04 - 05 - 2025

خالد أبو الليل يرصد تشابه الحكايات الشعبيَّة في العالم رغم التَّباعُد الجغرافي واللغوي

خالد أبو الليل يرصد تشابه الحكايات الشعبيَّة في العالم رغم التَّباعُد الجغرافي واللغوي

ينطلق الدكتور خالد أبو الليل أستاذ الأدب الشعبي بكلية الآداب جامعة القاهرة في كتابه «الحوار بين الشرق والغرب في ضوء الثقافة الشعبية: نحو منهجية جديدة للتواصل الإنساني» الصادر عن «معهد الشارقة للتراث» من فرضيَّة ترى أن الأدب الشعبي خاصة فيما يتعلق بـ«الحدوتة» وسيلة من وسائل التقارب بين الشعوب بسبب تشابه هذه الحكايات في طقوس حكيها ومضمونها وأحداثها في مناطق مختلفة من العالم رغم التباعد الجغرافي والتباين اللغوي بين دول العالم. جاعلًا من الحكاية الشعبية طريقًا لإصلاح ما تفسده السياسة بين الشعوب، وسبيلًا للتحاور بين الثقافات والتأكيد على وحدة الأصل الإنساني ورفع شعار تكامل الحضارات لا الصراع والصدام بينها.

الملاحم والسير

ويفسر خالد أبو الليل سبب جعل الحدوتة وسيلة للتحاور والتفاهم بين شعوب العالم دون بقية أشكال المأثور الشعبي؛ لأنه من خلال استقراء السير الشعبية والأساطير والملاحم يُلاحظُ أنها فنون تحتفي بالحرب والفروسية باستثناء الحدوتة، لا توجد فيها حروب بالمعنى الفني لكلمة حرب ولا مواجهات ومبارزات بين الأبطال،  ولا تستخدم فيها أدوات الحرب التقليدية، وإنما في بعض المواجهات القليلة نجد استخدامًا لبعض الأدوات السحرية مثل الدبوس السحري أو الخاتم السحري، فالحواديت فن يخلو من سيل الدماء والبعد الثأري على عكس الفنون الشعبية الأخرى. 

ويرى أبو الليل أنه رغم التشابه بين الملاحم والسير في البناء والمضمون فإنه لا يمكن الاعتماد عليها في المنهجية المقترحة داخل الكتاب الباحثة عن سبل التحاور بين الشرق والغرب، فالتشابه بين الملاحم والسير هو تشابه في قيم وموضوعات مثل الحرب والقتال والثأر ولا ينبغي أن تسود هذه العلاقة بين الأمم، وإنما قيم المحبة والسلام التي تكرس لها الحكايات الشعبية عكس الملاحم والسير.

فرط الرمان

ويقدِّم خالد أبو الليل في كتابه مجموعة من الحكايات الشعبية التي تتشابه إلى حد التطابق بين الدول العربية والدول الإسكندنافية، ومن ذلك حكاية «نصوع الثلج» الألمانية التي تتشابه إلى حد كبير مع الحدوتة المصرية «فرط الرمان والمراية» ويحكي مضمون القصتين عن ملكة تنجب بنتًا جميلة ثم تموت فيتزوج الأب من امرأة أخرى جميلة، تسأل المرآة من أجمل سيدة في العالم ففي الحكاية الألمانية تقول «مرآتي يا مرآتي في الدنيا وكل الملكات من هي أجمل الفتيات؟» وتجيبها المرآة «الملكة في كل القسمات» وفي الحكاية المصرية صيغة مشابهة تقول «يا مرايتي يا مرايتي يا هنداوية الأجمل أنا ولا الستات» فترد المرآة «إنت أجمل واحدة» لكن ما إن تكبر الفتاة الألمانية والفتاة المصرية تخبر المرآة صاحبة السؤال، أن نصوع الثلج أجمل آلاف المرات، وفي الحكاية المصرية «إنتِ جميلة جميلة، بس فرط الرمان أجمل منك».

تقرر زوجة الأب في الحكايتين قتل البنت التي فاقتها في الجمال، في الرواية الألمانية تطلب من الصياد أن يقتل نصوع الثلج/ بياض الثلج في الغابة ويأتي لها بالرئتين والكبد، وفي الحكاية المصرية أن يُلقي بالفتاة في الصحراء ويملأ زجاجة من دمائها، فيشفق الصياد في الحكايتين على الفتاة وجمالها فلا تُقْتَل، ويُرْسَلُ إلى زوجة الأب دماء غزالة وأيضًا الرئتين والكبد لإيهام السيدتين بأن عملية القتل قد نُفِّذتْ، فتهيم الفتاتان في الحكايتين في الغابة والصحراء إلى أن تصلا إلى بيت فيه سبعة أشقاء، في الرواية المصرية تكتشف فرط الرمان أنهم إخوتها، وفي الرواية ألمانية لا تكون هناك مثل هذه الصلة نتيجة للاختلاف بين الثقافتين، فالعربية ترفض أن تقيم فتاة مع أغراب عنها.

