05 - 05 - 2025

من نكبةِ فَلسطِين إلى نَصرِ أُكتوبر العَظِيم (بين إبداعِ النُّقَّادِ ونقدِ المبدعينِ: القاعود وعتيبة نموذجًا)

من نكبةِ فَلسطِين إلى نَصرِ أُكتوبر  العَظِيم (بين إبداعِ النُّقَّادِ ونقدِ المبدعينِ: القاعود وعتيبة نموذجًا)

الأدبُ بين الإبداعِ الإنشائيّ والوصفِ النّقديّ:

من تعريفاتِ الأدبِ القديمةِ أنَّهُ فنٌّ وصفيٌّ إنشائيٌّ؛ فهو  بذلك قسمانِ؛ الأوَّلُ إنشائيٌّ إبداعيٌّ، والثَّاني وَصفيٌّ نقدِيٌّ، والأدبُ والنّقد صِنوانِ لا ينفصمانِ؛ لذا قيلَ: إنَّ الأديبَ هو النَّاقدُ الأوَّلُ لأدَبهِ؛ ففي عَمليَّاتِ التّنقيحِ الأُولى التي يقومُ بها  ممارسةٌ نقديَّةٌ بامتيازٍ؛ لذا كانت أحكامُ الأدباءِ في نصوصِ زملائهم المبدعينَ مُقدَّرةً كلّ التّقديرِ ، ما لم تنلْ من هذه المصداقيَّةِ، والعدالةِ النّقديَّة حزازاتُ المعاصَرةِ، والتّنافُسِ؛ كالذي عرفناهُ في رفضِ الشّاعرة الجاهليَّةِ الأشهرِ الخنساء رأيَ زميلِها النَّابغة في شِعرِها، كما رفضَهُ حسَّان بن ثابت، أيضًا، حينَ فضَّل النّابغةُ عليهما الأعشى أبا بصيرٍ ؛ فقد روى ابن قتيبةَ (ت276هـ) في الشّعر والشّعراء:" كانَ النَّابغَةُ تُضرَبُ له قبَّةٌ حمراءُ من أدمٍ بسوقِ عُكاظٍ، وتأتيهِ الشُّعراءُ؛ فتعرضُ عليه أَشْعارَها، فأنشدَهُ الأعْشَى أبو بَصيرٍ، ثمَّ أنشدَهُ حسَّانُ بنُ ثابتٍ، ثمَّ الشُّعَراءُ، ثمَّ جاءتِ الخَنْسَاءُ السُّلَمِيَّةُ؛ فَأنْشدَتْهُ؛ فَقَالَ لَها النَّابغَةُ: واللهِ، لَولَا أنَّ أبا بَصيرٍ أنشَدَنِي آنِفًا لَقُلْتُ إنَّكِ أَشْعرُ الجنِّ والإنسِ، فقالَ حسَّانُ: واللهِ لأَنا أشْعرُ منكَ، ومنْ أبيكَ، ومِنْ جدِّكَ! فقبضَ النَّابغةُ على يدهِ، ثمَّ قالَ: يابنَ أخِي، إنَّك لا تُحسنُ أنْ تقولَ مثل قولى:

فَإِنَّكَ كَاللَيلِ الَّذي هُوَ مُدرِكِي       وَإِنْ خِلْتُ أَنَّ الـمُنتَأَى عَنكَ وَاسِعُ

