تحتفل مصر والدول العربية بالذكرى الحادية والخمسين لحرب أكتوبر المجيدة التي ردت الاعتبار والعزة والكرامة لكل الشعوب العربية، وقد كثرت الكتابات عن هذه الحرب في الشرق والغرب.. من كتابات متخصصة عميقة، وكذلك كتابات المراسلين العسكريين، ومذكرات القادة، وقد أدلى الفريق يوسف عفيفي بدلوه في هذا المجال بكتابه "الفرقة 19 مشاة – أبطال فوق العادة"، ولم يسلط الضوء على نفسه كقائد منتصر حقق بطولات خارقة في الحرب، ولكنه تنكر لذاته، وأرخ لكل أبطال الفرقة من الجندي وحتى رئيس أركان الفرقة العميد أركان محمد حشمت جادو.
والفريق يوسف عفيفي محمد بكري هو أقدم قائد عسكري رفيع شارك في الحرب مازال يعيش بقلب شاب، مهموماً بقضايا وطنه منذ أن تخرج في الكلية الحربية في الدفعة التي تخرجت في أغسطس 1948، وبعد تخرجه أرسل إلى الميدان في فلسطين، وتعرض للحصار 100 يوم في الفالوجا مع الزعيم خالد الذكر جمال عبد الناصر الذي كان أركان حرب الكتيبة السادسة مشاة، وعندما عاد انضم لتنظيم الضباط الأحرار، وشارك في ثورة 23 يوليو 1952، بعدها شارك في تأسيس جهاز المخابرات العامة مع السيد زكريا محي الدين، ثم رجع ليكمل المسيرة في صفوف القوات المسلحة، وخدم في سوريا واشترك في حرب اليمن، وعين رئيساً لأركان الحرس الجمهوري، ثم قائداً لإحدى كتائب المشاة التي اشترك بها في حرب 1967، في هذه الحرب التي لم تعط الفرصة للجندي المصري لكي يحارب، بدليل أن هذا الجندي هو الذي حارب بعد أيام في معركة رأس العش، وفي حرب الاستنزاف، وهو الذي تدرب تدريباً فائقاً ليدهش العالم في حرب أكتوبر 1973..
وفي حرب يونيو تكاتف العقيد أركان حرب يوسف عفيفي مع جنوده ووضع لهم خطة ارتداد، ونجح في الحفاظ على أفراد ومعدات الكتيبة دون خسارة تذكر، اللهم إلا سبعة جنود فقط، وكانت وحدته هي أخر وحدة عبرت القناة.
وبعد أن أعلن الرئيس جمال عبدالناصر حقيقة النكسة، وتم عزل المشير عبد الحكيم عامر من كل وظائفه العسكرية، ومحاكمة كل من تسبب في الهزيمة، ولم يرضخ المشير لتلك القرارات، فأعلن الاعتصام في منزله، وقد أيده رجاله حتى رحل في سبتمبر من نفس العام، وقبض على رجاله والمحسوبين عليه، ومنهم العقيد أركان حرب يوسف عفيفي، الذي وضع قيد التحفظ لمدة عام، مع 56 ضابطاً من دفعة شمس بدران، والدفعات الأخرى ومن مشاهير الضباط الذين اعتقلوا معه: المشير أحمد بدوي والفريق إبراهيم العرابي وغيرهم.. ثم أحيل إلى الاستيداع حتى قامت ثورة التصحيح في 15مايو 1971، وتوسط له لدى الرئيس محمد أنور السادات صديقه القديم الفريق الليثي ناصف، قائد الحرس الجمهوري، للعودة إلى صفوف القوات المسلحة، ويعود إليها كأنه غادرها بالأمس القريب، فعين مديراً للتدريب بالجيش الثاني الميداني، يباشر مروره على الوحدات ويفاجئهم بالزيارات ليعرف مدى ما وصلوا إليه من تدريبات والتزامات، استعداداً ليوم الثأر والكرامة الذي كان الجميع يدرك أنه قادم بلا محال، وينجح في عمله الحساس هذا.
وفي السنوات الأربع التي قضاها خارج القوات المسلحة كان يتوق شوقاً إلى المشاركة في القتال ضد العدو الغاشم وقد تحققت أمنيته، ورجع إلى صفوف القوات المسلحة وفي نفس رتبته ومنصبه، ثم كان موعده مع المنصب الذي دخل به إلى التاريخ من أوسع أبوابه، وتم اختياره قائداً للفرقة 19 مشاة خلفا للواء سعد زغلول عبد الكريم، ليواصل مشوار التدريب الشاق ليل نهار، يثير الحمية في قلوب الضباط والجنود حتى انبلج فجر الظلام، وأتى يوم السادس من أكتوبر يغسل العار الذي جلل مصر ست سنوات عجاف، وتنجح الفرقة في إحراز النصر المبين والاستيلاء على أهم النقاط الحصينة في خط بارليف منها: النقاط 146، و147، و148، و149، وعيون موسى، ولسان بور توفيق، وجبل المر، والجباسات، وسطّر رجال الفرقة بطولات خارقة...
