الأديبة التونسية مديحة جمال من شباب الأدباء في تونس.. متعددة النشاط؛ فهي إعلامية عملت لفترة في قناة الجنوبية، كما عملت بالصحافة الأدبية فنشرت المقالة الصحفية والنقدية والقصة بالعديد من الصحف والمجلات التونسية والعربية، كما عملت بتدريس اللغة العربية بالمدرسة الكندية بتونس.
هي من مواليد مدينة قابس عام 1989، وأحبت الأدب منذ صباها المبكر؛ فكتبت الشعر، ثم كتبت الخاطرة، ثم تخصصت بعد ذلك في كتابة القصة القصيرة، وكانت واسعة الإطلاع فاطلعت على الآداب العربية والغربية وطعم هذا التلاقح الفكري والحضاري منجزها الإبداعي وصارت تمتلك أدواتها وتحسن استخدامها بدقة.
صدر لها مؤخراً مجموعتها القصصية "الوجه والكارما وقصص أخرى"، وقد استقبلها القراء والنقاد على السواء بحفاوة بالغة، وتم الاحتفاء بها في معرض تونس الدولي للكتاب 2024، وتم الاحتفاء بها أيضا في هيئات ثقافية أخرى في تونس...
أردنا أن نقترب منها أكثر وهرعنا إلى دوحتها ومملكتها الأدبية لكي تحدثنا عن النشأة وكيف كان لها الأثر في مشوارها الأدبي والفكري، كما حدثتنا أيضاً عن رحلتها مع الكتابة، وكيف وفقت بين الإبداع وأعمالها الأخرى في الإعلام والصحافة والتدريس، وأثر البيئة في أعمالها الإبداعية وموضوعات أخرى سنطالعها من خلال هذا الحوار:
*كيف كان للنّشأة أثرها في حياتك الأدبيّة والإعلاميّة بعد ذلك؟
- العلاقة بين الكاتب وبيئته علاقة متداخلة لا يمكن الفصل بينهما أو كما يقول النّاقد الفرنسي بول ريكور "أنا سرديّة فحسب"، فنحن إذ نكتب فإنّنا نصوغ الحبكة حول ما مررنا به من تجارب أو من خلال تفاعلنا مع تجارب الآخر.
لا يمكن للكاتب أن يعيش في برجه العاجي يطلّ على العالم من الأعلى فيبارك الحياة أو يلعنها حسب مزاجه، ذلك أنّ العزلة قد تجعل نصّه منبتّا وهو ما يجعل من الكتابة في أحد أبعادها فعل مواجهة لموروثنا، لذاكرتنا، لمأساتنا الشّخصيّة والانسانيّة، وإنّي هنا أضمّ صوتي للأديب المغربي محمّد شكري في رائعته "الخبز الحافي" حين قال: "لولا الخيال لانفجرت".
نشأت في مدينة صغيرة في الجنوب التّونسي تسمّى "وذرف"، في بيئة منغلقة نوعاً ما، ليس لدينا سينما ولا مسرح ولا حتّى مكتبة تعرض على واجهاتها الكتب والإصدارات الجديدة... كان متنفّسي الوحيد هو المكتبة العموميّة الّتي كنت أنهل من رفوفها بشراهة كبيرة فتصبح قريتي كبيرة لا حدود لها، وحين لاحظ المشرفون على المكتبة شغفي بالقراءة حيث قرأت كلّ العناوين المتوفّرة للأطفال مكّنوني وبشكل استثنائي من استعارة الكتب من قسم "الكبار"، وهنالك بدأت وأنا لم أتجاوز سنّ الحادية عشرة من عمري أقرأ للبشير خريّف وجعفر ماجد وأبو القاسم الشّابّي والطّاهر الحدّاد ولطه حسين وحنّا مينة والأخوين تيمور ومصطفى لطفي المنفلوطي ويوسف السباعي وميخائيل نعيمة وفيكتور هوغو(Victor Hugo) ، وألبير كامي(Albert Camus)، وإيميل زولا (Emile Zola) ، ومولييار(Molière) ، وغيرهم ...
