18 - 05 - 2025

باحثون: مكانة أمريكا العالمية تنحسر .. والصين وروسيا تدفعان نحو تقويض أسس النظام الذي تقوده

باحثون: مكانة أمريكا العالمية تنحسر .. والصين وروسيا تدفعان نحو تقويض أسس النظام الذي تقوده

باتت مكانة الولايات المتحدة على الساحة الدولية تواجه تحديا رئيسيا؛ إذ لم تعد القوة المهيمنة على النظام الدولي؛ فالأمر المؤكد أنها فارقت خلال السنوات الأخيرة الحالة التي سماها جورج ويل "عطلة من التاريخ" (holiday from history)، التي كانت قد بدأت بصورة رئيسية مع انهيار الاتحاد السوفييتي ونهاية الحرب الباردة؛ فالتحديات التي أصبحت تواجهها واشنطن متعددة، ولم يعد النظام الدولي ذلك النظام الذي عملت واشنطن على الحفاظ عليه خلال عقود مضت؛ فعلى الصعيد الخارجي كرست التدخلات العسكرية الأمريكية لفكرة الإمبريالية الأمريكية، التي تستهدف تحقيق مصالح سياسية واقتصادية وليس نشر مبادئ الديمقراطية والحرية. 

انطلاقا من هذه الرؤية يحاول هذا الكتاب " الانحسار الأمريكي: أزمات الداخل والمكانة العالمية للولايات المتحدة" عبر فصوله العشرة التي شارك في إعدادها مجموعة من الخبراء والباحثين المهتمين بالشأن الأمريكي والعلاقات الدولية، تناول ملامح التفاعلات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة في اللحظة الراهنة التي تنطوي على إرهاصات لتحولات راديكالية في النظام الدولي القائم. وهذه التحولات تستدعي معها تساؤلات حول مدى جاهزية الولايات المتحدة للتعامل معها، وحدود قدرتها على مقاومة طموحات "القوى التعديلية" الساعية إلى تغيير بنية النظام، وتقليص النفوذ والمكانة الأمريكيين. فالفرضية الرئيسية المطروحة هنا أن ثمة حالة من الانحسار الأمريكي على المستوى الدولي كانت نتاج مجموعة من الأزمات على المستويين الداخلي والخارجي.

الكتاب الصادر عن مركز إنترريجونال للتحليلات الاستراتيجية بأبوظبي، شارك مع محرره د.محمد بسيوني عبد الحليم، الباحثون د.يوسف داوود، د.رغدة البهي، عمرو عبد العاطي، سهير الشربيني، ياسمين أمين، عبد المجيد أبو العلا، ميرال حسين، دينا حلمي، إيمان الصفتي..يقول بسيوني إنه على الصعيد الخارجي كرست التدخلات العسكرية الأمريكية لفكرة الإمبريالية الأمريكية، التي تستهدف تحقيق مصالح سياسية واقتصادية وليس نشر مبادئ الديمقراطية والحرية. وهنا يشير "إدوارد لوس" إلى أن الأنظمة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تضررت سمعتها نتيجة لرد فعل واشنطن على هجمات 11 سبتمبر التي لجأت إلى إجراءات وقوانين تقوض فكرة الليبرالية، ناهيك عن التعاون والتحالف مع أنظمة استبدادية في الحرب على الإرهاب والتعاون الأمني معها في عمليات الاستجواب ونقل المعتقلين. يضاف لذلك، ما نتج عن حربي أفغانستان والعراق من نتائج كارثية شوهت الغطاء الأخلاقي للولايات المتحدة والليبرالية الغربية بوجه عام.

الصين وروسيا

ويضيف أن تحركات القوى المناوئة لواشنطن، وخاصة الصين وروسيا، تدفع بثبات وفاعلية نحو تقويض أسس النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة؛ ففيما كانت الصين ترى أنها مؤهلة، بما تمتلكه من قدرات اقتصادية وعسكرية وسياسية، للمشاركة في قيادة النظام الدولي، وباتت روسيا من جانبها تشعر بدرجة كبيرة من الاستياء تجاه بنية هذا النظام، وخاصة عندما تستدعي الذاكرة التاريخية للاتحاد السوفييتي؛ إذ إن عدم تعامل الدول الغربية ـ وفي مقدمتها الولايات المتحدة ـ مع روسيا باعتبارها نظيراً لها على قدم المساواة خلال العقود التي تلت تفكك الاتحاد السوفييتي، قد خلق تدريجياً إحساساً عميقاً بالإذلال والصدمة. وهنا، شرعت موسكو في تبني آليات مختلفة لمواجهة هذا "الإذلال المتصور" بدأت من المجال السياسي ومحاولة بناء علاقات متعددة في مناطق مختلفة، بما فيها مناطق النفوذ التقليدي للولايات المتحدة، وانتهت إلى التوسع في استخدام آليات أخرى اندرجت ضمن القوة الصلبة، ولعل النموذج الأبرز لذلك، التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا الذي يعكس في جانب منه شعور موسكو بالإهانة والتقليل من شأنها من قبل الدول الغربية".

