استمرت القوى الدافعة لاستمرار الصراع، لكن من المؤكد أن هذه الجولة، كغيرها من جولات سبقتها، ستؤدي إلى تحولات تؤثر على تصورات الأطراف المتصارعة ومخططاتهم وأهدافهم، لكن التحولات هذه المرة قد تؤدي إلى تأثير أعمق وأبعد مدى، مما يجعل هذه الحرب علامة فارقة بين ما قبلها وما بعدها، مما يستدعي البحث عن إطار جديد ومنظور جديد نرى من خلاله الصراع.

نحو منظور جديد

انطلقت هذه الجولة، وهي المواجهة العسكرية الأطول في تاريخ الصراع، بعد هجوم "طوفان الأقصى"، بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وفصائل فلسطينية أخرى متمركزة في قطاع غزة، والتي كانت تجهز لمعركة تتطلع لأن تكون شرارة لحرب أوسع تشارك فيها أطراف أبعد تنتهي بتحرير القدس، والقضاء على دولة المشروع الصهيوني، ليُكتب فصل جديد في تاريخ المنطقة. وفتحت هذه الحرب الباب واسعاً أمام أسئلة كبرى بخصوص المستقبل وكيف سيكون. 

الرأي السائد لدى الجانبين أن هذه الجولة يجب أن تكون مختلفة عما سبقها، إذ يرى كل طرف أنها فرصة حسم الصراع لصالحه أكبر، نظراً لاختلاف طبيعة هذه المواجهة والاستعداد لها والقوى التي احتشدت بسببها. ولا شك أن هجوم السابع من أكتوبر 2023، هو لحظة فارقة في هذا الصراع، من زاوية سعي كل طرف لتغيير المعادلة. وفي ظل هذا الانشغال الشديد بتغيير الواقع، كان لا بد من وقفة ما لتفسير الواقع وفهمه للوقوف على ممكنات هذا التغيير ومساراته، ولتحليل مواقف وأهداف القوى الساعية للتغيير، وفي أي اتجاه تمضي. 

كان لا بد من وقفة نحلل فيها الحاضر لاستشراف المستقبل وكيف سيكون شكله، ومن المهم أن يكون هذا التحليل متحررا من السرديات المشحونة بالنبوءات ومن التمنيات والرغبات والصور النمطية والتصورات المسبقة المبنية على تصورات محددة للصراع تتجاوز حدوده الواقعية والفعلية، وأن يسعى التحليل لتقديم منظور جديد للصراع يساعدنا على فهم اللحظة واستيعابها ويزودنا، في الوقت نفسه، بأدوات تمكننا من تطوير بدائل لما يسعى المتطرفون لفرضه على شعوب المنطقة، وهو ما حاولته في سلسلة المقالات المنشورة من خلال جريدة المشهد تحت عنوان ثابت هو "حرب غزة 2023". 

وظفت في هذه المقالات كل ما تراكم لدي من معرفة عن هذا الصراع وتاريخه، وهي معرفة لم تتكون فقط من خلال فترة في حياتي المهنية عملت خلالها عن قرب مع مناضل مصري وأستاذ جليل هو الدكتور رؤوف نظمي (محجوب عمر) في مكتب مركز التخطيط الفلسطيني، وإنما أيضا من خلال نشاطي في لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، التي شكلها نخبة من المثقفين المصريين في مطلع الثمانينات، رداً على محاولات العبث بمقومات ثقافتنا الوطنية وركائزها، في أعقاب معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية عام 1979، ونشاطي في اللجنة المصرية لدعم الانتفاضة الفلسطينية التي تشكلت لمساندة أطفال الحجارة في انتفاضتهم ضد جنود الاحتلال في القدس وفي الضفة الغربية المحتلة وفي قطاع غزة، والتي غيرت نظرة العالم للمشكلة الفلسطينية من مشكلة لاجئين إلى شعب يكافح من أجل حقه المشروع في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، وأيضا من خلال نشاطي البحثي والصحفي واتصالي المباشر بشخصيات فاعلة ومؤثرة في هذا الملف، ومن خلال متابعة كل ما يصدر من تقارير ودراسات حول هذا الصراع والقضايا المرتبطة به. والأهم أنني وظفت معرفتي بالتطورات داخل إسرائيل والتي كنت اتابعها متابعة دقيقة عن كثب وكذلك معرفتي بتفاصيل ما يدور في الأراضي الفلسطينية المحتلة من خلال عملي لنحو ثماني سنوات محررا ومترجما لبعض إصدارات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التابع للأمم المتحدة.

