لحظات ليست ككل اللحظات، حالة من الخضوع والاستسلام، يتجمهرون حولها في صمتٍ مَهيب، يلتفون في هدوءٍ منظّم، العيون تُحدّق مُشفقة، الشفاه تتمتم هامسة، الدعوات صامتة، أصوات بعيدة خافتة، الكل يرقُب وجَلَها وخوفها، ممددة في فزع بلا حراك.. يسرعون بها بلا هوادة، تُوقِن أنّ لكل أجل كتاب ولكل نفس سائق وشهيد.. فلماذا إذن يكثر السّائقون حولها والشّهود ؟!
ينتبه عقلها.. تتمتم: "نعم.. نعم".. فقد استطاعت النّطق بالشّهادة، اطمأن قلبها قليلًا وهم يحملونها.. وكلما أسرعوا ينفض الجَمع خلفها حتى تركوها وحيدة !!
ما زالت مشدودة القيود، آخرون يَقدِمون بيض الوجوه.. يَمدّون أيديهم.. يمسكون شيئًا، تفزع.. تشيح بوجهها عنهم.. تحاول الهرب، لكن لا فكاك من الوثاق، فتحت فمها لتصرخ فألجموها وامتلأ صدرها حشرجة، تُحدّثها نفسُها: كلهم يأتونه عراة حفاة فُرادا، لكن -عجبًا- فوحدها تتعرىٰ.. وحدها حافية.. وحدها مستسلمة !!
ما يزالون يُحدّقون، تغيب عن الوعي شيئًا فشيئًا.. تلتقط ذاكرتها شبح عينين زرقاوين ترقبانها بإشفاق، تهوي في قاع سحيق، وقبل أن يغيب وعيها تمامًا تمسك بتلابيب فكرة أقنعتها وأفهمتها أن الرُّوح تحلق لأعلىٰ فما الذي تغير ؟!
تسيل الرُّوح بخفة خارج جسد مسلوب الإرادة.. تمضي عبر نفق مظلم نحو السّقوط لأسفل !! تتذكر ما أحضرتْ وما عملتْ من خطايا وذنوب فبصرُها اليوم حديد.
الأمر جلَل.. أشد مما تخيلَتْ، ما زالت تهوي، تتلفت تبحث عمّن لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، اليوم تُبلىٰ السّرائر، ترتجف.. تسري في أوصالها برودة شديدة، تتساءل: أمَا تزال الفرصة سانحة ؟ كيف والدّرك الأسفل يقترب ؟!
يحاول عقلها استرجاع إجابات ثلاثة حفظتها عن ربها ودينها ونبيها، هل تنفعها التّوبة الآن ؟ تتحسر مسترجعة: وهل نفعت توبة الغريق فرعون ؟! لا لا.. مستحيل فهو رب غفور.. كَتب على نفسه الرّحمة.. أوصاها ولو بشِق تمرة وهي لطالما تصدّقت بحِمل بعير.
تعاني من شدة ورهبة، ألم فظيع يفتك برأسها، تتسارع دقات قلبها مضطربة، تصرخ.. عجبًا.. لا يبدو أنهم يسمعونها !! منهمكين يقلبونها ذات اليمين وذات اليسار وهي باسطة ذراعيها في خضوع.. تهمس فزعة: هلك عنّي سلطانية لا أدر ما حسابيه، لا لا.. لم يكن لها جاه ولا سلطان.. إذن فلن يأخذوها ليغلّوها في الجحيم بسلسلة قدرها سبعين ألف ذراع، تُطمئن نفسها قليلًا.
لكن لدهشتها ترىٰ الأيدي لا زالت تمتد إليها..ترتعش شفتاها.. تتشنّج أصابعها.. تتيبّس مفاصلها.. حشرجة صدرها تزداد.. تندفع فجأة نحو السّقوط المروع، يُكشَف عن ساقيها فلا تستطيع السّجود، تُحرك لسانها.. فلا يطاوعها..تُذهل حين تنطق يداها، وتشهد أرجلها، ويبوح جلدها، فتصرخ فيهم معاتبة: "عنكم كنت أناضل.. فلتدافِعوا عنّي".. لا ينظرون لها ويؤدون ما يؤمَرون.. واستمرت تصرخ فيهم: سحقُا لكُم.
تقترب بشدّة من القاع السّحيق.. تعاني السّكرات، أجفانها مثقلة، أدركتْ أنها لا تملك شفاعة ولا عدْل، قُضي الأمر.. تنهار.. تسيل أنهار النّدم.. تزداد رجفة الجسد.. وحدها في وحدة مظلمة موحشة، يتخبّط رأسها من المَس، يسرعون بلا رحمة ولا شفقة، تفقد الوعي تمامًا.. يسّاقط الجسد ويُلقىٰ مهملًا.. وبصعوبةٍ بالغة يلتقط سمعها صوتًا بعيدًا مُعلنًا: الغرفة 616.
في لحظاتها الأخيرة تُدهش تتساءل.. أللغرف أرقام ؟! تفقد وعيها تمامًا ويسقط الجسد المُسجىٰ بلا حول ولا قوة، تشعر بأنفاسها تصّعد في السماء وتضيق حرجًا.
تهوي الضّربات السّاحقة على وجهها لتفيق، تعلو الأصوات والضّجيج، تصرخ.. تستنجد.. تستجير.. ذلك اليوم الوعيد الذي كانت منه تحيد، الرّؤرس لا تُحصىٰ ولا تُعد.. الهول كبير والفزع عظيم والحدث رهيب، تحاول جاهدة رفع أجفانها لترىٰ الغلاظ الشّداد سود الوجوه يسحبون نفسها الخبيثة وينزعون السّفود من الصّوف المبلول.. يبشرونها بعملها السّيئ، تنهار وهي تشعر بيدها اليسرىٰ تُرفع عن دون إرادتها لتأخذ كتاب أصحاب المشأمة !!
إذن وقعت الواقعة غير كاذبة، لا تستطيع حتى الصّياح، هذا يوم لا ينطقون، أنفاسها تتلاحق.. يا ليتها كانت القاضية..يا ليتها كانت ترابا.. فجأة تسمع: "مَدام.. مَدام".. ياللعجب أتنادينا الملائكة بغير اللسان العربيّ المبين ؟! وأين النداء يا فلانة بنت فلان ؟! أخيرًا استطاعت أن تصرخ تطلب العفو والمرحمة، أفلحت في رفع جفنيها.. تُذهل وهي تشم رائحة صافية نظيفة.. تتعجّب حين ترى بيض الوجوه ملامحهم فلبينية !!
تتبينه حين يأتيها مسرعًا مبتسمًا صاحب العيون الزّرقاء.. إيطاليّ السّمت، يربِت على يديها حانيًا.. يعاجلها بإبرة مسكّنة لآلام العملية الجراحية، تتوقف سيول الدّمع الهتون.. تنتبه لآلام مبرِحة في بطنها، قبل أن تصرخ تغمض عينيها.. تخلد في نومٍ عميقٍ مبتسمة مطمئنة.
نسيتْ الشّهادة وإجابات الأسئلة الثلاث.. ما تزال الفرصة أمامها سانحة للتوبة والنّجاة.
----------------------------
بقلم: حورية عبيدة