النظام الرئاسي

ويؤكد خبير في العلاقات الدولية د.يوسف داوود أنه بالرغم من المكانة المتميزة لمؤسسة الرئاسة في النظام السياسي الأمريكي الذي يتم الترويج له بأنه "النظام الرئاسي" القياسي في نظرية النظم المقارنة، فإن مجموعة من الأزمات والتحديات الداخلية والخارجية تظهر أن هذه المكانة في حالة إثبات وجود بشكل مستمر. ويقول "إن الرئاسة الأمريكية تواجه تحديات مرتبطة بطبيعة النظام السياسي وتفاعلاته المؤسساتية المختلفة، والتي تشير إلى العراقيل أو التأثيرات المضادة التي تأتي من السلطات الأخرى (التشريعية والقضائية(، إضافة إلى الرأي العام والوحدات الفيدرالية الفرعية، على اعتبار أن كل هذه المؤسسات لا تنتمي إلى مؤسسة الرئاسة من الداخل، أو لا تتبع الوحدات التنفيذية الخاضعة لولايتها بوجه تام. يضاف لذلك ما يمكن توصيفه بلعبة ضوابط وتوازنات مصغرة، ويظهر هذا النوع من الأزمات أن كافة عناصر عملية اتخاذ القرار في البيت الأبيض يمكن أن تمثل أزمة محتملة أو عنصرا مناوئا لسلاسة اتخاذ القرار إذا ما تم فرض سيناريو الأداء الأسوأ، وهو غير مستبعد على مستوى كل منها. ورغم عدم اقتصار الأزمات الداخلية والخارجية على إدارتي ترامب وبايدن، فإن سنوات حكم الإدارتين كانت كفيلة بتجسيد هذه التحديات في حالات ملموسة، تمثل امتدادا لتحديات السياسة الأمريكية منذ إعلان الاستقلال، ومؤشرا على استمرارية هذه الأزمات على المديين المنظور وغير المنظور.

تنامي الشعبوية

وترى الباحثة في العلوم السياسية والمنسقة بإدارة العلاقات الخارجية بالبرلمان العربي ياسمين أيمن أن تنامي الشعبوية وزيادة الاستقطاب الحزبي في الولايات المتحدة نجم بشكل ما عن فشل الرأسمالية في تحسين حياة ملايين الأفراد، وهو ما أكد للأفراد أن النخبة الحاكمة الأمريكية تحتاج إلى تغيير، خاصة في عصر لم تستطع فيه شركات التكنولوجيا تحقيق وعودها بتكافؤ الفرص للجميع، بل ساعدت أصحاب الأموال على جني أرباح أكبر ودفع أجور أقل، وفي وقت لا يسهم فيه النظام الضريبي المعمول به في إجبار أصحاب الأموال على دفع نصيبهم العادل من الضرائب؛ ما جعل الأمن الاقتصادي للمواطنين الأمريكيين أكثر ضعفا وجعل الصراع الحزبي على أشده حيث زاد الصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهو ما برز جليا في انتخابات عام 2020. بل الأمر لم يتوقف عند هذه الانتخابات؛ حيث تشهد الساحة الانتخابية الراهنة، التي تستعد لانتخابات عام 2024 صراعا مماثلا بين الديمقراطيين والجمهوريين والمرشحين المستقلين، وهو الصراع الذي ينذر بوضع أكثر استقطابا للنظام السياسي الأمريكي. الأمر الذي يؤكد أن المناخ العام يغذي الانقسامات الموجودة بالمجتمع الأمريكي، وهو ما من شأنه أن يؤثر على القرارات الداخلية والخارجية التي تتبناها الولايات المتحدة مع تباين الفصائل السياسية الحاكمة.

وتؤكد أن الشعبوية غير مقصورة على اليمين الأمريكي، لكنها متجذرة أيضا في أفكار اليسار التي ترفض أسلوب إدارة مؤسسات الدولة، وترى أن هناك حاجة لدمج الأقليات وإصلاح المؤسسات، وتحقيق المساواة، وتفكيك بعض مؤسسات الدولة.