"الفرقة 19 مشاة – أبطال فوق العادة":
في مذكراته التي صدرت في بداية التسعينيات، وقد نشرها منجمة في حلقات الكاتب الصحفي محمد مصطفى في جريدة "السياسة" الكويتية، وقد آثر الفريق عفيفي أن يتعرض لكل شيء بداية من التدريب الشاق والمستمر حتى حققت الفرقة 19 أهدافها واستولت على النقاط الحصينة في الساعات الأولى لاندلاع الحرب، رغم أن الفرقة تعرضت لخطر كان من الممكن أن يعيق تحقيق أهدافها، ففي قطاع الفرقة كان الساتر الترابي يتكون طبقة كلسية، ولم يفلح معه التجريف بطلمبات المياه، وظل جنود الفرقة قرابة 26 ساعة بدون أسلحة ثقيلة، وتصدوا لقوات العدو من المدرعات والمدفعية والطائرات بالأسلحة الخفيفة وبالقاذفات المحمولة، ومع ذلك لم يحدث أدني شيء من الارتباك، وتم عبور المدرعات والمركبات وباقي الأسلحة من كباري الفرقة السابعة مشاه المجاورة التي كان يقودها العميد أحمد بدوي سيد أحمد حتى تم فتح الثغرات وإنشاء كباري للفرقة.
من خلال قراءتنا لصفحات كتاب الفريق عفيفي ندرك أنه امتلك أدواته في كتابة التاريخ ومنها الدقة في ذكر الأحداث، والحيادية التامة، فقد رجع إلى اليوميات التي كان يدونها أثناء المعركة، كما رجع إلى ضباطه وجنوده الذين شاركوه في صنع النصر، ونحس من خلال هذه المذكرات أن الفريق عفيفي كان يقود أوركسترا سيمفوني كبير، قاده بجدارة، دون كل شيء. ذكر بطولات الجنود والضباط والقادة ولم يقتصر الحديث على حرب اكتوبر فقط، ولكنه رجع إلى الخلف ست سنوات ليحدثنا عن حرب يونيو 1967، وظروف الهزيمة، وعقد مقارنة بين قادة حرب يونيو وقادة حرب أكتوبر، الفرق شاسع بينهما، ورغم الهزيمة التي تعرضت لها القوات المسلحة في حرب يونيو إلا أنها لم تخل من بطولات دونها الفريق يوسف عفيفي وكان شاهداً عليها، وقد ضرب عن ذكرها كل المؤرخين، لأنه كان شاهداً عيان عليها، فلم تعرف إلا من خلال روايته.
فيذكر أنه فى طريق المليز، كانت ترتكز إحدى الكتائب.. ولم تصل إلى قائدها أوامر انسحاب، واستمر هذا القائد الشهيد العقيد كمال رؤوف يقاتل مدرعات العدو.. وكانت لواءات مدرعة.. لمدة أربعة أيام، ولم يتمكن العدو من اختراق دفاعاته، ومن هنا لجأ العدو إلى استخدام قواته الجوية فأبادت الموقع عن آخره.. ولو لم يحدث ذلك لما استطاع العدو اكتساح هذا الموقع ..ويعرف الإسرائيليون هذا جيداً، وكتبوا عن هذا القائد.. إنه العقيد كمال رؤوف قائد إحدى كتائب المشاة، وهو أحد أبطال حرب 1967 وإذا لم نكن قد اعتدنا على سماع كلمة البطولة فى هذه الحرب، وإلى هذا الوقت من كتابة مذكرات الفريق عفيفي لم يعرف أحد عن بطولات العقيد كمال رؤوف حتى زوجته وأولاده، ولما نشر هذا الكلام أرسلت زوجته رسالة شكر إلى الفريق يوسف عفيفي قالت فيها:
"أريد أن أوجه كلماتي هذه إلى الفريق يوسف عفيفي حيث قرأت فى كتابه "مقاتلون فوق العادة" نبذة عن البطل الشهيد العقيدكمال رءوف، وكيف أنه قاتل فى شجاعة، واستبسال، واستطاع الصمود لمدة أربعة أيام مع أفراد كتيبته فى حرب سنة 1967 ولم يتمكن العدو من اختراق موقعة؛ الى أن اتخذ العدو خطة أخرى، وهى ضرب الكتيبة الصامدة من الجو، ولو لم يحدث هذا لما استطاع العدو اكتساح الموقع، وكيف أن الإسرائيليين يعرفون هذا جيداً، وكتبوا عن هذا القائد .قرأت هذه الفقرة أنا وأبنائي، ولم نصدق أعيننا.. يا إلهى! هذه معلومات لم نكن نعلمها من قبل. هذه أول مرة أعرف أن زوجي الشهيد قد قام بهذه البطولات.
