عرفت اللواء البطل محمد الفاتح كريم قبل أن ألتقيه وهو من قرية مجاورة لقريتي بمركز أبو قرقاص بالمنيا هي قرية "الشيخ تمي"، التي تبعد عن قريتنا مسافة حوالي عشرة كيلو مترات، يحكى عنه وكأنه الظاهر بيبرس، والهلالي سلامة، والزير سالم، وغيرها من الحكايات الشعبية.. ثم قرأت عنه في الكتب التي أرخت لحرب أكتوبر، ثم التحقت بالخدمة بالقوات المسلحة ضابطاً احتياطياً لمدة خمس سنوات، وهناك سمعت الكثير عنه وعن بطولاته الخارقة في حرب أكتوبر، وتوثقت صلتي بابنه الرائد وقتها كريم الفاتح كريم (دفعة79 حربية) الذي كان يدرس لنا مادة التكتيك في معهد المشاة. في الفترة من أول يناير حتى نهاية إبريل عام 2000، ومن تواضعه الجم ما حكاه لي أحد الضباط حينما دعاه أفراد كتيبته التي تولى قيادتها بعد نكسة يونيو سنة 1967، وقد دعاه القادة والضباط للجلوس على المنصة فصمم ألا يجلس إلا على الأرض والرمل بين الجنود، ووجه الحديث لقائد الكتيبة بأن هذا المنصب (قيادة الكتيبة) من أحسن المناصب التي تولاها في حياته العسكرية، ثم التقيته بعد ذلك في بيته بجسر السويس بمدينة القاهرة وأحسن استقبالي وجلست معه من العاشرة صباحا وحتى الخامسة عصرا وحكى لي الكثير عن أسرته وأصولها العربية وقد جاءت مع جيش عمرو بن العاص وشاركت في فتح مصر، وقد حافظت على أمجادها طوال هذه القرون، تحدث عنهم عليّ مبارك (باشا) في كتابه "الخطط التوفيقية" عندما تحدث عن قرية "الشيخ تمي" قائلاً: "وفيها بيت أبى عمر(أجداد الفاتح) مشهور يشمل على قصور ومضايف تشبه قصور مصر(القاهرة)، وكان محمد أغا أبو عمر ناظر قسم "ساقية موسى" زمن العزيز محمد على باشا، وفي زمن الخديوي إسماعيل ترقى ابنه يوسف فكان ناظر قلم الدعاوى بمديرية أسيوط، وهم مشهورون بالشجاعة وعندهم الخيل الجياد". وظلت الاتصالات بيني وبينه لا تنتهي حتى رحيله في مارس 2013. كما تعرفت على أخيه الأصغر الكاتب الصحفي بالأهرام سامح كريم، وزرته مرات عديدة في منزله وحدثني كثيراً عن أخيه.. وقد أبلغني اللواء الفاتح أن لديه مذكرات كان ينوي نشرها ولست أدري أين آلت الآن..
ولد محمد الفاتح كريم عام 1931 بقرية الشيخ تمي، التابعة لمركز أبو قرقاص بمحافظة المنيا، وهذه القرية عريقة في القدم، تقع بجوار أرض الحضارات، ففي شمالها منطقة آثار بني حسن الشروق، وفي جنوبها تقع قرية أنصنا (الشيخ عبادة) الآن، وهي القرية التي أنجبت السيدة مارية القبطية زوج الرسول عليه الصلاة والسلام.
تعلم الفاتح في مدرسة أبو قرقاص الابتدائية، وكان الأول على أقرانه، وظهر نبوغه وذكاؤه المبكر الذي كان مثار إعجاب مدرسيه، وقد انتقل هذا التفوق معه حينما التحق بمدرسة المنيا الثانوية، وكانت الوحيدة بمديرية المنيا، وأنجبت العديد من الأعلام النوابغ، منهم: زميله الفريق صفيّ الدين أبوشناف، رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق.
وكان لهذه الأسرة دورها النضالي، إذ اشترك رجال كثير منها في جميع مراحل النضال والكفاح في تاريخ مصر، ظهر ذلك جلياً في الثورة العرابية، وأحداث ثورة 1919، وغيرها، وحديث والده له عن البطولة والأبطال، كل ذلك ألهب شعوره، وزاد من حماسه، وتمنى أن يخدم وطنه وأهله، وخصوصاً في فترة صعبة من تاريخ العرب، إذ وقعت نكبة فلسطين المروعة 1948، فقرر الالتحاق بالكلية الحربية، وكان أثناء الدراسة بها أن أشتد الكفاح ضد الإنجليز في منطقة القنال.. وكذلك نشط التذمر داخل الجيش الذي كان الملك فاروق يتفاخر بأنه ذراعه القوى وسنده في مواجهة الأخطار، كل ذلك لم يغب عن الطالب محمد الفاتح بل تأثر به أيما تأثير.
وبزغ فجر يوم 23 يوليو 1952، والاستعداد على قدم وساق لحفلة التخرج، حيث كان من المرتب لها حضور الملك الذي أطاحبه الثوار، وحضر حفل التخرج اللواء أركان الحرب محمد نجيب رئيس مجلس قيادة الثورة والقائد العام للقوات المسلحة، ولفيف كبير من الضباط الأحرار، وكان الجو يسوده الدفء والقائد الذي قاد الثورة ضد الفساد يحثّهم على مواصلة الكفاح لرفعة هذا الوطن، ومن دفعته نذكر: اللواء محمود المصري، واللواء حمدي الحديدي، واللواء فاروق الزهيري، واللواء عادل سليمان يسري، واللواء إسماعيل عزمي، واللواء قدري عثمان بدر، واللواء فاروق الصياد، وصفوت الشريف وزير الإعلام الأسبق وغيرهم..
