يعتقد كثير من الناس أن قصة قيس وليلى قصة حقيقية جرت أحداثها في شبه الجزيرة العربية لكن المتأمل للروايات العربية القديمة التي تتناولها يكتشف أنها لم تكن أكثر من حكاية شعبية من نسج الرواة يغيرون في كثير من تفاصيلها مع الحِفَاظ على الإطار العام لها، وبالفعل كانت هناك قصة شعبية طبعت في مصر تحت اسم "قيس بن الملوح العامري المعروف بمجنون ليلى"، وإذا عدنا إلى كتب التراث مثل الأغاني سنجد أنه يورد الكثير من الحكايات عن هذين العاشقين على لسان رواة بشكل غير مترابط ويتسم بعضها التناقض تبرز شعبية هذه الحكاية.
يبدأ أبو الفرج الأصبهاني حديثه عن قيس على النهج نفسه الذي يتبعه مع بقية الشخصيات ذاكرًا نسبه والاختلافات حول اسمه "فهو قيس بن الملوح وقيل إن اسمه مهدي" وينقل الأصفهاني مجموعة من الروايات التي تنفي وجوده من الأساس، فيحكي أن أيوب بن عباية سأل بني عامر بطنًا بطنًا عن مجنون بني عامر فما وجد أحدًا يعرفه، وسأل رجلاً من بني عامر أن ينشدهم شيئًا من شعر المجنون، قال أو قد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين، إنهم لكثير، فقال ليس هؤلاء أعني، إنما مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال هيهات، بنو عامر أغلظ أكبادًا من ذاك، وإنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبهم، السخيفة عقولهم، الصلعة رؤوسهم، فأما نزار فلا.
وينقل الأصفهاني رواية عن الأصمعي يقول فيها "رجلان ما عُرفا في الدنيا قط إلا بالاسم، مجنون بني عامر، وابن القِرِّيَّة، وإنما وضعهما الرواة". ويتساوق هذا الرأي مع ما قاله عوانة "ثلاثة لم يكونوا قط ولا عرفوا ابن أبي العَقِب صاحب قصيدة الملاحم، وابن القرية، ومجنون بني عامر".
ولكن للأمانة هنا لابد أن نقول إن هناك رواية أخرى للأصمعي تنسب إليه أنه ذهب إلى بني عامر، ورأى المجنون وقد أنشده من شعره. مع الأخذ في العلم أنه يمكن التوفيق بين هاتين الروايتين المتناقضتين من خلال رواية ثالثة منقولة عن الأصمعي ذكر فيها "أنه لم يكن مجنونًا ولكن به لوثة أحدثها العشق فيه، واسمه قيس بن معاذ" فهذه الرواية لا تنفي الأول ولا الثانية فليس هناك قيس بن الملوح ولكن هناك قيس بن معاذ وليس مجنونًا ولكن به لوثة.
وينقل عن الأصمعي قوله إنه سأل أعرابيًّا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسألني؟ فقد كان فينا جماعة رموا بالجنون، فعن أيهم تسأل؟ فقلت: عن الذي كان يشبب بليلى، فقال: كلهم كان يشبب بليلى، قلت: فأنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم بن الحارث المجنون وأنشده كذلك لمعاذ بن كليب المجنون، ولمهدي بن الملوح.
فنحن في هذه الرواية أمام مجانين كثر من بني عامر لا واحد بما يتناقض مع رواية ابن عباية الذي نفى أن يكون في قبيلة بني عامر عاشق على هذه الشاكلة، لأن قلوبهم بدوية غليظة لا تعرف هذا النمط من الحب، وأوعز إلى أن هذه الشخصية قد تكون يمانية ممن عرفوا برقة القلب.
وهناك نمط من الروايات أميل إليه بشكل شخصي وهو يرى أن ما قاله المجنون هو من وضع الناس والرواة فهو شخصية خيالية وربما تكون شخصية حقيقية، لكن ما نُسِب إليها لم يكن حقيقيَّا وهذا متعارف عليه في الأدب الشعبي فسيرة عنترة بن شداد والزير سالم وأبو زيد الهلالي...إلخ كلها وإن أشارت إلى شخصيات حقيقية له وجود إلا أن الأحداث المروية في السيرة الشعبية الخاصة بهم خيالية.
ويذكر ابن الكلبي أن حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يظهر للناس ما بينهما، فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس عن المجنون ونسبها إليه.
ويشايعه في هذا الرأي عوانة الذي يرى أن المجنون اسم مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصل أو نسب، وسئل من قال هذه الأشعار قال هو فتى من بني أمية.
وهذه النتيجة نفسها وصل إليها الجاحظ حين قال "ما ترك الناس شعرًا مجهول القائل إلا ونسبوه إلى المجنون، ولا شعرًا هذا سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح".
فهو شخصية في كثير من الروايات لم تعرفه قبيلة بني عامر عندما يسألون عنه ويخبرون أنه هذه الأشعار مولدة عليه. ونقل عن الأصمعي قول مشابه حول أن المجنون قال الشعر لكنما أضيف إليه أكثر مما قاله هو.
نكتشف ما سبق أن هناك تشكيك في كيان المجنون، روايات تشكك في وجوده من الأساس والروايات متواترة في هذا الصدد منها أن أيوب بن عباية لما سمع بيتين وقيل له هما لمجنون ليلى، "لم يعرف من هو، ثم قال ما لهذا حقيقة ولا سمعت به.
