قبل أن تقرأ:
هذا الحوار عمره يتجاوز 18 عاما، وأجرى قبل نهاية 2006 مع المستشار محمود الخضيري، رحمه الذي رحل إلى بارئه صباح اليوم.
أجري الحوار عندما كان الخضيري رئيسا لنادي قضاة الإسكندرية، وفي ذروة أزمة القضاة وكفاحهم من أجل استقلال القضاء في مواجهة سلطة مبارك وحكمه.
حينها كانت مصر على صفيح ساخن، حبلى بعلامات/ نبوءات الإصلاح والتغيير والثورة. وهو ما لم يغب عن كلمات القاضي الجليل أحد أبرز رموز تيار استقلال القضاء في تاريخ مصر الحديث والمعاصر خلال هذا الحوار، فحفظه لنا بعد كل هذه السنوات والأحداث والتقلبات.
اللحظة التي أجرى فيها الحوار تبدو فاصلة بين ذروتين في هذا السياق التاريخي. كانت قضية محاكمة القاضيين محمود مكي وهشام البسطويسي، بعدما جهرا بتزوير الانتخابات العامة وتورط قضاة في التزوير، يجرى إغلاق ملفها. و بعدما التفت جموع شعبية ومن مختلف المشارب حول قضاة الاستقلال وحركتهم، وفي القلب ما أصبح بمثابة بيت الأمة المصرية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أي نادي قضاة القاهرة برئاسة المستشار زكريا عبد العزيز، أطال الله عمره ومتعه بالصحة.
وفي الأفق كانت تلوح معركة أخرى أعمق سرعان ما بدأت حول تعديل مشروع السلطة القضائية بين تأييد الاستبداد والفساد وتزوير الانتخابات العامة وتبعية القضاء والقضاة للسلطة التنفيذية والسياسية، وبين كل من يقاوم ويأمل في مصر مختلفة وعصرية تتطلع للمستقبل، وقد التفت نخب سياسية حول حركة القضاة من أجل استقلال القضاء المتحصنين بمواقعهم المنتخبة في نواديهم، ومدافعين أيضا عن استقلالها.
المستشار الخضيري، الذي كان يبلغ من العمر وقت إجراء هذا الحوار 66 عاما، كان قد أصبح في صدارة حركة استقلال القضاء، والتي باتت جماهيرية شعبية على نحو لم يعرفه تاريخ مصر، وعلى خلاف طبيعة القضاة المحافظة المنعزلة عن الناس. وربما كان يمثل في هذه الفترة جناح الصقور داخل الحركة، فقاد اعتصاما دام لنحو شهر بمقر نادي قضاة مصر بالقاهرة.
وإعادة نشر هذا الحوار الطويل معه اليوم، بمناسبة وفاته، يحمل إلى مصر والمصريين صيف 2024، ما ليس بعيدا عن الحاضر والمستقبل. وهذا فضلا عن كونه بمثابة شهادة على مرحلة مهمة في تاريخنا.
.. وهذا الحوار المنشور في عدد 31 مايو 2006 بجريدة "الوقت" البحرينية التقدمية، والتي كنت أراسلها من القاهرة بين 2006 و 2010. وللأسف اختفى الموقع الإلكتروني للجريدة بشبكة الإنترنت، وإن مازال أرشيفها الورقي باقيا، وماكتبت لها بأرشيف يحفظة حاسوبي الشخصي.
وأظن أن أعدادها خلال هذه السنوات البعيدة تحتفظ بتوثيق لابأس به لحركة استقلال القضاة وغيرها من ملامح مصر ماقبل ثورة يناير، عبر ما كتبت إليها من القاهرة ونشرته بها في البحرين.
وقد أصبحت الجريدة بدورها فصلا أو بالأحرى فاصلا في تاريخ استثنائي للبحرين ومنطقة الخليج وصحافتها بأسرها، وحيث سمح هامش من الحريات، بإصدراها جريدة يسارية تحررية تلتزم المهنية وبإخراج فني متقدم. وقد طرحت بجرأة العديد من القضايا المحرمة لليوم بالخليج والعالم العربي عموما. وهذا بفضل مبادرة شخصيات يسارية لاتنسى بين أهل البحرين، يتقدمهم: النائب البرلماني (في مجلس شورى البحرين) حينها الأستاذ "إبراهيم بشمي" ، وكذا الدكتورة "خولة مطر"، والتي خلفته في رئاسة تحرير الجريدة.