انضم الفاتح كريم إلى سلاح المشاة "سادة المعارك"، وشارك في عمليات 1956 أثناء العدوان الثلاثي وكان قائداً لحامية غزة تولى هذا المنصب عقب مقتل قائدها النقيب محمود صادق (الأخ الأصغر للفريق أول محمد صادق وزير الحربية الأسبق)، وقتل معه عدد كبير من أبطال الحامية، وبعد انتهاء الحرب خدم في سلاح الحدود مأموراً لقسم مرسى مطروح، ثم مأموراً لقسم رأس غارب، والجدير بالذكر أن محافظات: (البحر الأحمر ومرسى مطروح وأسوان) كانت تتبع قوات حرس الحدود، ثم عاد لسلاح المشاة، وخدم في حرب اليمن، رئيسا لعمليات إحدى كتائب المشاة واستمر هناك عامين.
وتأتى حرب يونيه 1967حيث كان قائداً ثان لإحدى كتائب المشاة، وفي هذه الحرب التي لم تعط الفرصة للجندي لكي يقاتل، بل أُخذ على حين غرة بجهل القادة في التوقيت الحرج بظروف الحرب، وكان وقوع الكارثة، ولكن المقاتل المصري لم يستسلم، إذ بدأ في إعادة البناء والاستعداد ليوم الثأر، وفي هذا التوقيت يتولى الفاتح قيادة كتيبة مشاة وأخذ يدرب أبناءه ليل نهار بنفس راضية، وروح معنوية عالية، يشارك في مراحل التدريب، ويجلس معهم يعرف ظروف كل مقاتل ونجح في ذلك نجاحاً باهراً، أغرى قادته بترشيحه معلماً بالكلية الحربية يعلم فيها الكوادر الجديدة الاستعداد ليوم الكرامة، والتحرير، واستمر في عمله هذا حتى عاد للجبهة قائداً للواء الثاني مشاة ميكانيكي، الذي كان يتبع الفرقة 19 مشاة ، وكان يقودها العميد أركان حرب يوسف عفيفي (الفريق فيما بعد)، ورقى الفاتح إلى رتبة العميد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ثم تولى منصب رئيس أركان الفرقة الثالثة مشاة ميكانيكي فقائدا لها، فرئيسا لأركان المنطقة الجنوبية، فقائداً لها، حتى تقاعد 1985، وبعد أن خرج من الجيش قام بترشيح نفسه لعضوية مجلس الشعب سنة 1987 حتى تم حل المجلس 1989، وبعدها اعتزل الحياة العامة ..
دوره في حرب أكتوبر:
كان الفاتح كريم قائداً للواء الثاني مشاة ميكانيكي في حرب أكتوبر 1973، وكان هذا اللواء يتبع الفرقة 19مشاه - كما سبق أن أوضحنا، وكانت مهمة هذه الفرقة اقتحام القناة في القطاع الجنوبي وحصار وتدمير وتصفية النقاط القوية بلسان بور توفيق، والجباسات، وعند علامات كلم 149، و148، و146، والاستيلاء على الساتر الترابي المطل على القناة المكون من 91 مصطبة مجهزة بالإضافة إلى 22 مصطبة بالعمق شرق الجباسات وحول ممر متلا .. وكانت مهمة اللواء الثاني هي تحرير جبل المر، الذي يبعد عن القناة بحوالي 15كم في اتجاه الشرق ويبلغ طوله 6 كم وارتفاعه حوالي 117م، وتحيط به غرود رملية يصعب سير المركبات بها، وهو يمثل هيئة حاكمة استغله العدو بعد حرب يونيو، وأقام فوقه نقطة ملاحظة ومرابض لنيران مدفعيته بعيدة المدى للسيطرة على المنطقة الممتدة شرق وغرب القناة. وكان لابد من الاستيلاء على هذا الجبل، وعندما بدأت قوات الفرقة 19 فى تطوير الهجوم يوم 9 أكتوبر، قام اللواء الثاني بالتقدم واقتحام مصاطب العدو، وبدأ طيران العدو يتدخل لوقف الهجوم بعد أن توغل المهاجمون مسافة 9 كم، وتشتبك عناصر الدفاع الجوى مع طيران العدو وتنجح في إسقاط طائرة "سكاى هووك" وأسر الطيار حياً ويواصل الرجال تقدمهم ويجتازون الغرود الرملية.
وينجح المهاجمون في احتلال أجناب الجبل، بعد أن تعامل أطقم قنص الدبابات مع دبابات العدو التي دخلت المعركة بضراوة، وقد قام العقيد الفاتح بقيادة سرية مشاه التي من المفترض أن يقودها نقيب أو رائد يعاونه العقيد أركان حرب على الغليظ، وتمكن بها من اعتلاء الجبل واحتلاله نهائيا، وقد عرف القاصي والداني بقصة هذا النصر العظيم، وقد كرمه الرئيس السادات بمنحه وسام نجمة الشرف العسكرية من الطبقة الأولى لم تمنح لغيره سوى قائد الجيش الثالث اللواء أركان حرب عبد المنعم واصل، والعميد أركان حرب أحمد بدوى قائد الفرقة السابعة، والعميد أركان حرب يوسف عفيفي، والعقيد على الغليظ قائد كتيبة باللواء الثاني، وهو أرفع وسام عسكري وتم إطلاق اسمه على جبل المر، وكذلك إطلاق اسمه على أحد الشوارع الكبيرة بمصر الجديدة بالقاهرة.
وقد رحل اللواء الفاتح يوم الجمعة 29/3/2013، وشيع فى جنازة مهيبة حضرها كبار قادة القوات المسلحة من أبنائه المخلصين.
-----------------------
بقلم: أبو الحسن الجمال
* كاتب ومؤرخ مصري