ثمَّ قالَ للخَنسَاءِ: أَنشديهِ، فأنشَدَتهُ، فقَالَ: واللهِ ما رأيْتُ ذاتَ مثانةٍ أَشْعَرَ منكِ! فقالَتْ لهُ الخَنساءُ: واللهِ، ولا ذا خَصيينِ!" والرّوايةُ تكشفُ هذه الحزازاتِ، وتنمو هذه النّزعة النّقديَّةَ معَ التّطوّر الثّقافيّ والحضاريّ؛ حتَّى نجدَ أبا تمّام ناقدًا مبرّزًا، بل يعدُّ  من نقَّاد  الشّعرِ العربيّ الأوئل معَ ابن سلَّام، بما أسَّسهُ من مفاهيم؛ كمفهوم الأغراض والموضوعاتِ؛ كما فعل في حماستيهِ، وسار على نهجه تلميذُهُ ومنافِسُهُ البحتريُّ، ثمَّ وجدنا الأمرَ لدى ابن الرّوميّ يعظمُ، وكذا  لدى ابن وكيع التّنيسِيّ، ويصل إلى درجة الاحترافيَّةِ المنهجيَّة لدى المعرّي، كما نجدُ على الصَّعيدِ الآخر تحوُّل بعض النُّقَّادِ إلى الشِّعر؛ فابن طباطبا له ديوان من الشِّعرِ، وكذا ابن رشيقٍ، وابن سناء الملكِ، حتّى نصل إلى شعراء الدّيوان: العقّاد وشكري والمازني؛ فنازك الملائكة؛ وصولًا إلى يوسف خليف، وعزّ الدّين إسماعيل، ومحمد بنيس...إلخ.

والظّاهرةُ عالميَّةٌ وقديمةٌ، لم يخلُ منها عصرٌ ومصرٌ منذ اليونانِ القُدماء مرورًا بإليوت، ولم تقتصرْ على الشِّعر، بل عمّتْ صنوفَ الإبداعِ وأَجناسَهُ وأنواعَهُ؛ وكما وجدْنا الظّاهرة لدَى النقَّاد الأوربييّنَ؛ كميشيل فوكو النّاقد السَّارد وجدناها لدى العربِ؛ بداية من طه حسين إلى واسيني الأعرج، وشكري المبخوت، وشُعيب حُليفيّ، ورضوى عاشور، وهالة البدري، وهويدا صالح وغيرهم.

ويمكننا أنْ نمثّل لهذه الظّاهرة بكاتبين أحدهما أستاذٌ أكاديميٌّ كتبَ عشراتِ الكتبِ النّقديَّةِ في نقدِ الشّعر والسَّردِ والثّقافةِ، كما كتبَ الرّوايةَ؛ أعني الأستاذ الدكتور حلمي القاعود الذي كتبَ الآن أربعَ عشرةَ روايةً؛ منها: مَحْضَر غشّ، وشغفها حُبًّا،  والشَّمس الحارقة، و اللِّحيَة التَّايوانيّ، وأم سعيد وشَجرة الجِميز، ومنَامات الشَّيخُوخَة، والرَّجل الأَنانيّ، وشَكْوى مجهُولة، فضلًا عن مجموعتينِ قَصصيتينِ، وكتابة سيرتهِ الذَّاتية...إلخ

حلمي القاعود وحرب أكتوبر1973م: منَ السَّاردِ المشاركِ إلى السَّردِ البوليفينيّ:

وتعدُّ روايته:"الحب يأتي مصادفة" التي نشر طبعتها الأولى في دار الهلال المصريَّة 1976م هي روايته الأولى، وتحكي الرّواية تجربة الكاتب فيما يمكن وصفه بالرّواية السّيريّة تجربته في القوات المسلّحة المصريّة، وما واجهه الجنود المصريّون البواسل؛ الذين هم فلذات أكباد بسطاءِ المصريين؛ كالشّاب حامد الشيميّ، الرّيفيّ البسيط الذي يحمل صفاء القرية وأخلاقها، وطموحها الوثّاب، مع الصّدق والشّرف، وأشرف الصَّعيديّ القادم من ثقافة المدينةِ باختلافاتها وتصميمها على التّطوّر المستمرّ، والقدرة على التّغيير، وعبدالراضي الشّاب الآتي من قلب الصعيدِ، ولم تخلُ الشّخصيّات النّسائيّة من هذا النُّبل الإنسانيّ الذي صنع نصر أكتوبر؛ كالخالة حياة مرعي، الأديبة  المشهورة،  وأخرياتٍ وآخرين، قدَّم القاعود من خلالهم نبض مصر، وعبَّر عن أشواقِها وأَمانيهَا، وحاولَ أن يستشرف مستقبلًا مزهرًا لكلّ أطياف المجتمع الذي صنع النّصر المبين.