.. وإلى نص الحوار:
المستشار الخضيري رئيس نادي قضاة الاسكندرية :
خرجنا إلى وسائل الإعلام واختلطنا بالناس فسمعوا صوتا كان حبيس الغرف المغلقة
- أخشى على مصر من الفوضى وأتمنى ألا نصل لدفع الشعب للخروج عن طيبته ومسالمته جراء الاحساس الشديد بالظلم
- عندما تمارس السلطة التزوير لا يحق لها محاسبة المزورين
- القضاة بكوا من التزوير في الاستفتاء علي المادة 76
الإسكندرية ـ كارم يحيي
عندما يكتب المؤرخون هذا الفصل من معركة استقلال القضاء الجارية في مصر الآن، حتما سوف يبدأون من مقر نادي قضاة الاسكندرية في "بوكلي" و مع يوم18 مارس (آذار) العام 2005. وسوف يتوقفون أمام الكلمة التي ألقاها رئيس النادي المستشار محمود الخضيري، وقد كشفت وأدانت علي نحو غير مسبوق في تاريخ القضاة والسلطة في وادي النيل وربما في العالم العربي عورة تزوير الانتخابات العامة. وعندما سيأتي ذكر أول اعتصام للقضاة المصريين استمر في مقر ناديهم بالقاهرة لنحو شهر كامل في صيف 2006 قد يعثر المؤرخون المدققون علي مكاتبة سبقته بعث بها المستشار الخضيري (66 عاما) من الاسكندرية إلى المستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي قضاة مصر في القاهرة، بادر فيها بالفكرة قائلا: "سآتي بحقيبتي إلى القاهرة لأبدأ الاعتصام احتجاجا علي تحويل القاضيين محمود مكي وهشام البسطويسي إلى مجلس التأديب"، لمطالبتهما بالتحقيق في وقائع تزوير الانتخابات العامة الأخيرة والاتهامات الموجهة لقضاة بالتورط فيها.
و في لحظة بدت القاهرة و كأنها من حول نادي قضاة مصر تلتقط الأنفاس ليس إلا، ذهبت "الوقت" إلى نادي القضاة في الاسكندرية للحوار مع المستشار "الخضيري" حول جذور الأزمة وآفاقها .
الإسكندرية .. وبداية القصة
* لماذا بدأت حركة استقلال القضاء من الإسكندرية هذه المرة؟
ـ منذ جئت إلى الاسكندرية قادما من طهطا بالصعيد في أوائل السبعينيات وجدت في الحياة هنا نوعا من الوعي واليقظة والتطلع إلى الأفضل. وبالنسبة للقضاة كان ولايزال هناك نسبة مهمة بينهم حريصة علي الشأن العام ويعملون به. وأذكر أن الشرطة في الثمانينيات أعدت مشروع قانون يفوضها محاكمة المنتسبين لها وألا يحاكمون امام قضاء عادي، فبادر نادي الإسكندرية إلى عقد جمعية عمومية للتصدي لهذا المشروع وتلاه نادي قضاة مصر في القاهرة. وفوجئت الداخلية والحكومة بهذه الوقفة من القضاة، ووئد القانون في المهد.
لعلها المصادفة هذه المرة دفعت بالإسكندرية لأن تكون في مقدمة معركة استقلال القضاء. فقد كان لدينا في مارس (آذار) 2005 جمعية عمومية لمناقشة تعديات وقعت ضد القضاة أثناء عملهم، ثم تطور النقاش، واتسعت الرؤية إلى الأصول، فهذا التعدي ليس فرديا، بل بالأصل ناجم من إضعاف اعتبار القضاء عند الناس، فهو غير كامل الاستقلال وينسب إليه تزوير الانتخابات.
وفي هذه المناسبة كان من الواضح أننا مقبلون علي ثلاثة اختبارات: الاستفتاء علي تعديل المادة 76 من الدستور .. وانتخابات رئاسة الجمهورية .. فالبرلمانية. وهكذا بدأ القضاة في الربط بين الإشراف علي الانتخابات وضماناتها وبين الرغبة في استقلال القضاء ومكانة القضاة. وتولدت القناعة بأننا لن نكسب احترام الناس إذا قبلنا أن يعلق بسمعتنا تزوير الانتخابات. وفي هذه الجمعية بالإسكندرية قلتها بوضوح: "الانتخابات كلها جري تزويرها.. وكلما اعترضنا وطالبنا بمزيد من الإشراف القضائي زادوا لنا مكافآت الإشراف علي الانتخابات حتى نسكت".
بالطبع كنا قد فرحنا نحن والشعب فور صدور حكم المحكمة الدستورية في عام 2000 بضرورة الإشراف القضائي الكامل علي الانتخابات (برئاسة القضاة للجان التصويت الفرعية لا الرئيسية وحدها) احتراما لنصوص الدستور، إلا أن السلطة التنفيذية بما لها من سابق إصرار علي تزوير الانتخابات بدأت تعبث بإرادة القضاة.