ويستمر التشابه بين الحكايتين في محاولة زوجة الأب قتل نصوع الثلج وفرط الرمان بعد معرفة أنهما أحياء مرة من خلال دبوس سحري، ومرة أخرى من خلال تفاحة مسمومة، إلى أن تنتهي الحكاية نهاية سعيدة بانتصار نصوع الثلج وفرط الرمان وزواجهما من ابن الملك وهزيمة المرأة الشريرة التي حاولت مرارًا وتكرارًا قتلهما.

ويعلق الدكتور خالد أبو الليل على هذا التشابه قائلًا «وكما هو واضح فإن درجة التشابه بين الروايتين المصرية والألمانية إلى الحد الذي يمكن اعتبارهما روايتين تنتميان إلى المكان نفسه، وليس بينهما هذه المسافة المكانية والزمانية البعيدة، فهذه الحكاية سَجَّلْتُ لها أكثر من رواية مصرية من أكثر من مكان، وإنني لا أبالغ إذا ما قلتُ إن بعض الاختلافات التي رصدتُها بين بعض الروايات المصرية وبعضها البعض كثيرًا ما تجاوزت الاختلافات البسيطة التي وقعتْ بين الرواية المصرية والألمانية. ولم يقتصر التشابه على الأحداث فحسب وإنما يمتد إلى البداية والحبكة والنهاية السعيدة، والشخصيات وتسمية الشخصيات وأسبابها، والصيغ المتكررة، والموتيفات، أما الاختلافات البسيطة مردها إلى الطبيعة الشفهية للنص من حيث الميل إلى الإضافة والحذف أو اختلاف ترتيب الأحداث وكذلك تأثر الحكاية المصرية بالموروث الأسطوري المصري القديم، والموروث الديني خاصة قصص الأنبياء».

سندريلا

ويقارن خالد أبو الليل بين حدوتة«أشن بوتيل أو سندريلا الألمانية»وحدوتة«بدر الصباح أو سندريلا المصرية» وتصل درجة التشابه بين الحكايتين إلى حد كبير يدعو إلى التأمل، فهذه حدوتة رُويت في كل شعوب العالم وتحظى باهتمام عالمي، والبعض يعيد أصل هذه الحكاية إلى مصر الفرعونية القديمة مثل حكاية «رادوبيس» وهو ما يرجحه الفرنسي جوزيف أدولف بيدييهJoseph bedier  (1864: 1938) ويحكى مضمون القصة المصرية القديمة أن رادوبيس كانت فتاة جميلة، وذات يوم بينما هي تستحم والخادمات يحرسنها ويحتفظن بملابسها هبط نسر بجوارها وخطف فردة حذائها وطار بها إلى ممفيس حيث يوجد الملك بسماتيك، وأسقط الحذاء على الفرعون الذي أُعْجِب بجماله فأمر بالبحث عن صاحبته وعندما وجدها تزوجها. وهذه أقدم الحكايات التي لدينا لحكاية سندريلا. فيما تتفق الحدوتة المصرية بدر الصباح وسندريلا الألمانية في كثير من التفاصيل كما هو الحال في الحدوتة السابقة.

تشابه فريد

هذا التشابه الفريد بين الحكايات جعل العلماء يقدمون العديد من النظريات التي تسعى إلى تفسيره مثل النظرية الانتشارية، ونظرية وحدة الأصل، ونظرية هجرة الحكايات الشعبية. وهناك من أرجع ذلك التشابه إلى وحدة العقل البشري فالحكايات تُبنى على موضوعات أساسية في حياة الإنسان ومن ثمَّ فإن العقل البشري يخلق الفكرة نفسها في أزمنة وبلاد مختلفة.

وأرجع كتاب «الأساطير الألمانية» للأخوين جريم التشابه إلى المصادفة وتفترض نظرية المصادفة تلك وجود مواقف ومصالح إنسانية مشتركة تقوم على أساس افتراضات أخلاقية عامة، يتقبلها البشر رغم اختلافاتهم الزمانية والمكانية والعرقية أو الدينية وبررت هذه النظرية وجود التشابه وأكدته؛ لكنها لم تفسر أسباب هذا التشابه، الأمر الذى أدى إلى ظهور نظرية «الانتشار» والتي تقول بانتشار الحكايات من بلد إلى بلد عن طريق البحارة والرحالة والتجار، فحسب البعض عملية انتشار الحكايات بسيطة ولا تحتاج وجود هجرات أو غزوات فيكفي أن ترسو سفينة أو شراء عبد لتنتشر الحكايات وتتناقل بين شعوب العالم.  وإلى جانب النظرية الانتشارية نجد مسميات أخرى مثل نظرية «سفر الحكاية من بلد إلى بلد» ونظرية «الانتقال من الفم إلى الأذن» ويخلص أصحاب هذه النظرية إلى عدم ملكية شعب من الشعوب للحكاية الشعبية فهي ملك لكل الشعوب ولكل البشر. 