العنف المسلح

توضح الباحثة المتخصصة في الشأن الأمريكي ميرال حسين أن العنف المسلح يعد مرضا مزمنا في الولايات المتحدة؛ وذلك بسبب تفاعله مع ثقافة السلاح، والحقوق الفردية، وجماعات المصالح، والسياسات الحزبية؛ فقد ابتلي المجتمع الأمريكي لفترة طويلة بانتهاك حق الناس في الحياة؛ حيث تؤثر حوادث العنف الداخلي على ما يقدر بنحو 10 ملايين شخص كل عام؛ أي إن ما يصل إلى واحدة من كل أربع نساء وواحد من كل تسعة رجال يقعون ضحايا للعنف الداخلي.

وتتوقف حسين مع الأسباب الجذرية لتصاعد العنف في المجتمع الأمريكي ومن بينها: الرعاية الدستورية لامتلاك الأسلحة، وتفاقم معضلة المساواة الاجتماعية والاقتصادية، وتآكل الثقة بالمؤسسات، وتصاعد عمليات العنصرية والتمييز المنهجي، والتطرف عبر الإنترنت، وتزايد حدة الاستقطاب السياسي تنامي اتجاهات تطبيع العنف على المستوى الشعبي، حيث يقود القائمون على قطاع صناعة الأسلحة الحملات التسويقية والترويجية، التي تربط بين الصورة الذهنية للمكانة الاجتماعية الأفضل وبين من يحملون الأسلحة النارية، وكذلك تم توظيف قوة الأداة السينمائية الأمريكية للربط بين القوة والحفاظ على الأمن بامتلاك الأسلحة، وتدافع شركات الأسلحة بشكل دؤوب عن حمل السلاح وتقوم بحملات مستمرة لمنع فرض قيود تحد من استخدام السلاح ولو بدون حظره، وكذا عدوى امتلاك السلاح حيث ساهم تزايد عمليات القتل الجماعي وعدم قدرة الشرطة على التصدي لها، إلى تدافع الأفراد نحو المزيد من امتلاك الأسلحة للدفاع عن أنفسهم. وإجمالا تظل قضية ضبط ملكية السلاح في الولايات المتحدة معضلة ويصعب حلها جذريا بسبب العديد من التحديات التي تعرقل جهود المشرعين والسياسيين.

مجتمع الاستخبارات

وللباحثة ميرال حسين أيضا دراسة حول مجتمع الاستخبارات واستباق التهديدات أكدت فيها أن هناك تحديات جوهرية كشفت عن إخفاقات رئيسية لأجهزة الاستخبارات الأمريكية، قد يكون أبرزها عدم التنبؤ بأحداث11 سبتمبر 2001 وهو ما دفع إلى درجة من التغيير داخل هذه الأجهزة في ظل التوصيات التي طرحت حول ضرورة إعادة هيكلة بيروقراطية الاستخبارات. ومع ذلك، ظلت هذه الأجهزة تعاني من إشكاليات بعضها داخلي متعلق بهيكل عملها، وبعضها الآخر متعلق بطبيعة النظام السياسي، والعلاقة مع صانعي القرار؛ إذ يقف مجتمع الاستخبارات عند مستهلكي المعلومات الاستخباراتية، بما في ذلك الرئيس وفريق الأمن القومي الخاص به، وصانعو السياسات، وأجهزة إنفاذ القانون، والجيش، والكونجرس الأمريكي؛ فلا يمكنه مراقبة الأنماط والاتجاهات المتعلقة بمتلقي الخدمة. وقد دفعت الإشكاليات التي يواجهها مجتمع الاستخبارات الأمريكي إلى تصاعد مبادرات ومطالب الإصلاح للمؤسسات الاستخباراتية؛ فمثلا، تزايدت الدعوات إلى تأكيد استقلالية ونزاهة مجتمع الاستخبارات؛ حيث باتت ثمة حاجة ملحة للحفاظ على استقلالية ونزاهة مؤسسات مجتمع الاستخبارات الأمريكي بحيث تظل بعيدة عن أي صراع حزبي، ناهيك عن تصاعد أطروحات تطوير أدوات التحليل الاستخباراتي والتنبؤ لتلافي أوجه القصور في هذا المجال.