وصولًا إلى آخرِ رواياتهِ :"رواية المجنون الجميل" التي صدرت حديثًا عن دار روايةٍ، بالرياضِ، بالمملكة العربيَّة السّعوديَّة هذا العام (1446هـ= 2024م)، في مائتي وعشر صفحات من القطع المتوسط؛ ليواصل الأستاذ الدكتور حلمي محمد القاعود مشروعه السّرديّ، وإنتاجه الإبداعِيّ القصصيّ والروائيّ، فيقدمُ لنَا رؤية مختلفةً لحالة من حالات الجنون التي شغلت السّرديَّة العالميَّة، بل الإبداع عامَّة حتَّى ارتبط الأدب بالجنون؛ فوجدنا دريدان يقرن الأدب بالجنون؛ فيقول:" المواهب العظيمة قرينة الجنون"، بل عدَّ لومبروزو العبقريَّة ترجمةً للعقل المريض، وعده كريتشمر عنصرًا مرضيًّا مصاحبًا للمستويات الخارقة من الموهبة الإبداعيَّة، وفي الثَّقافة الإسلاميَّة ارتبط الشّعر بالجنّ وعبقريَّة الشّعر المصحوبة بالصّدق في الحبّ بالجنون؛ فوجدنا الشّعراء المجانين، بل كانت العبقريَّة مقرونة بالجنون عند العرب؛ لذا وصفو نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم بالجنونِ، وقد ورثُوا هذه الملازمةَ من الأممِ قبلَهم "كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون" (الذاريات:52) وظلّت هذه الملازمة بين الجنون والعبقريّة في الفنون حتّى وصلنا إلى  ديستوڤيسكي الذي أبدع في تصوير حالات الجنون المختلفة حتّى قيل: إِنَّ الذي أفاده فرويد ومدرسةُ التّحليل النّفسيّ من روايات ديستوڤيسكي أعظم من الذي أفادُوهُ من كتُبِ الطِّبِّ النَّفسيِّ.

وفي روايتِهِ الجديدةِ "المجنون الجميل" يعمدُ القاعود إلى تقنيةِ تعدُّد الأصواتِ؛ أي تعدُّد الأصْواتِ السّرديَّة لتتعدَّد وجهات النّظر؛ وهو ما يعرف بالرّواية البوليفونيَّة؛ بحسب المصطلح الرّوسيّ لدى ميخائيل باختين، وهي تقنية تمنح الحريَّة لشخصيَّاتها في التّعبير عن آرائها دون استبداد الرّاوي الضّمنيّ؛ مما يفتحُ الباب واسِعًا لمزيدٍ من الرّؤى، ويفتح آفاق التَّأويل، ويترك فرصة للمتلقّي أن يشتبك معَ الشَّخصيَّاتِ؛ حتَّىيؤسِّس رأيًا توليفيًّا، أو يتّفق مع أحدها، ويتعاطف معها، ويخالف غيرها، بل قد يعاديها...!

ترصد رواية "المجنون الجميل"، التَّحوُّلاتِ التي استحدثت في المجتمعِ المصريّ بعد حرب أكتوبر المجيدة 1973م، وانتقاله من مرحلة النّكسة والانكسار إثر محنة يونيو/ حزيران الحزين 1967م،  وقدرة العسكريَّة المصريَّة المشهودة بالتّلاحم مع قوى الشّعب المصريّ  بصُمودهِ العظيم حتّى يتحقّقَ العبورُ العظيم، و ما تلاه من  تغيُّراتٍ اقتصاديَّةٍ؛ فيما سُمّي بالاقتصاد الموجَّهِ، أو عصرِ الانفتاحِ، الذي وصفه الصّحفيّ الكبير احمد بهاء الدّين انفتاح السّداح مداح؛ كنايةً عن عشوائيّتهِ، وما أدّى إليه من تغيراتٍ حادّة في سلّم القيمِ، ودخولنا إلى منطقة السيولةِ، وبدء ذوبان النواة الصُّلبةِ التي حفظتْ تماسُك المجتمعِ المصريّ. 