وهناك اكتشفت متعة القراءة وسحرها وقدرتها العجيبة على كسر الحواجز وعلى خلق "التعاطف" مع الشخصيات ومحاكاتها وقدرتي على أن أكون في أمكنة وأزمنة مختلفة ولكن في نفس الوقت سكنني سؤال مقلق: من يسرد القصص اليوم؟ هل هنالك كتّاب يكتبون قصصا وروايات مؤثّرة؟ هذا العالم الممتلئ بالقصص من يكتب قصصه التي لا تحصى؟ كانت تتملّكني رغبة كبيرة في الإجابة عن هذه الأسئلة وصرت أتوق لمغادرة القرية نحو المدينة من أجل كتاب جديد علّه يطفئ نيران الأسئلة التي تشتعل في داخلي، ولأنّ تحقيق ذلك يحتاج إلى الزّمن أي يتطلّب أن أكبر وأتمكّن من الدّخول الى الجامعة، فقد وجدتني أكتب: أكتب القصص المنفلتة هنا وهناك أحاول أن أكسّر بالكتابة جدران العزلة المحيطة بقريتنا، وبدأت بكتابة الخواطر والشّعر ثمّ انتهيت الى السّرد ...
ولأنّني مسكونة بالحكايات لم أكتف بالقراءة والكتابة فقط، بل وجدتني بعد دراستي الجامعيّة أخوض تجارب اعلاميّة من خلال كتابة المقالة في عديد الصّحف والمجلّات العربيّة، وتجربة تقديم برنامج حواري مباشر يومي تحت عنوان "تونس اليوم"؛ يتناول المستجدّات اليومية في المشهد التونسي والذي عرف ديناميكيّة كبيرة إبّان الثّورة وبرنامجاً ثقافياً تحت عنوان "المجلّة الثّقافيّة"؛ وهو برنامج يرصد المستجدّات في السّاحة الثقافية.
*متى بدأت الرّحلة مع الكتابة؟
- أوّل نصّ كتبته كان نصّاً شعرياً وأنا في سنّ الثانية عشر، وشاركت به في ملتقى أدبي محلّي في قريتي "وذرف"؛ حيث كنت انشط في نادي أدبي يشرف عليه مدير دار الثقافة – آنذاك - الشاعر صابر بالعالية، وكان الاتجاه الغالب في ذلك الوقت هو الرّمزيّة، وكنت أعاني من هذا التّوجّه في الشّعر باعتبار أن الرّمزيّة التي اشتغلنا عليها في النادي كانت موغلة، وأحسست بأنّها حوّلت النّصّ إلى متاهة، وكان ذلك منافياً لما أتمثّله بشكل حدسيّ حينها لمفهوم الرّمز في الشّعر باعتباره أداة لتكثيف الصّورة.
سنوات كنت خلالها أراوح بشكل سرّي في الكتابة بين الخاطرة والقصّة، ثمّ شاركت في سنة 2010 لأوّل مرّة في مهرجان أدبي وهو مهرجان قليبيا لأدب الشّبّان، ومن هناك بدأت أتخصّص - إن صحّت العبارة - في الكتابة السّرديّة، وبدأت رحلتي مع المشاركة في المسابقات الوطنيّة، وفوزي فيها بالمرتبة الأولى كالملتقى الوطني للأدب التّونسي بدار الثقافة الورديّة 2013، ومسابقة القصّة القصيرة بالنّادي الثّقافي الطّاهر الحدّاد 2014، وملتقى القصّة القصيرة، والمقال الأدبي بجامعة منّوبة2014....
*عملت مديحة جمال في أكثر من مجال ولكن أخلصت للسّرد.. جهودك في هذا المجال وكيف استقبل النّقّاد باكورة أعمالك؟
- مهما أخذتني دروب الحياة كنت دائماً أعرف هويّتي، لديّ ايمان ثابت بأنّني خلقت لأكون كاتبة متمرّدة. فالكتابة بالنّسبة إليّ كالنّضال هي فعل يومي وكما قال ماركيز (Gabriel Garcia Marquez) "عشت لأروي" أنا أيضاً أعيش لأروي.. باحثة عن البدايات في زمن فلسفة النهايات وهشاشة الفرد ومحنة الإنساني أكتب انتصارا للإنسان والحياة.
فكما يقول محمود درويش:
"من يكتب حكايته يرث،
أرض الكلام، ويملك المعنى تماما".
*كيف وفّقت بين الابداع والكتابة النقديّة والعمل في الاعلام والصّحافة؟
- إنّك هنا كأنّك تسألني كيف وفّقت بين القدرة على المشي والقراءة والتّنفّس... هذه المدارات هي المدارات التي تدور حولها حياتي وأضيف إليها التّدريس بحكم أنّني أدرّس مادّة العربيّة والعلوم الانسانيّة اليوم.
إنّ من يحمل مشروعا يناضل من أجله لا يمكن إلّا أن يعمل وبشكل يومي حتّى يرى النّور "فمن يتهيّب صعود الجبال يعش أبد الدّهر بين الحفر" (أبو القاسم الشّابّي).