من قبل كانت مكافأة الإشراف 10 جنيهات (أقل من دولارين اثنين)، وبعد العام 2000 زادوا المكافأة إلى ألوف الجنيهات بهدف إغراء القضاة. وعندما وصلنا إلى أعتاب ثلاث عمليات انتخابية في العام الماضي، اتضحت الرغبة القوية لدي قطاع كبير من القضاة لتجنب الإشراف عليها. وماحدث أننا بعدما عقدنا جمعيتين عموميتين في الاسكندرية، دعونا نادي القضاة في القاهرة بوصفه ممثلا لكل القضاة المصريين إلى عقد جمعية عمومية طارئة للنظر فيما توصلنا إليه (جرت في 13 مايو /آيار 2005). والحقيقة اتضح من الإسكندرية إلى القاهرة أن القضاة يعيشون يقظة كبري.
قاض مهيب يبكي
* ماهي خبرتكم المباشرة مع الانتخابات؟
- معلوماتي التاريخية انه قبل ثورة 1952 كانت الانتخابات غير نزيهة مائة في المائة. لكن كان العبث بها ليس بالوضوح الذي عرفناه بعدها. علي سبيل المثال في أواخر الستينيات كنت أشرف علي الانتخابات في محافظة الدقهلية. وبالطبع كان القضاة يشرفون على اللجان الرئيسية فقط، وتتجمع عندهم نتائج اللجان الفرعية التابعة. وفي ذلك الحين كنت وكيلا للنيابة وأعاون القاضي في الإشراف. وكان هذا القاضي معروفا بشخصيته القوية المهيبة في المحاكم. وأبلغنا مأمور الشرطة بأن الانتخابات مزورة لحساب اشخاص معينة مشهورين بالفساد. ولن أنسي حتي الآن هذا القاضي الجليل وقد وجد نفسه عاجزا عن منع التزوير فأصيب بحالة مرضية وأخذ يتقيأ، وهو في طريقه إلى الفرز، نظر إلى باكيا ، وقال : " بالطبع ستحتقرني؟".
هذا المشهد لا ينمحى من الذاكرة، وكأنني أراه أمامي حتى هذه اللحظة ممزوجا بالاحساس بالقهر. ولك أن تتخيل معني أن يشعر الرجل الموكل إليه تحقيق العدالة وإعطاء الحقوق لأصحابها بالقهر. وفي رأيي إنه منذ الثورة لم تجر انتخابات نزيهة، إلا تلك التي أجريت عام 1976 في عهد الرئيس أنور السادات ورئيس الوزراء ممدوح سالم، فجاءت بنحو 19 نائبا معارضا سرعان ما ضاق بهم السادات فحل المجلس وأسقطهم في إنتخابات عام 1979 بعد تزويرها.
* كيف تنظرون كقاضي نقض إلى أحكام أصدرتموها ببطلان عضوية نواب ظلت لا تنفذ بحجة ان" مجلس الشعب سيد قراره"؟.. ( في مجلس 2000 /2005 حكم القضاء المصري ببطلان عضوية نحو مائتي نائب من أصل 444 نتيجة وقائع تزوير ومخالفات ثابتة) .
- هذه منظومة متكاملة من عدم احترام القضاء. وللأسف السلطة السياسية لا تحترم القانون بصفة عامة، وبالتالي لا تحترم ما يصدر عنه من أحكام. والملاحظ أن السلطة السياسية تتعامل مع أحكام القضاء إنتقائيا، تنفذ ما يأتي في صالحها وما ترضى عنه، وتمتنع عن غير ذلك. وهذا ما حدث بالنسبة لأحكام صحة عضوية أعضاء البرلمان. وهذا الأمر يجعلني أنتهى إلى أن سلطة الدولة التي تمارس التزوير كيف لها محاسبة من يزور؟ فدولة عندما لا تحترم القانون لا ينبغي لها معاقبة من لا يحترمه. وامتناع السلطة المعنية عن تنفيذ الاحكام بالقطع دعوة للاستهانة بالقانون.
وبالنسبة لي شخصيا أصدرت احكاما كثيرة لم ينفذها مجلس الشعب.. وفي كل مرة أشعر بالمرارة والإهانة، وبأننا لسنا في دولة القانون، دولة محترمة. واعتقد أنه لايوجد مجلس شعب منذ عرفت مصر الطعون الانتخابية إلا وأبطل ثلثه.
* عاصرتم "قانون السلطة القضائية" لعام 1972، وكان هناك من قبل" قانون استقلال القضاء" لعام 1943. وكقاض مخضرم: هل تري أن حال القضاء المصري في علاقته مع السلطتين التنفيذية و التشريعية في تقدم أم تراجع؟
- بالاساس كسب القضاء الكثير من الضمانات في الفترة السابقة. علي سبيل المثال في الأربعينيات كانت الحصانة القضائية قاصرة علي القضاة وحدهم دون رجال النيابة، ويشترط مضي أربع سنوات كي يتمتع بها القاضي. وكافحنا حتى حصل القاضي على الحصانة فور التعيين. ثم كافحنا مرة اخري حتى امتدت إلى النائب العام وجميع أعضاء النيابة.