لم اكتف في هذه المقالات بالتعليق على ما يدور من أحداث وما يصدر من تصريحات تعبر عن مواقف الأطراف المنخرطة في الصراع والمعنية به، وانما انصب اهتمامي الأساسي على محاولة فهم التغيرات التي جرت في البيئة الداخلية والإقليمية والدولية، وتحليل المواقف وردود الفعل الإقليمية والدولية، ومحاولة الإجابة على بعض الأسئلة المثارة خلال هذه المواجهة واحتمالات تطور هذا الصراع ومساراته الممكنة والمتخيلة. وانصب اهتمامي أيضاً على مناقشة المنطلقات الفكرية والنظرية لمواقف الأطراف المنخرطة في الصراع والخبرات الإقليمية والدولية في التعامل معه، ونقد السرديات الحاكمة له وما يرتبط بها من رؤى وتصورات ونبوءات. وحاولت تفسير استعصاء هذا الصراع على الحل. ولم أهتم فقط بالموضوعات التي يركز عليها الإعلام الدولي والمحلي والأسئلة التي تشغله، وإنما انشغلت أيضا بالمسكوت عنه، وبالتطورات التي تجري في صمت والتي قد تفاجئنا بواقع جديد وبأوضاع جديدة يتعين علينا التعامل معها. ويستند المنظور الجديد الذي سعيت لتطويره من خلال المقالات إلى عدد من الفرضيات التي حرصت على اختبارها، كلما تيسر ذلك، من خلال نقاشات مع وجهات النظر المختلفة بشأن هذا الصراع الذي أصبح شاغلاً للجميع في المنطقة وخارجها. ولم أتناول بعد بالتفصيل بعض تلك الفرضيات.

نهجان لإدارة الصراع

أولى هذه الفرضيات يتعلق بإمكانية وفرص تحقيق مصالحة بين نهجين لإدارة الصراع مع إسرائيل، تبلورا قبل طوفان الأقصى، مباشرة، في محورين متنافسين دوما، ومتصارعين أحياناً، هما: محور أنصار التسوية السياسية والسعي لإدماج إسرائيل في المنطقة من خلال تطبيع العلاقات معها. وحقق تقدماً في مساحات جديدة بعد توقيع الاتفاقيات الإبراهيمية في الأسابيع الأخيرة في ولاية الرئيس الجمهوري دونالد ترامب في عام 2020. المحور الثاني هو محور المقاومة والذي تقوده إيران. تستند فرضية المصالحة بين النهجين على ضرورة عدم تجاهل المكاسب التي تحققت خلال "عملية السلام" في الشرق الأوسط، والتي تركز على جهود التسوية السياسية والسلمية، بدءاً بمبادرة الرئيس السادات في نوفمبر عام 1977، وزيارته التاريخية للقدس وخطابه أمام الكنسيت، ثم عملية مدريد للسلام في عام 1991-1992، برعاية أمريكية في أعقاب حرب الخليج الثانية عام 1991، واتفاقيات أوسلو عام 1993، وأخيراُ الاتفاقيات الإبراهيمية، وما تخللها من اتصالات ومفاوضات، لكن الفرضية لا تتجاهل، أيضاً، أهمية استمرار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، بكل الوسائل المشروعة، وفضح ممارساته وأساليبه، وتصعيد الضغوط الخارجية عليه بتدشين تحالفات دولية إقليمية داعمة للمقاومة.

هناك مخاطر ناجمة عن الصراع بين النهجين واستبعاد أحدهما لصالح الآخر، ومخاطر أخرى ناجمة عن الانحراف بأي من هذين النهجين عن الهدف المتمثل في إنجاز الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وتتويج نضاله وتضحياته من أجل قضيته العادلة، سواء بالتوصل إلى تسويات على حساب هذه الحقوق وعلى حساب الفلسطينيين، أو باستغلال المقاومة المسلحة والقضية الفلسطينية لتحقيق طموحات إقليمية أخرى على حساب الشعب الفلسطيني أيضاً. لقد عانت القضية الفلسطينية كثيراً، منذ حرب عام 1948، نتيجة لشعار أنها "قضية العرب المركزية"، الذي حولها إلى موضوع للصراع على السلطة داخل البلدان العربية، أو على النفوذ الإقليمي وكان دافعاً لفرض وصاية على الشعب الفلسطيني وقيادته السياسية وفرض شروط لدعم الكفاح المسلح. وأدى هذا النهج إلى مآسٍ انتهت بطرد المقاومة الفلسطينية من الأردن في عام 1970، ثم من لبنان في عام 1982، ولم يكن أمام القيادة الفلسطينية من بديل سوى استثمار ما أحدثته الانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في ديسمبر عام 1987، لتحقيق مكاسب من خلال التفاوض المباشر. وجرى استغلال المقاومة الفلسطينية، أيضاً، لفرض الهيمنة السورية على لبنان بعد اندلاع الحرب الأهلية في عام 1974، واستغلها الزعيم العراقي البعثي صدام حسين لتبرير احتلاله للكويت عام 1991، بعد انتهاء حربه التي دارت ثماني سنوات مع إيران، والتي لم تخل أيضا من مزايدات على القضية الفلسطينية.