تواجه فوزية عرفان ابنةُ عرفان الحمَّار الموظفةُ بمجلسِ القريَةِ تجربةً عصيبةً، كادت تعصفُ بها، لولا تدخُّل والدِها تاجرِ الخُردة الذي اغتَنى في زمنِ الانفتاحِ؛ فأَضحَى ذا حيثيَّةٍ، مكَّنتهُ أن يحلّ مشكلةَ ابنتهِ بالمالِ، ولكنَّهُ يواجِهُ عدم الاعتراف الاجتماعيّ من عائلةِ حلاوة، التي تمثل الطَّبقة الأَعلى في المجتمعِ؛ حيثُ تملك السُّلطةَ والأرضَ الزّراعيَّة الكبيرةَ، ومع أنَّ عرفان يفوقُها ثروةً ومالًا فإنَّهُ مازالَ، في نظرها ومنظور أهل القريةِ، عرفانَ الحمَّار؛ صاحب عربةِ الخُرْدة التي يجرُّها الحمارُ الهزيلُ.. مع أنَّهُ، في حقيقةِ الأمرِ، غدَا مُنتميًا إلى طبقةٍ جديدةٍ، تتحَكَّم في البضائعِ المهمَّة والأسواقِ الكُبرى،  كما تمتلكُ الملايينَ من الجنيهاتِ، ولها قانونها الذي يحكمُ أفرادَها، ويفرضُ عليهم سلوكًا صارمًا، لا يجوزُ لأحدها الخروجُ عليهِ، وإلا تمَّت معاقبتهُ بطريقةٍ ما.

وتبدو عائلة حلاوة حارسةً لقيمِ النَّواةِ الصُّلبةِ، ومنها أفرادٌ لهم مواقفُ مهمَّةٌ، وأبرزهم سَعْدٌ المثقَّفُ العاقلُ الذكيُّ، الذي يضحّي بمتعِ الشَّبابِ من أجل قيادةِ أسرتهِ بعد وفاةِ أبيهِ وتربيةِ إِخوتهِ وتعليمِهم.

ومن خلال سَعْدٍ نعيشُ حياةَ المثقَّفينَ في القريةِ والمدينةِ، ونشهدُ مفارقاتِ الكتّابِ بين مقولاتهِم وسلوكيَّاتهم وكيفيَّةِ صناعةِ الكاتبِ النَّجم وحركةِ الحياةِ الثَّقافيَّة...!

تأتي أهميَّة الرّواية من تصويرِ المجتمعِ في لغةٍ أدبيَّةٍ سهلةٍ، تعيدُ للفُصحى بهاءَها في الصِّياغةِ الفنيَّةِ والأدبيَّةِ، من خلالِ تراكيبَ مطواعةٍ، وأبنيةٍ تحتفِي بالجمالِ والجلالِ والتَّصويرِ الحيّ، ولعلَّ هذا ما يمكنُ أن نميّز به انعكاس النّقد الأكاديميّ على الكاتبِ مع اقتداره على استخدام التقنيات السّرديّة البوليفونيّة  بجاذبيّة وإدهاشٍ وإمتاعٍ. 