فألف شكر للفريق المنصف؛ فقد ملأ ابنى فخرا بوالدهما العظيم الذى تركهما طفلين صغيرين، وهما الآن طبيبان بفضل الله وعنايته . وجزاه الله كل خير".
حرم الشهيد / كمال رؤوف
ثم يذكر أمثلة أخرى من البطولات، فيقول: "هل يعرف أحد أن أحد القادة قام بالسباحة في البحر المتوسط من رفح حتى العريش على فترات متقطعة؛ حتى لا يتعرض للأسر بعد انسحاب كتيبته.. وفى العريش قام بركوب جمل، وصل به إلى غرب القناة.. وهو العقيد محمد نبيه السيد، الذى كان قائداً للمنطقة الشمالية فى فتـرة من الفترات ..
"وأذكر أيضا أحد القادة الشهداء، الذى حمل ذخيرة وحدته في عربات قطار، وقام مع أفراد قوته بدفع العربات بسواعدهم، وظلوا يدفعونها أمامهم بلا قاطرة لكي يصلوا بها إلى مواقع الكتائب التي كانت في حاجة إليها، إنه العقيد سعد درويش الشامي.. وهو ضابط شئون إدارية، قام بأعمال خطيرة في معركة رفح، وفي نفس المعركة التي قادها اللواء جعفر العبد نحتاج إلى مؤلفات، حيث قامت القوات المصرية فيها بأعمال قتالية تدرس الآن فى المعاهد العسكرية .
ثم يتحدث عن أحد أبطال كتيبته: "وسوف أسرد بعض الوقائع التي شهدتها إحدى السـرايا المشـاة التي كانت ضمن الكتيبة 12 مشاة التي كنت أتولى قيادتها، وأثناء الانسحاب أمرت أحد الضباط، وهو النقيب أحمد الزهيري - لواء متقاعد الآن - وكان في النسق الثاني للكتيبة؛ أن يفرغ كل حمولة سيارات نقل الكتيبة والذخيرة والإمدادات، ويستقبل أفراد سرايا المشاة لتركب العربات مكانها، مع توزيع ما تيسر من الإمدادات على الجنود، وينتظرني حتى أصل إليه ..وفعل ذلك بكفاءة منقطعة النظير بعد أن وصلت اليه السرايا الأمامية، واستطاع حماية القوات المنسحبة ..وكنا معاً آخر من انسحب .. لدرجة أن كتيبتنا قد عادت كاملة، فلم يفقد من 900 مقاتل إلا 17 فرداً رغم السيادة الجوية للعدو، وكانت آخر كتيبة تنسحب من سيناء فى حرب 1967 بفضل الله.. ثم بسالة أحمدالزهيري".
ثم يعقب على هذه البطولات التي انفرد بذكرها فقال: "إن هذه الأمثلة القليلة توضح معدن المقاتل المصري الذي ظلم في كثير من الأمور التي سيذكرها التاريخ يوما ما".
ثم ذكر بطولات الفرقة 19 في حرب أكتوبر 1973، وعلى رأس هؤلاء الأبطال العقيد أركان حرب محمد الفاتح كريم، قائد اللواء الثاني مشاه ميكانيكي الذي استولى على جبل المر، وهو هيئة حاكمة، وموقع حصين كان يستغل للعدوان على مدينة السويس، وقد اطلق اسم الفاتح كريم على الجبل، بعد ذلك فصار يعرف بجبل الفاتح.