وهناك من أرجع التشابه إلى وحدة المنبع مثل أ. ل. رانيلا صاحب كتاب «الماضي المشترك بين العرب والغرب» الذي يرى أن المنبع الكلي للموضوعات الشعبية الشرقية والغربية معًا هو ذلك المورد الرئيسي الأولي من موروث أهل الشرق الأدنى والأوسط من الإغريق القدماء والحضارة الهلنستية ومصر والهند والفرس والرومان والعرب المبكرين، والتراث الإسلامي المركب من كل تلك المركبات الذي عاد وأصبح زادًا تتزود به جميع الشعوب.

التصنيفات

دفع هذا التشابه بين الحكايات الشعبية على مستوى العالم علماء الفولكلور إلى طرح تصنيفات عالمية لها، تضم الحكايات الشعبية في شتى أنحاء المجتمعات الإنسانية تيسيرًا على الباحثين لإجراء دراساتهم المقارنة، وكانت أولى المحاولات التصنيفية للفنلندي آنتي آرني (1867: 1925) في تصنيفه المشهور الذي ارتبط باسمه، ويقسم الحكايات الشعبية حسب أنماطها وطرزها، وجاءت بعده محاولة الأمريكي ستيث طومسون (1885: 1976) التي حاول فيها أن يتجاوز النواقص الموجودة في نموذج آرني وصنَّف فيها الحكايات الشعبية حسب الموتيفات الأساسية، ثم جاءت المحاولة الثالثة التي سعتْ إلى التنظير لشكل الحكاية الخرافية وبنائها ومحاولة التَّعرف إلى القانون البنائي لها من خلال التحليل المورفولوجي للعالم الروسي فلاديمير بروب (1895: 1970) في كتابه «مورفولوجيا الحكاية الخرافية» وهي دراسة بنيوية تقوم على تحليل الحكايات الخرافية من خلال دراسة الوظائف بغض النظر عن صفاتها، وحدد هذه الوظائف 31 وظيفة تبدأ بإبعاد البطل وتنتهي بعودته وتحقيق أهدافه.

فن نسائي

ويرصد الدكتور خالد أبو الليل مجموعة من خصائص الحكايات الشعبية «الحواديت» المشتركة بين الثقافات المختلفة أولها: أنها ترتبط بالسيدات فهن أكثر الرواة لها فينقل عن أحمد أمين قوله في قاموسه عن العادات والتقاليد المصرية أن الحودايت تحكيها العجائز خاصة بالليل، وتلك خاصية عالمية لا تقتصر على المجتمع المصري، بل تمتد إلى العالم كله، وتشترك فيها مصر أيضًا مع بقية الدولة العربية، ففي شمال إفريقيا يطلق على السيدة التي ترويها اسم «الخرَّافة» وفي معظم دول الخليج العربي وفلسطين اسم «المُحدِّثة»، ويذكر اللغوي الألماني فريدريش فون ديرلاين (1873: 1966) أن الحكايات قد كوفحت بما فيه الكفاية بوصفها حكايات عجائز، وهو الأمر الذي ينتهي بنا إلى وصف الحدوتة بأنها فن نسائي مثل كثير من أشكال المأثورات الشعبية التي ترتبط في أدائها بالمرأة، فالنساء هن المحافظات على هذا التراث لأنهن في المنزل دائمًا بجوار أطفالهن ينقلن هذا التراث، في حين يخرج الأب للعمل فيصبح السرد من اختصاصهن.

ومن الخصائص المشتركة بين الحكايات العالمية أن جمهورها يكون من الأطفال وأنها تروى ليلًا في جلسات السمر، وتبدأ بالافتتاحيات التقليدية مثل «كان يا ما كان» أو «وحد الله، كان ما كان ما يحلى الكلام إلا بذكر النبي عليه الصلاة والسلام»...إلخ، كما أن هذه الحكايات تحتفي بالصيغ الجاهزة التي يسهل حفظها، وتنتقل من قصة إلى أخرى، وأنها تسعى من البداية للوصول إلى النهاية السعيدة، وتنتهي بصيغ ختام تقليدية مثل «توتة توتة خلصت الحدوتة» وتنحصر الوظائف التي تهدف إليها الحكايات إلى المحاكاة والتسلية والتعليم خاصة وأنها تروى للأطفال.

وفي الأخير يكشف تشابه الحكايات الشعبية بين الثقافات الإنسانية إلى عمق وقدم العلاقة بينها، فالكتاب يرصد عددًا من الحكايات التي تتشابه مع الحكايات العربية ونظيراتها في ألمانيا وفرنسا والدول الإسكندنافية، وتؤكدها دراسات أخرى أجريت على الحواديت في روسيا وأمريكا وفي حضارات سابقة مثل المصرية القديمة واليونانية والهندية والفارسية وغيرها. فهي تعبر عن قيم إنسانية مشتركة تدعم الحوار بين الشرق والغرب تقرب ولا تبعد وتجمع ولا تشتت.
-----------------------------
د: عبدالكريم الحجراوي
من المشهد الأسبوعية