منير عتيبة ناقد من عالم السَّرد والدّراما:

المبدع الثّاني هو الأديب الرّوائي والقاص والمسرحي وكاتب أدب الأطفال منير عتيبة الذي حاول أن يعكس خلاصة تجاربه السّرديَّة وقراءاته الإبداعيَّة في نصوص نقديَّة مقروءة ومرئيَّة؛ ففضلًا عن مجالسه العتيبية، وبرنامجه النّقدي حول السّرد الرّوائيّ "الريجيم الرّوائيّ" الي يكشف عن قراءة واسعة في النّقد بأنواعه المختلفة؛ الأكاديميَّة، والصّحفيّة الانطباعيَّة، والتّوقيَّة الإبداعيَّة، وممَّا كتبهُ في هذا المضمارِ كتابهُ الذي صدر عن الهيئة العامة لقصور الثّقافة عام 2015م" في السّرد التّطبيقيّ: قراءات عربيَّة وعالميَّة"؛ وجمع فيه رؤاهُ النَّقديَّة َالمختلفةَ المداخلِ والاتّجاهاتِ نيفًا وثلاثين دراسة  في السّرد الرّوائيّ والقصصيّ تعبَّر عن نظرتهِ الخاصَّةِ لما قرأهُ من السُّرود في العالمِ العربيّ والإفريقيّ، وعلى الصّعيد العالميّ الذي تجاوز فيه المألوفَ والمعروفَ.

وما يهمّنا هنا دراسته الفريدة: "المخدوعون في الرواية والفيلم والواقع" وهي دراسةٌ تتناولُ مقارنةً صعبةً، حقيقةً، بين رواية المناضلِ الفلسطينيّ غسَّان كنفانيّ "رجال في الشّمس" التي يسردُ فيها نكبةَ فلسطين سنة 1948م، وما نجمَ عنها من نكباتٍ وندوبٍ، وجراحٍ لم تندمل في الجسد العربيّ كلِّهِ، من خِلَالِ أربعِ شَخصيَّاتٍ، تمثّل أربعة نماذجَ من  أجيالٍ مختلفةٍ؛ هم : "أبو القيس" هذا الشَّيخ الفلسطينيّ الذي يعاني الشَّتات في المخيَّمات بعدما فقد بيته الفلسطيني وأشجار الزيتون التي غرسها بيديه في انتظار تحقيقِ حُلمِ العودةِ، وهو في الوقتِ نفسهِ ينظرُ مُتَحسِّرًا لإخوانهِ الفلسطينيّينَ الذين سافرُوا إلى بلاد النّفطِ في الكويتِ، وعادُوا بالأموالِ التي تضمنُ لهم حياةً كريمةً ريثما يتحقق الحُلم الأعظَمُ، ولكنَّهُ شديدُ الارتباطِ بوطنهِ، لا يمكنهُ مغادرتُهُ إلى أيّ بلدٍ آخر مهما كان الإغراءُ، وكيف يسافرُ ويتركُ زوجَهُ الحاملَ، وولدَه الصَّغير؟!

ومع كلّ ذلك؛ حينما تحين الفرصةُ يسافر إلى العراقِ آملًا أن ينتقلَ منها إلى الكويت ليعودَ بالمال فيبني البيتَ وييستردَّ أشجارَ الزَّيتون...!

والشّخصيَّة الثَّانية هي الشّابُّ المناضلُ" أسعد" المطاردُ من السُّلطاتِ، بسببِ نشاطهِ السّياسيّ، فيهتبلُ فُرصةَ عرضِ صديقٍ لوالدهِ لتهريبِهِ إلى العراقِ في مقابل عشرين دينارًا؛ فينجحُ في العبور إلى الكويتِ، وتكوين مبلغ ماليّ يردّ به دينَهُ لعمِّهِ، ويتزوّجُ ابنتهُ، والثّالث هو "مروان" طالب المرحلة الثّانويّة، الذي يغدرُ به أخُوه المسافرُ إلى الكويتِ بتوقُّفهِ عن الإنفاقِ عليهِ، وعلى مدرستهِ، ووالدهِ الذي يضطرُّ إلى الزّواج من فتاة مبتورةِ السَّاقِ إثر قذيفةٍ يهوديَّةٍ؛ لأنَّها تمتلكُ بيتًا من ثلاثِ غرفٍ، يمكّنه من تأجير غرفتين، والعيش مع الفتاةِ في الثَّالثة..!