*حدثينا عن ملامح الأدب في تونس اليوم؟
- تشهد السّاحة الأدبيّة في تونس اليوم ديناميكيّة مهمّة خاصّة بعد الثّورة، فمساحة الحريّة والدّفاع عنها والقلق من فقدانها خلق تجديداً في مستوى المواضيع المطروحة وآليّات الكتابة وحتّى في اللّغة في حدّ ذاتها إضافة الى ما تشهده حركتي النّقد والتّرجمة من اضاءات.
المشهد الإبداعي التّونسي كأنّه ينقسم إلى أجيال أدبيّة مثال المدرسة القيروانيّة وفيها مثلاً منصف الوهايبي، وجميلة الماجري، ومسعودة بوبكر، وفتحيّة الهاشمي، ومحمّد الغزّي -رحمه اللّه- الذين ينتمون إلى جيل يسبق جيل التّسعينات، أضف إليهم عدّة أدباء تميّزوا في تلك الفترة ومنهم: فوزيّة العلوي، ومحمّد عيسى المؤدّب، وفتحي النّصري ... هذا وتميّز أدباء التسعينات خاصّة في مجال الشّعر، والرّواية، والقصّة، أمثال: حافظ محفوظ، وعبد الفتّاح بن حمّودة، والشّادلي القرواشي، وفاطمة بن محمود، ومحمّد النّجّار، ونزار شقرون، وجمال الجلاصي، ومجدي بن عيسى، ونصر سامي، وعادل المعيزي، وإيمان عمارة، وفاطمة بن فضيلة، وفاطمة عكاشة، وسلوى الرّابحي وغيرهم.. برزت نصوص أدبيّة جديدة اليوم مثال: محمّد الفطّومي، وسفيان رجب، وسميّة اليعقوبي، ومحمّد عيسى الجابلي، وشفيق الطارقي، ومحمّد العربي...
وأمام ثراء التّجربة الابداعيّة التّونسيّة صدرت العديد من الكتب والدّراسات النّقديّة التي تسعى إلى التّعريف بالأدب التّونسي، ومن بينهم نذكر محمّد صالح بن عمر، ومحمّد المي، وسمير السحيمي، ومراد ساسي، وبشير الجلجلي، وأحمد بن براهيم.
*ما الموضوعات تحدّثت عنها في مجموعتك القصصيّة وأثر البيئة فيها؟
- تحمل مجموعتي القصصيّة عنوان "الوجه والكارما وقصص أخرى"، وهي صادرة عن دار البياتي للنّشر والتّوزيع وتضمّ 15 قصّة قصيرة موزّعة على ثلاثة أجزاء حملت العناوين التّالية:
يا وجهي هل أشبهك؟، يا وجهي كم أشبهك!، وجوه عالقة.
وهي قصص كتبت بلغة شعريّة حالمة أحيانا وواقعيّة عنيفة أحيانا أخرى لمواجهة ما أعتبره قبح العالم. إنّها قصص تفتّش في الوجوه عن الأضداد المتصارعة فيها باحثة عن سرّ الكارما، باعتبارها ارتداد النوايا وأفعال الخير والشّرّ بمثلها على صاحبها، في حكاية كلّ وجه.
فقصّة "أحمر شفاه" تطرحأكبر المشكلات التي يعيشها الأزواج اليوم وهي مشكلة الإدمان على مواقع التّواصل الاجتماعي هذه المواقع التي أعتبرها "آكلة للبشر"، هذه المواقع التي أحدثت شرخاً عميقاً وفجوة كبيرة بين الزوجين بطلي القصّة الذين يمتلكان نمطين مختلفين لمفهوم البيت والحياة، فبعد أن يئست الزّوجة من فهم زوجها لها:
"اتّجهت إلى الحمّام وكتبت بقلم الكحل على مرآته:
"الحياة ليست رواية نقرؤها أو نكتبها ...
الحياة رواية نعيشها ...".
ونامت في "البانيو" نومة لا نهائيّة، بينما ظلّ يتابع تعليقات الأصدقاء حول قبّعته الرماديّة وكومة الرّوايات المستلقية بعهر ممثّلة إباحيّة على مكتبه.
أمّا قصّة "الخرافة" فهي ابنة الرّحلات اللاّ شرعيّة في أعماق البحر الأبيض المتوسّط، وهي مسألة حارقة في تونس.. في هذه القصّة تتدافع الذّكريات لتحاصر نرجس كما تحاصر الأمواج العاتية المركب المكتظّ بالهاربين من واقعهم المرير الى مستقبل مجهول.