وأضرب مثلا آخر يتعلق باستقلال موازنة القضاء، فلا زلنا نكافح من أجلها منذ سنوات طويلة، مع أن هيئات تتمتع به منذ سنوات كمجلس الشعب والجهاز المركزي للمركزي للمحاسبات (جهة رقابية). ولعلني أشير هنا إلى أنه فى الأزمات كما هو الآن يجري منع المال عن نوادي القضاة كوسيلة ضغط.
وعموما هناك تقدم، لكن يلاحظ إننا لا نحصل عليه إلا بعد كفاح مرير، وأن السلطة التنفيذية تعتبر أن كل خطوة في اتجاه استقلال السلطة القضائية انتقاص وخصما منها، ما يعكس رغبتها في السيطرة والهيمنة على القضاء. فهي تشعر أن أي قرار تصدره يمكن أـن تلغيه السلطة القضائية. والسلطة التنفيذية على هذا النحو تنظر الى القاضي المستقل علي إنه يقيد حريتها المطلقة في التصرف خارج القانون. بالطبع هناك تقدم لكنه بطئ وعسير جدا.
المشاركة والمقاطعة والإشراف
* هل ندمتم علي التراجع عن قرارات سابقة لنوادي القضاة بالامتناع عن الاشراف على الانتخابات طالما لم تتوفر ضمانات الاستقلال؟
- عندما بدأنا الحديث عن الإشراف التام علي الانتخابات كنا متحمسين للغاية. وكان هناك أمل في الاستجابة لمطالبنا، بما في ذلك إصدار القانون الجديد وفق مشروع النادي. أبدينا مرونة واشتركنا في الإشراف علي الاستفتاء علي تعديل الدستور. وكان هذا اختبارا مهما راقبنا فيه مايجري، وخرجنا منه بأن الاستفتاء مزور يقينا، وفضلا عن عيب تعديل المادة 76.
.أنا في الإسكندرية مثلا في يوم الاستفتاء كان لدي نحو 80 قاضيا يبكون تأثرا من التزوير، وكتبوا إلى بمذكرات عن النتائج الحقيقية. ولمسنا مع مراقبة الاستفتاء العيوب بأيدينا، وقلنا قولا صادف الصدق والواقع. ولم يستطع أي كان أن يتحدي ما توصلنا إليه.
(انتهت لجنة من نادي قضاة مصر إلى تقرير يفيد بأن المشاركة في التصويت لا تتجاوز 3 بالمائة، فيما ذهبت الأرقام التي أعلنتها وزارة الداخلية أنها تتجاوز الخمسين بالمائة من مجموع الناخبين).
و بدأنا نتساءل: هل المشاركة أم المقاطعة أكثر جدوي؟ فضلا عن أن المقاطعة في النهاية تعد تخليا عنتكليف أسنده لنا الدستور، والدستور هو الشعب.
وجاءت الانتخابات الرئاسية، وهي بالقطع معيبة بداية باستبعاد المرشحين إلى نهايتها. ولعل أخطر عيوبها تلك القرارات "الإلهية" لرئيس اللجنة المشرفة والمحصنة من كل طعن (رئيس المحكمة الدستورية العليا). لكن يظل السبب الرئيسي في التراجع عن المقاطعة هو الاعتبار العملي. إذ كان يمكن ببساطة للسلطة التنفيذية أن تستغني عن المقاطعين معتمدة على جهات كهيئة قضايا الدولة وغيرها ( نحو 5 او 6 آلاف لهم نواد مستقلة لم تقرر المقاطعة)، وكذا نحو ألف قاض كان مرجحا ألا يلتزموا بقرار ناديهم (أعضاء النادي نحو 9 آلاف نصفهم تقرييا من وكلاء النيابة).
بالفعل من الناحية العملية كان يمكن للسلطة التنفيذية أن توفر 8 آلاف مشرف، خصوصا أن الانتخابات البرلمانية تجري علي ثلاث مراحل.
لم يكن هذا تراجعا، أو صفقة بل مجرد حسابات عملية. وما حدث بعد ذلك يفيد بأن مشاركتنا كشفت حجم التزوير، وأسهمت أيضا في حماية أصوات الناخبين.
* بعد المحاكمة التأديبية للمستشارين البسطويسي ومكي وقد جرت على خلفية التصدي لتزوير الانتخابات، هل تعتقدون أن اتجاه المقاطعة بين القضاة أصبح أقوي؟
- هذه كانت في رأيي أشبه بمحكمة دنشواي (تعكس لدي المصريين الظلم باستخدام القضاء لصالح الاحتلال البريطاني عام 1906). لكني أرى أن الاتجاه للمقاطعة أصبح بالفعل غير وارد رغم كل ما حدث.