وهناك روايات ثانية لا يشكك في وجود المجنون أيَّا كان اسمه معاذ أو مهدي أو مزاحم أو قيس وإنما تشكك في الجنون ذاته، لكنها تشكك في جنونه حيث ترى بعضها أنه هو قيس بن معاذ العقيلي لم يكن مجنونًا وكانت به لوثة وهذا يوافق ما قاله الأصمعي في إحدى رواياته. ويفسر المدائني سبب لقبه بالمجنون ليس لأنه مجنون وإنما قيل له مجنون بسبب قوله وإني لمجنون بليلى موكل، ولا لست عزوفًا عن هواها ولا جلدا/ إذا ذكرت ليلى بكيت صبابة، لتذكارها حتى يبل البكا الخدا.
ويقول العُتبي أنه سمي مجنونا بقوله: يقول الناس عل مجنون عامر يروم سلوًا أنى لما بيا.
أما عن اسمه فهو غير متفق عليه وفيه اختلاف كبير عليه كما بينت الروايات السابقة، وإذ تركنا كل هذا واتجهنا إلى الحكايات المنقولة عنه، فهي لا تخلو من الاختلاف والتناقض، فهو تارة أحبها لما كانا صبيين يرعيان الغنم، وفي رواية أحبها لما رآها مع مجموعة من النساء فنزل إليهن فرأى ليلى فأعجب بها، وتارة لما وُصِف إليها جمالها أحبها وعزم على زيارتها إلى أن لقيها فأعجبت به وأعجب بها.
وعن سبب رفض تزويجه منها، ففي حكاية لأنه شبب بها ومن عادة القبائل العربية ألا تزوج الشاعر بالمرأة التي شبب بها، وفي رواية ثانية تقدم إلى ليلى جماعة من قومها فكرهتهم وتقدم إليه موسر من ثقيف فكان جميلًا فتزوجها وخرج بها. وتتوالى الحكايات حول أسباب الرفض وتلك الحيلة موجودة في كل السير الشعبية ما من حبيب يتزوج حبيبته إلا بعد صراع وأهوال يخوضها.
أما عن صلة القرابة بين المجنون وليلى، فهي تارة ابنة عمه، وتارة جارية من الجواري، وفي روايات تبادل ليلى قيس حبًا بحب ويجري سجال شعري بينهما فيقول قيس (الله يعلم أن النفس هالكة باليأس منك ولكني أُعنيها/ منيتك النفس حتى قد أضر بها واستيقنت خلفا مما أمنيها/وساعة منك ألهوها وإن قصرت أشهى إليها من الدنيا وما فيها)
فلما سمعت هذه الأبيات بكت ليلى طويلاً ثم قالت
(نفسي فداؤك لو نفسي ملكت إذًا، ما كان غيرك يجزيها ويرضيها/صبرًا على ما قضاه الله فيك علي مرارة في اصطباري عنك أخفيها)
وجاء أيضًا أن ذكر إليها حال قيس فلما علمت بحاله بكت وسقطت مغشيًا عليها.
وفي روايات أخرى نجد أن قيس لم يكن يعني الكثير لليلى، بل تزوجت من غيره بسهولة وكانت تتجنب طريقه.
تغرق الروايات الشعبية في ذكر حال العاشق قيس من الذهاب به إلى مكة ليحج ويدعو الله أن يشفيه من محبتها لكن يدعو الله وهو ممسك في أستار الكعبة أن يزيد من حبها في قلبه، وهناك روايات عن توحش قيس وسكنته في البراري هائمًا على وجهه ذهابًا إيابًا حزنًا على فراق المحبوبة إلى أن تنتهي حكاية قيس نهاية قاسية إذ وجد ميتًا في واد خشن كثير الحجر فاحتمله أهله فغسلوه وكفنوه ودفنوه. وكان أشد الناس بكاء وندمًا عليه أبو ليلى. وهذه النهاية تختلف عن نهايات أبطال السير الشعبية الذين يعانون الأمرين من أجل مهر المحبوبة مثل عنترة وعبلة، وحمزة البهلوان ومهردكار، وفيرزوشاه وعين الحياة، وأبوزيد الهلالي وعالية وسيف بن ذي يزن وقمرية...إلخ، لكنهم في النهاية يقضون وطرهم ممن أحبوهن بل ويتزوجون عليهن فعنترة له في السيرة نحو تسع زوجات وكذلك حمزة البهلوان وغيره من الأبطال لأنهم في الأساس هم أبطال عسكريين لهم هدف قومي أساسي على رأسه رفع راية العرب وتوحيدهم ضد أعدائهم، فمسألة العشق ثانوية بالنسبة لغايتهم الكبرى بينما نحن في هذه الحكاية أمام عاشق عذري ليس له غرض سوى الوصل مع محبوبته ليلى كهدف فردي، فجاءت النهاية على هذه الصورة بوفاته دون الوصول إليها لتكتمل مأساته شهيدًا في الحب. وتحولت ليلى إلى رمز لدى الصوفية إلى الحب السامي الذي لا يشوبه غرض حسي.
----------------------
تقرير - د. عبدالكريم الحجراوي
* من المشهد الأسبوعية
المشهد الأسبوعية