تحدّث نرجس الدّكتورة المعطّلة عن العمل في علم الفيزياء نجمة أبيها وهي في عرض البحر قائلة:
"آسفة يا أبي لأنني فررت من حقل لا يشبهني، كانت قصصك تنسيني الواقع المرير، كنت ومازلت أصدّق حكاياتك عن الورود التي تتحوّل إلى نجوم مضيئة... فالعالم دونك لا معنى له، وها إني أراك نجمتي وقِبلتي وصرتُ أتبعكَ حيث تضيء... صعدتَ إلى السّماء تجاور نجمة أمّي وتركتَني في الحقل وحيدة، لا إخوة لي ولا بستانيّ يرعاني ويرعى الحقل ...
ازدادت الأمواج هيجانا وعلا الصّراخ في المركب.
كان صراخ الرّاكبين أكبر من قدرتها على التّحمّل... لم يكن صراخهم في أذنيها تعبيرا عن الخوف من الغرق في هذه اللّيلة الظّلماء وإنّما كانت تسمع صراخ أرواح معذّبة خذلها حقل لم يعد قادرا على إنبات الورود...
حاولت إغلاق أذنيها لكنّها رأت بعينيها كيف تحوّلت كلّ الرّؤوس أمامها إلى ورود مختلفة الألوان... كانت كلّها ورودا ذابلة وشعرت كأنّ أوجاع كلّ من عبر هذا البحر أو فنى فيه تخترق روحها... ازدادت سرعة الرّياح وحين رفعت رأسها إلى السّماء، وجدتها ممتلئة بالضّباب خالية من النّجوم ... ".
إنّ القصص في هذه المجموعة ابنة بيئتها بامتياز وإن كانت البيئة هنا لفظ جامع أريد أن أحيل به إلى الواقع الذي تعدّدت أساليب معالجته في هذه المجموعة من الكتابة المشهديّة السينيمائيّة إلى العجائبيّة والفانتازيا.
*ما أثر الأستاذ القدوة في حياتك؟
- في هذه المجموعة أهديت قصّة "الكارما" باعتبار رمزيّة العنوان الى أستاذي أستاذ اللغة العربيّة ماهر منّوبي، وهو أستاذ لغة عربيّة وموسيقيّ أيضاً.. كان يدرّسنا اللّغة العربيّة بشغف كبير وأذكر أنّه في تدريسه لنا لتجربة نزار قبّاني أقام لنا حفلاً موسيقياً صغيراً عزف فيه "قارئة الفنجان"، وأسمعنا إيّاها بصوت العندليب عبد الحليم حافظ، كان يعيد الجمل الموسيقيّة ويلفت انتباهنا الى العلاقة بينها وبين النّص.. لقد كان أستاذاً استثنائياً وشجّعني كثيراً على الكتابة آمن بموهبتي حتّى أنّ السّنين مرّت ولازال أثر دعمه لي موجوداً في حياتي وأنا أجلّه اجلال التّلميذ لمعلّمه وأحترمه كثيراً.
أمّا في عالم الكتابة فلقد قرأت تجارب ابداعيّة كثيرة ومختلفة منهما ماهو تونسيّ كتجربة البشير خريّف، وعلي الدّوعاجي، ومحمّد عيسى المؤدّب... وعربياً كطه حسين، ومحمّد شكري... وأجنبياً كبتريك زوسكيندPatrickSüskind صاحب رواية "العطر"،وارنيست هيمنغوايErnest Hemingway صاحب الشيخ والبحر، ونيكوس كازنتازاكي Nikos Kazantzakis صاحب رائعة "زوربا اليوناني" ...
في الإبداع انا مع نظريّة قتل الأب بمعنى أنّه من المهمّ الاطلاع على كلّ التّجارب الابداعيّة والقراءات المتنوّعة والعميقة لها لكن في نفس الوقت يجب أن تكون لكلّ كاتب لغته الخاصّة وعوالمه التي تميّزه عن غيره والتي تجعل من نصوصه نصوصاً مميّزة قادرة على وضع بصمة متفرّدة في عالم الكتابة وهو ما دفعني إلى كتابة قصّة "ماركيز ليس أفضل منّي" باعتبار أنّ الحلم في كتابة نصّ مختلف نصّ يدخل تاريخ الأدب من بابه الكبير إن صحّ التّعبير هو حلم مشروع لكلّ كاتب وما عليه إلاّ أن يعمل جاهداً لتحقيقه.
--------------------
حوار: أبو الحسن الجمال
* كاتب ومؤرخ مصري