الخلاف مع المجلس الأعلى
* الرئيس حسني مبارك طالما قال بأن المشكلة هي بين القضاة أنفسهم؟
- نسبة القضاة المؤيدين لمشروع النادي لقانون استقلال السلطة القضائية تفوق الثمانين في المائة. وقد انعكس ذلك في انتخابات نادي قضاة مصر في مارس (آذار) الماضي (2006) ، ففازت قائمة المستشار زكريا عبد العزيز كاملة، وبهذه النسبة. وأقول لمن يدعون أن القضاة منقسمون أليس النظم الديموقرطية تقوم على الأغلبية؟ حقيقة لا أريد ان أضعهم في مواجهة أو حرج مع رئيس الجمهورية، وأسأل: إذن بأية نسبة فاز رئيس الجمهورية؟ ( وفق الأرقام الرسمية التي تطعن المعارضة في مصداقيتها حصل الرئيس مبارك علي 23 في المائة من إجمالي أصوات الناخبين).
* لكن بدا أحيانا أننا ازاء أزمة لها بعد شخصي أيضا، وتحديدا بين رئيس مجلس القضاء لأعلى المستشار فتحي خليفة وبين المستشار زكريا عبد العزيز رئيس نادي قضاة مصر. وربما انعكس هذا البعد في الخطاب الذي أرسله الأخير الى الرئيس مبارك قبيل الجلسة الاخيرة الحاسمة في محاكمة المستشارين مكي والبسطاويسي .. ما رأيكم؟
- قبل ان تبدأ معركة استقلال القضاء كان المستشار فتحي خليفة علي رأس محكمة النقض. وبالفعل نشب بيننا وبينه خلاف بسبب ما نراه من محاولة الهيمنة علي النادي. وبصراحة الرئيس السابق لنادي قضاة مصر (المستشار مقبل شاكر) صديق حميم وتوأم الروح للمستشار خليفة، وفور إخفاق المستشار شاكر في انتخابات النادي أمام المستشار زكريا ثارت ثائرة الرجلين. وكان المستشار شاكر قد ظل رئيسا للنادي لعشر سنوات متتالية جعل خلالها النادي جثة هامدة، وأوقف أي مطالبة باستقلال القضاء.
ولقد بدأ الحراك بين القضاة فعليا بعد انتخاب المستشار عبد العزيز في القاهرة، وتلاه انتخابي في الإسكندرية. لكن نجاح المستشار عبد العزيز كان منفردا فمجلس الإدارة أغلبيته الساحقة ضده. وبمناسبة تجديد ثلث الأعضاء في نادي مصر (مارس الماضي 2006 )، قرر المجلس بأغلبيته، وبفتوى من المستشار خليفة بوصفه له الحق في رئاسة الجمعية العمومية، إجراء الانتخابات للمجلس كله والرئيس، وبهدف التخلص من المستشار زكريا عبد العزيز. الا أن قائمة الإصلاح برئاسته اكتسحت، وجاءت النتائج على عكس ما سعت إليه السلطة التنفيذية والمستشار خليفة. وأظنها كانت لطمة شديدة دفعت الأمور إلى التصعيد.
وكان الانتقام قد بدأ بـ "تنبيه" المستشارين أحمد مكي وحسام الغرياني بسبب ما أبدياه من رأي في إحدي الجمعيات العمومية. وتحددت المواقع عندما رفعنا في ربيع 2005 شعار مقاطعة الانتخابات إذا لم تتوافر ضمانات الإشراف القضائي التام، فخرج مجلس القضاء الأعلى على الفور ببيان يقول أن القضاة مستعدون للإشراف دون قيد أو شرط.
وهكذا بدأت الحكومة تنضم إلى مجلس القضاء ضدنا. وربما وجدتها فرصة كي تقضي علي نادي القضاة بايدي زملاء. وكأن الحكومة أرادت تدبير مذبحة للقضاة علي أن تغسل يدها منها، فالمذبحة تجري بالاستعانة بأيدي قضاة أيضا. وليس أكثر دلالة علي هذا التدخل الحكومي من حشود الأمن التي احاطت بالنادي وبمحاكمة المستشارين البسطويسي ومكي.
وأود ان أسأل الحكومة لماذا استفزها هتاف المواطنين العزل: "يا قضاة خلصونا من الطغاة" ، فتعدى الأمن على المواطنين بالضرب والسحل والحبس. بل جرى الاعتداء علي القضاة أنفسهم، وعلي باب ناديهم وبمحاصرة النادي.