والشّخصيّة الرّابعة هي شخصيَّةُ المهرّب العنّين "أبو الخيزران" السَّائق الذي وعدَهم بتهريبهم إلى الكويت في خزَّان مياهِ سيارتهِ المتهالكةِ التي يسافرُ بها إلى الكويت، وينشغلُ عنهم في نقطة تفتيش؛ حين يستغرقُ في سماع حكاية من حكايات فحولة الحاج رضا مع الرَّاقصة "كوكب" العراقيَّة التي تعشقُهُ، ويمارس معها فحولته...!

 وبين هذا العنين، والفحل المدّعِي يموت الثّلاثة في الخزَّان اختناقًا..!

ولم يبقَ أمام العنّين أمرٌ سوى اختيار مكانِ دفنهم، إمَّا في الصّحراء نهبا للضَّواري، أو في المزابلِ الحدوديَّة..!

ومع أنَّه اختار المزابلَ؛ فإنَّه يعودُ لهؤلاء الضَّحايا المخدوعينَ بعد قذفهم عليها، ليجرّدهم من أشيائهم التي يلبسونها، وساعاتهم، ويأخذ ما لديهم من أموال ليصل بدناءته إلى ردغة خبال الانحطاط الإنسانيّ..!

ومن المعلوم أنَّ المخرج المصريَّ توفيق صالح أخرجَ هذه الرِّوايةَ في فيلمٍ سينمائيٍّ بعنوان "المخدوعون".

وقد نجح منير عتيبة أن يقارن بين تقنيات الفيلم السّينمائيّ وأدوات السّينمائيّ في إخراج الرّواية بحيث يضمن للنّصّ تأثيره وفحواه ورسالته، مقارنة بأدوات السّارد الذي كان واعيًا بهذه التّقنيات السّينمائيَّة وأفاد منها في كتابة روايته، ورسم صوره السّرديَّة ببراعة؛ يسَّرت على توفيق صالح إخراجها والحفاظ على شحناتها الأيديولوچيَّة والإنسانيَّة بأمانةٍ  وحرفيَّة في مزيجٍ فريدٍ بين جماليّاتِ السَّردِ الرّوائيّ والسَّرد السِّينمائيِّ.

واللافتُ أنَّ الفيلمَ عُرضَ في مهرجان قرطاج للأفلام العربية والإفريقيَّة سنة 1973م ، وحصلَ على الجائزةِ الذّهبيَّة، وصُنِّف بوصفهِ واحدًا من أهمِّ مائة فيلمٍ سياسيّ في تاريخ السِّينما العالميَّة...!

وأرى أنَّ الذي مكَّن منير عتيبة من هذه القراءةِ النّقديَّة الواعيَّة أنَّهُ كاتبُ دراما وسيناريو؛ فقد كتب للإذاعة وللتلفزيون أعمالا دراميَّة متنوّعةً، منحتهُ قدراتٍ خاصَّةً، قد لا تتيسَّرُ للنّاقدِ الأكاديميِّ؛ فينتج هذه القراءةَ النَّقديَّةَ المائزةَ...!

وفي النّهايةِ؛ ستظلُّ فلسطين هي قضيَّةَ العربِ الكُبرى، ونصرُ أكتوبر العظيم هو أعظمَ إنجازٍ مصريٍّ وعربيّ في العصرِ الحديثِ، وإن كنّا لم نستطع أن نصنع مجدًا حضاريًّا يوازيه أو يضاهيه بتعبير الرّوائيّ محمود عرفات؛ وهو  أحد أبرز الرّوائيّين في أدب الحرب..!

 المجد للشُّهداءِ، والنَّصر لنَا، والتَّحيَّة للمبدعينِ: حلمي القاعود ومنير عتيبة..!
---------------------
بقلم: د. محمد سيد علي عبدالعال (محمد عمر) 
* أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الآداب للدّراسات العليا بآداب العريش.