وأدى الخلاف بين النهجين إلى انقسام في العالم العربي بعد زيارة السادات للقدس، قادته جبهة الصمود والتصدي بزعامة العراق وسوريا وبمشاركة سعودية، في محاولة لعزل مصر عن محيطها العربي، بدعوى رفض نهج التسوية والتمسك بمقررات القمة العربية في الخرطوم بعد حرب يونيو 1967، التي تنص على أنه لا اعتراف بإسرائيل ولا صلح ولا تفاوض معها. واستمر هذا الخلاف حتى منتصف الثمانينات لكنه بدأ يضعف بتأثير من حرب لبنان عام 1982 وما أحدثته من نتائج، والحرب العراقية - الإيرانية والدعم المصري للعراق، واستعادت مصر، خلال الحربين، دورها في العالم العربي وبدأت تحدث تخلخلا في جبهة الصمود والتصدي وزعماءها الذين وقفوا عاجزين أمام الاجتياح الإسرائيلي للبنان، والذين لم يحدثوا أي فارق في ميزان القوة العسكري مع إسرائيل، واستغلوا قوتهم العسكرية إما لحسم صراعاتهم الداخلية على السلطة أو في مواجهة خصوم إقليميين آخرين. 

والأخطر أن هذا الانقسام هو السبب الجذري للانقسام الفلسطيني - الفلسطيني الذي وظفته إسرائيل لتحقيق مصالحها ولإدارة الصراع مع الفلسطينيين. وتسبب هذا الخلاف أيضا في تعطيل وضع سياسات ومقاربات لتطوير تيار في إسرائيل مرتكز إلى فلسطيني الداخل الذين تطوروا سياسياً للتأثير على المعادلة السياسية داخل إسرائيل وداعم لإنهاء الاحتلال والتوصل لاتفاق مع الفلسطينيين، ونتيجة لذلك تمكن التيار اليميني المتشدد من السيطرة على السلطة في إسرائيل وتفكيك معسكر السلام واليسار. وكانت عملية طوفان الأقصى بمثابة رصاصة الرحمة التي أطلقت على ما كان يعرف بالحمائم أو معسكر السلام في إسرائيل، والذي كان يحتضر بفعل الضربات المتلاحقة من قوى اليمين عقب انتعاشه بعد اتفاقية أوسلو. ولا نعرف بعد ما هو مصير الجماعات اليهودية الكثيرة التي نشأت نتيجة للتعايش اليهودي العربي والمناهضة للاحتلال والسياسات التوسعية وممارسات الاحتلال في الضفة الغربية وغزة، وكانت هذه الجماعات التي تقدر بالعشرات مصدراُ رئيسياً للمعلومات عن الانتهاكات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، ولعب بعضها، مثل منظمة "بتسيلم"، دوراً في مقاطعة منتجات المستوطنات في دول الاتحاد الأوروبي، من خلال القوائم التي تصدرها وتوزعها على دوله.  

أشار مراقبون إلى أن أحد الدوافع الرئيسية المحتملة لهجوم طوفان الأقصى هو إحباط توسع الاتفاقيات الإبراهيمية لتشمل السعودية، وذهب البعض إلى تصويرها كما لو كانت جزءاً من خطة إيرانية لإحباط هذا النهج ولردع الدول الخليجية التي أبرمت اتفاقيات مع إسرائيل، رغم رسائل وردت من طهران بأنها لا تمانع في تركيز هذه الاتفاقيات على العلاقات الاقتصادية، رغم إدانتها، وعلى ألا تستخدم لتشكيل محور إقليمي مناهض لها. لا خلاف على أن هذه الاتفاقيات التي سارت وفق منهج نتنياهو المرتكز على فكرة "السلام مقابل السلام"، بدلا من فكرة "الأرض مقابل السلام"، أثرت على فرص إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية رغم أن هذا الحل أحد الشروط الرئيسية التي وضعتها السعودية لإبرام اتفاق تطبيع مع إسرائيل. لكن المخاوف الفلسطينية تزايدت مع بدء التفكير في مشروعات مثل المشروع الهندي لطريق التجارة الجديد الذي يربط موانئ دول الخليج العربية بمواني إسرائيل عبر طريق بري يمر عبر الأراضي السعودية والأردن. 

على الرغم من التعايش بحكم الأمر الواقع بين النهجين، إلا أن غياب حوار بينهما كان له تأثير سلبي على القضية الفلسطينية وعلى تحسين إدارة الصراع مع إسرائيل، ومن شأن هذا الحوار أن يهيئ المجال لتغيير المعادلة الاستراتيجية للصراع في الشرق الأوسط، بما يفيد دول المنطقة، وربما كان التقارب السعودي الإيراني، الذي بدأ بمبادرة صينية قبل أسابيع من طوفان الأقصى، مقدمة لمثل هذا الحوار، الذي لا يزال ضرورياً، لا سيما للتأثيرات في الترتيبات المتصورة على المستوى الفلسطيني والإقليمي بعد انتهاء الحرب، فضلاً عن تأثيره المباشر.
-------------------------------
بقلم: أشرف راضي

العدد 336 من المشهد الأسبوعية ص 6