وبلا شك فإن النزاع بدأ داخل أوساط القضاة أنفسهم، لكنه انتهى إلى سلطة تريد التخلص من النادي، لأنه تسبب لها في هذا "الصداع"، وكشف تزوير الانتخابات.
* المستشار خليفة تنتهى مدته في رئاسة مجلس القضاء الاعلى بنهاية يونيو (حزيران) الجاري 2006 .. هل يتسبب ذلك في تهدئة الأزمة؟
ـ من المقرر أن يخلفه المستشار مقبل شاكر، إلا إذا تغير القانون قبلها، و جرى الأخذ بمشروع النادي المعد منذ عام 1991، ويتضمن تعديلا علي تركيبة المجلس الاعلى للقضاء وأسلوب تشكيله، وبما يعزز استقلالية القضاء .
* هل حل النادي تراه واردا، خصوصا تصريحات منسوبة للمستشار زكريا عبد العزيز حذرت مؤخرا من تكرار حل النادي، كما حدث من قبل في سابقة وحيدة عام 1969 (المعروفة بمذبحة القضاة)؟
- سنكون أمام خطر لا يقل عن الحل والمذبحة إذا جاءوا بنص في القانون الجديد يجعل النادي خاضعا وتابعا لمجلس القضاء الأعلى. ومنذ أيام استفسرت من سيادة النائب العام بوصفه عضوا في مجلس القضاء الاعلى، فأبلغني بما يفيد بأن المشروع المعد بعيدا عن النادي لا ينص صراحة على هذا الاخضاع. لكن هناك نص بأن "المجلس يتولي كل ما يتعلق بأمور القضاة"، ونص آخر يقول بأن "النادي شأن من شئون القضاة". وبذا يصبح النادي خاضعا بتشكيله الحالي لمجلس القضاء الاعلى.
وترجمة ذلك أنه لن تنعقد جمعية عمومية للنادي الا إذا رضي المجلس الاعلي. بل يمكن بجرة قلم إلغاء أي قرار للنادي. وهذا وضع بالغ الخطورة، وكلنا يعرف مدى خضوع المجلس الأعلى للسلطة التنفيذية، بينما لا يخضع النادي إلا لجمعيته العمومية، وهذا ما عززه حكم لمحكمة النقض.
وإذا ما نظرنا في مشروع قانون استقلال القضاء المقدم من النادي، فإننا نجد تأكيدا علي استقلاليته وتعزيزا لها. فمشروعنا يدعم وحدة نادي القضاة، بوصفه كيانا واحدا له أفرع متعددة.
* خلال محاكمة المستشارين البسطويسي ومكي كان هناك تلويح بإضراب جزئي في المحاكم.. هل تري أن اللجوء لهذا الإجراء وارد مستقبلا في مواجهة إصدار قانون لايضمن استقلال القضاء؟
- نحن حريصون علي مصالح المتقاضين، وعملنا مرتبط بالجمهور. وعندما لجأنا إلى الاعتصام في مقر النادي بالقاهرة حرصنا علي استمرار أداء أعمالنا ونظر القضايا. نحن حريصون على عدم تعطيل المحاكم، لكنني أعتقد أن كل شئ سيصبح واردا في حالة واحدة، وهي النص علي إخضاع النادي لمجلس القضاء الأعلي والهيمنة عليه. فآنذاك ستنشب معركة من غير المسبتعد استخدام كل الاسلحة فيها دفاعا عن استقلال النادي. و آنذاك قد يكون الضرر الناجم عن الإضراب أقل من القضاء على النادي.
الحكم أسعدنا ولم نساوم
* كيف ترون حصاد معركة المستشارين مكي والبسطويسي.. هل تشعرون بالانتصار؟ وهل الحكم ببراءة الأول وتوجيه اللوم للثاني حصيلة صفقة أو مفاوضات ما؟
- أنا لم أدخل في اي مفاوضات. صحيح إنني قابلت المستشار خليفة قبل الحكم بيوم واحد، ولكنني لم أساوم علي شيء. فقط طالبته بالتنحي عن نظر القضية، لأنه بات خصما وحكما في الآن نفسه. والحقيقة أننا فوجئنا بالحكم مثل كل المصريين، لأننا كنا نتوقع حتى اللحظة الاخيرة الأسوأ. هناك بالطبع نوع من السعادة، لكنها ممزوجة بالمرارة، لأننا كنا نتمني ألا تحدث هذه المحاكمة من الأصل.