المؤسسات الإعلامية

وفي تحليلها تتوقف دينا حلمي الباحثة بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار أمام مأزق المؤسسات الإعلامية الأمريكية، مشيرة إلى حالة الاستقطاب الإعلامي والصدام مع مؤسسات الدولة إلى أن أزمات النظام الإعلامي الأمريكي قد تفاقمت إلى حد كبير، وساعد على تصاعد أزمات الإعلامي الأمريكي حالة الاستقطاب السياسي المتصاعد في المشهد الأمريكي، والتوترات بين القوى السياسية المختلفة حول العديد من القضايا والملفات سواء داخليا وخارجيا، وبطبيعة الحال كان لظهور بعض الشخصيات في الحياة السياسية الأمريكية، على غرار الرئيس السابق "ترامب"، تأثير إضافي على الإعلام الأمريكي لتصبح التحيزات السياسية والفكرية محورا مهما وظاهرا في تغطية الكثير من وسائل الإعلام الأمريكية للقضايا والأحداث المختلفة. والأمر المؤكد هنا أن الأزمات التي يعاني منها الإعلام الأمريكي ليست وليدة اليوم، لكن تداعياتها الراهنة ستكون عاملا حاسما خاصة أن الولايات المتحدة على موعد مع الانتخابات الرئاسية عام 2024 والتي يلعب الإعلام خلالها دورا محوريا في تحديد من سيكون الرئيس الأمريكي القادم.

المنطقة الرمادية

وتكشف د.رغدة البهي مدرس العلوم السياسية بجامعة القاهرة أن أمريكا تواجه جملة من التهديدات غير التقليدية التي تأتي من مصادر معقدة، وتتحرك بسرعات غير عادية، ولا تجدي السياسات والاستراتيجيات التقليدية نفعا في مواجهتها. وبجانب تلك التهديدات التي منها تصاعد الأنشطة القسرية والخبيثة لمختلف المنافسين الاستراتيجيين في المنطقة الرمادية، وانعكاسات التغيرات المناخية، وتزايد عسرة الفضاء، وصعوبة حماية البيانات الأمريكية. كما تجابه جملة من التحديات الداخلية والخارجية في ظل بيئة دولية مضطربة تهيمن عليها الحرب الروسية ـ الأوكرانية واحتدام المنافسة الاستراتيجية مع كل من الصين وروسيا؛ الأمر الذي تتعدد تداعياته على السياسة الدفاعية الأمريكية والجيش الأمريكي الذي يواجه الأخير جملة من التحديات الداخلية التي تدور حول ارتفاع تكلفة صيانة وتشغيل القطع البحرية، وعدم توافر المواد الخام اللازمة للصناعات العسكرية، وارتفاع معدلات الانتحار العسكري وتزايد الاعتداءات والتحرشات الجنسية، وعدم القدرة على تحقيق معدلات التجنيد المستهدفة، وتهالك ملاجئ الطوارئ:وغير ذلك، فيما تدور التحديات الخارجية حول التحديث النووي الصيني، وتعليق معاهدة "نيو ستارت"، وتلويح روسيا باستخدام السلاح النووي، وإمكانية وقوع الحوادث النووية.

وتخلص البهي إلى أن السباقات العسكرية والتكنولوجية والأمنية بين أمريكا والصين وروسيا انعكست على الانفاق الدفاعي وتكنولوجيا الكم والتحديث العسكري، وألقت بظلال من الشك على قدرة أمريكا على التربع على عرش النظام الدولي، في ظل عظم التحديات التي تقوض مؤسساتها العسكرية.

وترى الباحثة في العلاقات الدولية أسماء الصفتي أن الصين لم تعتمد على الإجراءات العقابية فقط وسيلة للضغط على أمريكا وحلفائها وكسر هيمنتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، بل سعت أيضا إلى قيادة دبلوماسية تفاوضية فعالة، ومحاولة إحلال السلام بين عدد من القوى المتقاتلة بعيدا عن القيادة والهيمنة الأمريكية.. ويعد اتفاق إعادة تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية برعاية صينية ومبادرة الأمن العالمي التي طرحها الرئيس الصيني في فبراير2023 والتي قدمتها بكين أساسا لقيادة جهود السلام بين روسيا وأوكرانيا، مثالين واضحين على عزم الصين على اللجوء إلى الأداة الدبلوماسية لمجابهة النفوذ الدبلوماسي الأمريكي العالمي. وعلى الرغم من التحليلات المتضاربة حول مدى فاعلية مبادرة الحزام والطريق (ربط شرق آسيا، ووسط سيا، وجنوب آسيا، وجنوب شرق آسيا، والشرق الأوسط، وشرق أفريقيا،)، وقدرتها على تحقيق مآرب الصين ومقاصدها العالمية، فإنها تمثل واحدة من أهم وأبرز نقاط القوة الاقتصادية الاستراتيجية التي تستغلها الصين لتوسيع نفوذها على المستويين الإقليمي والعالمي.