01 - 05 - 2025

ظل التوقيع

ظل التوقيع

إن من خصال الرجل العاقل ذي اللب والكياسة، أن يعلو في نفسه شأن رأي والده، فيؤثره على هوى نفسه، ويقدم رضاه على كلّ فكرة تطرق قلبه. فما كان للأب إلا أن يرى في دروب الدنيا ما يعجز الابن عن إدراكه، وما خال الأب إلا رفيق الدهر الذي عصفت به التجارب، وحملته إلى مرافئ الحكمة، فكان رأيه نافذًا، وبصره أبعد. فما عسى الابن إلا أن يذعن لحكمة الأب، وأن يرفع مقامه في حياته، وأن يظل على عهده بعد مماته، وفاءً لعهد بره، وتقديسًا لذكراه. 

لقد أخبرنا أستاذي الجليل الراوية محمد رجب البيومي بحديث يزهر في العقل، ويوقظ القلب عن الأستاذ الأديب الشهير محمد إسعاف النشاشيبي، علامة فلسطين، الذي إذا نُسب إليه الأدب، فكان أهلًا له، وإذا نُعت بالعلم، فكان من سدنته. 

كان رحمه الله يخط بقلمه كتابات أدبية بديعة، متسلسلة، يفيض بها بحر مجلة "الرسالة" للأستاذ الكبير أحمد حسن الزيات، تلك المجلة التي كانت حينئذٍ شعلة الأدب، ونبراس العلم. إلا أن ما خفي عن الناس، بل عن الخاصة منهم، أن الأستاذ النشاشيبي كان يذيل تلك المقالات بتوقيع مستعار، فلا يذكر من اسمه شيئًا، ويكتب تحت كل مقال اسم "أستاذ جليل"، فيُخفِي هويته كأنما يريد للظل أن يكون مقامه، وللسر أن يكون أذنه. 

وهنا، تساءل البيومي عن هذا الأمر العجيب! كيف لرجل بلغ في العلم والأدب مبلغًا، واحتلّ في نفوس القوم مقامًا، أن يظل مستترًا في سراب التوقيعات المجهولة؟ سأل عن الأمر أساتذته، علّهم يهدونه إلى جواب شافٍ، لكنهم لم يرووا غليله. ثم، وقد استقرّ في نفسه حب البحث والتقصي، عزم أستاذي البيومي على مقارنة مقالات النشاشيبي التي نشرها باسمه الصريح بتلك التي جاءت بتوقيع "أستاذ جليل". 

وكان ما كان؛ إذ وجد الأسلوب ذاته، والنهج نفسه، والفكرة واحدة، والأحاسيس متطابقة، فكان كأنما تتشابه الوجوه، وتتشاكل الأنفس. فخلص إلى أن "أستاذ جليل" ما هو إلا النشاشيبي ذاته. وذات يوم، إذ جمع لقاء بين أستاذنا البيومي وأستاذه العلامة الكبير النشاشيبي، ودار حديثٌ بينهما، فبادر البيومي بسؤال طالما أرّق فكره: ما سر هذا الإخفاء؟ ما الذي دفع بك إلى أن تتخلى عن مجد اسمك وتختفي وراء قناع التوقيعات المستعارة؟  

وهنا، أفضى الأستاذ النشاشيبي بسرّ خفي على العامة والخاصة، مكشوف لذوي العقل والنباهة. قال: "إن والدي، رحمة الله عليه، كان من كبار الأثرياء، وكان في قريتنا ذا مقام رفيع وشأن عظيم. وكان له من الموظفين والمريدين عدد كبير، يحفظون له ولأسرتنا قدرًا من الإجلال والتوقير. وفي تلك الأيام، انغمستُ في معارك أدبية حامية الوطيس، كانت تملأ الصحف والمجلات بردود ومقالات حادة، بل كان السباب يتطاير بين السطور كما تطاير الشرر في الليالي الحالكة. 

وكان هذا يحزن والدي حزنًا شديدًا، ويثقل قلبه بغمّ لا يزول." لذلك، وحرصًا على مشاعر والده، وتجنبًا لما كان يلحق بسمعته من أذى تلك المعارك الأدبية، اختار النشاشيبي أن يكتب تحت ذلك التوقيع المجهول، ليظل بعيدًا عن الأضواء، ويبقى اسمه بعيدًا عن أعين القوم. واستمر في ذلك، حتى بعد وفاة والده، لا نسيانًا، بل وفاءً لذكراه، وتكريمًا لمقامه، واستجلابًا لبركته! 

فهكذا كان حال الأستاذ النشاشيبي، رجلٌ أراد أن يبرّ والده حيًا وميتًا، فلم يكن اسمه ولا شهرته بأغلى عليه من رضاه، ولا بريق المجد بأعلى شأنًا في نفسه من ذكرى والده وتراثه.
--------------------------------
بقلم: د. علي زين العابدين الحسيني

مقالات اخرى للكاتب

مقالات حمد الله الصفتي