* إذن بماذا تفسر صدور الحكم علي هذا النحو المفاجئ؟
- الأمور بالنسبة لهم لم تجر في أعنتها. وأعتقد أنهم فوجئوا بالمد الشعبي. ولم يكن في حسبانهم، إذ كانوا يعتقدون بأن بمجرد الإحالة إلى المحكمة التأديبية سنصاب كقضاة بالشلل التام رهبة وخوفا. لكننا أعلنا في اليوم التالي الاعتصام. والأمر الآخر هو المد الشعبي، ويقينا يعود إليه 90 في المائة في هذا التحول. لقد فوجئوا بالناس تخوض معركتها وتقف مع نفسها من أجل دولة ا.
بين القضاة والإخوان
* من الاتهامات أن بين القضاة ذوي ميول إخوانية أو إسلامية؟
- أولا من خرج تضامنا مع استقلال القضاء كلهم مواطنون مصريون. زارنا في النادي خلال الاعتصام كل طوائف الشعب، وبينهم وفد قبطي رفيع. وأنا شخصيا أدين بمستقبلي لزميل قبطي حمل إلى كتابا جامعيا نفد قبيل امتحان خضته في كلية الحقوق، وبعدما كنت قد يئست من النجاح في هذه المادة. وفي طفولتي بطهطا (حيث ولد رفاعة رافع الطهطاوي أحد اعلام النهضة المصرية في عهد محمد علي) لم نكن نعرف التعصب بأي حال. وأعتقد بأن ما شهدته الإسكندرية من أحداث بين المسلمين والأقباط ليست سوى أعمال دخيلة، لا أـستبعد وقوف إسرائيل وراءها. وإنني أتحدى أن يشار إلى حكم قضائي واحد أصدرته يشتم منه انحيازا للإسلاميين أو للإخوان. وطوال حياتي لم أنظر في أوراق اي قضية لأعرف هل هذا المدعي مسلم أم مسيحي؟ وأتحدي من يدعي إنني حدت عن الحقيقة والقانون في أي حكم أصدرته.
* لماذا إذن هذه الحملة الاعلامية التي تحاول الربط بين القضاة والإخوان؟
- ببساطة لأننا وقفنا ضد تزوير الانتخابات. نحن مع انتخابات نزيهة أيا من كان سيستفيد من هذه النزاهة. تطبيق القانون واحترامه لا يعرف إخوانا أو غيرهم، والقوانين لاتوضع تفصيلا وتشخيصا لصالح هذا أو ذاك. والقاضي ينظر القضايا بين مواطنين أولا وأخيرا. وأقول لمن يتهموننا تفضلوا وحققوا أولا في تزوير الانتخابات قبل التجني علي القضاة. هؤلاء يمسكون بالفروع ويتركون أصول المسائل.
قانون يتحرك في الخفاء
* هل تعتقد أن مشروع القانون الجديد سيقر قبل انتهاء هذه الدورة البرلمانية بحلول نهاية يونيو (حزيران) 2006؟
- أستبعد اللحاق بهذا الموعد.
* هناك حديث عن مشروعين أحدهما للنادي، والآخر يمثل السلطة التنفيذية مدعوما من مجلس القضاء الأعلى؟
- الغريب أن مشروعنا لدى مجلس القضاء منذ زمن. وفي الفترة الأخيرة قمنا بتوزيع مشروع النادي علي نطاق واسع. وإذا كان بالفعل هناك مشروع آخر، لماذا يحجبونه عنا، ويتحرك في الخفاء.. نحن نعمل في النور، فأين يعملون هم؟ وماذا يعدون؟
وحقيقة فإنني شخصيا لا أتمني أن يصدر القانون في هذه الظروف غير المطمئنة. ونحن كلنا في نادي القضاة نتمسك بعرض المشروع علينا قبل مناقشته في البرلمان.
* هل تعتقد علي ضوء ما مررتم به، نهاية بمحاكمة البسطويسي والمكي، أن مشروع النادي (1991) وبعدما أدخلتم عليه لاحقا تعديلات طفيفة يضمن بحق استقلال القضاء، أم أنه غير كاف؟
- المشروع بالطبع ليس مثاليا، لكنه يلبي الكثير من طموحاتنا في هذه المرحلة. ودعنا نتمني أن يصدر بالصيغة التي ارتضاها القضاة. وإذا ما تغيرت ظروف البلاد مستقبلا يصبح متاحا لنا المطالبة بالأفضل.
* هل كان بامكان رئيس الجمهورية أن يتدخل لتسوية أزمة المستشارين البسطويسي ومكي بوصفه رئيسا للمجلس الاعلى للهيئات القضائية (ويضم إلى جانب القضاة هيئات أخري)؟
- ليس لرئيس الجمهورية أن يتدخل في القضايا المعروضة علي المحاكم أو النيابة. ولكن ليس محظورا عليه أن يتدخل في خلافات بين الهيئات والمؤسسات.