كما ذكر بطولة الرائد محمد زرد؛ الذي استولى بجماعة صغيرة تتسلح بأسلحة خفيفة على النقطة المنيعة 149 بعدما فشل اللواء الخامس مشاه التابع للفرقة 19 في اقتحامها مرات عديدة، وكان للرائد زرد بطولات في حرب الاستنزاف، وقد نقل إلى مدرسة المشاة قبيل اندلاع الحرب، وقد رفض هذا النقل، وصمم على المشاركة في الحرب، وكان يعمل ضابطاً للشئون الإدارية بإحدى كتائب المشاة وقت اندلاع المعركة، وبعد فشل اللواء الخامس مشاه في اقتحام النقطة 149 كما ذكرنا، كُلِّف المقاتل زرد ومعه ثمانية أفراد بتدمير هذه النقطة الحصينة وتسلل بجماعته التي كانت تتسلح بالأسلحة الخفيفة من البنادق والرشاشات، والقنابل من مؤخرة النقطة حتى وصل إلى آخر مزغل منها، وقام بإسقاط القنابل وتفجير هذا المزغل، وعلى أثر ذلك قام الجنود الإسرائيليون، بفتح أبواب النقطة، وفتح عليهم النيران ثم اقتحمها بهذا العدد القليل، وقام بقتل عشرة من الأعداء وأسر 21 فرداً، وفي غمرة أدائه لمهامه أصيب بعدة طلقات من رشاش خفيف في بطنه وتحامل على نفسه حتى انتهى من مهمته، وتم نقله الى المستشفى للعلاج لخطورة حالته، وكان يشعر بالسعادة والفخر لما فعله واستشهد في المستشفى في 8 أكتوبر.
كما تحدث الفريق عفيفي عن بطولة الجنود أمثال الجندي ديداموني الذي استطاع رصد دبابة قد اخترقت واقتربت من مركز قيادة الفرقة 19، فتركها حتى أصبحت على بعد 15 مترا وقام بإصابتها في الجنزير، فقام الإسرائيليون بالهروب من الدبابة بعد توقفها، وهناك عشرات من البطولات ذكرها الفريق عفيفي أثناء قتال الفرقة في سيناء وفي معركة السويس وحصار الجيش الثالث الميداني.
وكما حدثنا عن يوميات المعركة في سيناء بشيء من التفصيل، حدثنا أيضاً عن الثغرة، وعبور القوات الإسرائيلية إلى الغرب وتطويق الجيش الثالث ومحاولة احتلال مدينة السويس، وقد فشل في ذلك بفضل تكاتف الشعب مع الجيش فتبددت طموحاته على صخر المقاومة، ويذكر عفيفي أنه استفاد من تجربة حصاره في الفالوجا لمدة مائة يوم في حرب 1948، فوفر للقوات التعيينات والمياه، وطبق سياسة الإشغال، وطالب الجنود أن يقوموا بإخراج كل الأجزاء الصالحة للاستخدام: من الدبابات، والعربات، والطائرات المحطمة على أرض المعركة ؛ واستعمالها فى أي شيء فقاموا بصنع: خواتم، وصواني، وآلات موسيقية، وشكلوا فرق شعر، وزجل ، وموسيقى ، وكانوا يعدون حفلات بشكل مستمر...وجعل الجنود يقومون بالحديث مع أهلهم فى مصر: (23000) برقية أرسلت لذويهم باللاسلكي لدرجة أن سنترال ألماظة كان يعمل ليلاً ونهاراً لإرسال برقيات الفرقة 19 ليطمئن أهل الجنود والضباط.
وفي هذه المذكرات فنّد يوسف عفيفي العديد من المزاعم، ومنها أن الشيخ حافظ سلامة هو قائد معركة السويس، وأوضح الحقيقة حول هذا ليس في هذه المذكرات ولكن في أحاديثه التليفزيونية وفي مقالاته بالصحف، ومع ذلك يتم تدوير الفرية كل عام دون التركيز على الحقيقة التي بينها الفريق عفيفي، وأن الشيخ حافظ كانت مهمته غسل وتكفين الشهداء، وذكر إن حافظ سلامة لم يكن له دور يذكر في المقاومة وأن الذين دافعوا عن السويس هم جنود الفرقة 19، وتساءل كيف يدافع الأهالي وهم غير مسلحين ضد غزو إسرائيلي يحتاج ثلاثة ألوية مدرعة لصد الهجوم الإسرائيلي، أما حافظ سلامة فكان واعظاً يصلى بالناس في المساجد، ويخطب في الجنود وكان على خلاف مع المحافظ بدوي الخولي وأراد تشويهه بقوله أنه قبل التسليم للعدو، وهذا لم يحدث.
وفي النهاية نقرر أن هذه المذكرات وثيقة مهمة في التأريخ لحرب أكتوبر، ونتمنى أن يعاد طبعتها من جديد ليستفيد منها الجميع.
------------------------
بقلم: أبو الحسن الجمال
* كاتب ومؤرخ مصري