* سادت توقعات بالإفراج عن مئات المحبسوين تضامنا مع القضاة فور الانتهاء من وقفتكم يوم 25 مايو، مالذي حدث؟ وما موقفكم من هذه القضية؟
ـ للأسف ما حدث هو العكس. نسمع كل يوم عن المزيد من المعتقلين. كقضاة نشعر بالحزن والظلم والقهر الذي يعيشه الناس ونتمزق. لكن هذا لا يكفى، وأتمنى أن يكون لنادي القضاة موقف أقوي في هذا الموضوع الذي يتعلق بالحريات. وألا نكتفي بما ورد علي لسان رئيسه وقادته من مطالبة رئيس الجمهورية بالإفراج الفوري عن المعتقلين والمحبوسين في أحداث التضامن مع القضاة.
وأود أن أوضح ان مثل هذه المواقف ليست بالجديد علينا. طالبنا في توصيات مؤتمر "العدالة" لعام 1984 بإلغاء حالة الطوارئ والإفراج عن المعتقلين. لكن كان صوتنا مازال خافتا فلم يسمعه الناس. وكنا نتكلم في غرف مغلقة فلم يعرف الناس ماهي مواقفنا؟. الآن خرج صوتنا إلى وسائل الاعلام، واختلطنا بالناس. وأصبح بالإمكان أن يسمعوا صوتنا ويعرفوا مواقفنا. والجديد أن صوتنا وصل بالفعل إلى الناس. وهنا فإن فضل وسائل الإعلام غير منكور.
طريق "التوريث"
* هل تعتقدون بأن المماطلة في استقلال السلطة القضائية له صلة بما يشاع عن "سيناريو التوريث"؟
- نحن في ظل نظام جمهوري، وهذا النظام لا يعرف التوريث. وما يحدث الآن في رأيي هو رسم طريق لا يتسع إلا لشخص واحد فقط. وهذا هذا هو التزوير أيضا. لكن الأمر يختلف، حتى لو ترشح جمال مبارك، إذا ما جرى تعديل المادة 76 من الدستور لتتسع فرص الترشيح لانتخابات الرئاسة، وعلى أن تجري الانتخابات من دون تزوير. وأود أن أقول إن سيناريو الطريق الواحد والاستمرار في تزوير الانتخابات غير مقبول. فالسيناريو المرسوم كما يلحظه الناس يؤدي لانتقال السلطة بغير الطريق القانوني. وما يحدث يدعونا للتنبيه مجددا إلى أـن تزوير الانتخابات طامة كبري يجب أن تتوقف.
* ظهرت توقعات أخيرة بإبعاد القضاة عن الانتخابات تماما، وتشكيل هيئة خاصة للإشراف عليها، وبدعوي أن مشروع نادي القضاة ليس محل اتفاق بين كل القضاة، وبزعم أن القضاة أضيروا معنويا من أعباء الانتخابات؟
- أولا لا يوجد شئ محل اتفاق تام، وحتى الأنبياء اذا افترضنا أنهم ترشحوا في الانتخابات فلن يكونوا محل اتفاق أو إجماع. دعنا نحتكم إلى الأغلبية وحكمها، وهو ماتحقق لمشروع نادي القضاة وبنسبة كبيرة، أم إنهم يريدون للأغلبية أن تنصاع للأقلية.
بل دعني أقترح أن ينظم استفتاء حر بين الشعب (غير مزور هذه المرة)، تجريه جهة موثوقة ومحايدة ولتكن الأمم المتحدة، حول استقلال القضاء، وضمانات نزاهة الانتخابات، ما داموا قد جرأوا علي الحديث عن الأغلبية والأقلية.
للأسف، المسؤولون في مصر حتي الآن يحاولون إقناع أنفسهم بأن المطالبين بالإصلاح والتغيير قلة لا يعمل لها أي حساب، وبأن الغالبية العظمي تسبح في الخير وتنعم بالاستقرار والرخاء، ومصر جنة الله في ارضه. وهذا الكلام بالقطع يخالف الواقع، ويجب أن نعود إلى مرجعية في الحكم علي الوضع القائم. ولنحدد كم حجم المتضررين من هذه الاوضاع؟ كي نتحرك قبل أن يأتينا الطوفان وننشغل به.
وبحق فإنني أخشي على مصر من الفوضي، وأتمنى ألا نصل إلى حد دفع هذا الشعب للخروج عن طيبته ومسالمته تحت وطأة الاحساس الشديد بالظلم. هذا الاحساس الذي بدأ في التنامي بالفعل يولد الثورات.
* كيف تعلقون علي التضامن العربي والعالمي مع تحرك القضاة من أجل الاستقلال والانتخابات النزيهة؟
ـ بطبعي لا أراهن إلا علي الشعب المصري، ليتضامن من يريد أن يتضامن، وهذا محل تقدير، لكن لنعتمد علي أنفسنا وشعبنا.
--------------------
حوار: كارم يحيى