03 - 05 - 2025

خطاب نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي وألاعيب مسيلمة الكذاب السياسية

خطاب نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي وألاعيب مسيلمة الكذاب السياسية

بغض النظر عن أن نتنياهو مجرم حرب لا مثيل له في التاريخ المعاصر، وفق رؤية المحاكم والمنظمات القانونية الدولية ذات الصلة، إلا أنه سياسي ناجح بكل معنى الكلمة. بداية أؤكد أن ما يقرب من 100 عضو من أعضاء الكونجرس الأمريكي قد قاطعوا خطاب النتن ياهو والكلمة في العبرية تعني (عطية الرب) لأنهم يعرفون أن الرجل كذاب أشر. ثانياً كان عدد كبير من الذين ظلوا يصفقون له طوال الخطاب من موظفي الكونجرس وليسوا أعضاءً فيه. وحيث أن لي دراسات عديدة في ما يسمى بتحليل الخطاب، أزعم بمنتهى الأمانة أن من كتب خطاب النتن شخص ذكي جداً ينبغي أن نرفع له القبعة ويجب على السياسيين العرب التعلم منه. سعى النتن في خطابه إلى خلط الأوراق وقلب الطاولة على كل من يهاجم الحرب التي تشنها بلاده ضد شعب أعزل. في البداية حدد النتن أهداف الخطاب: تصحيح صورة إسرائيل التي شوهتها مواقع السوشيال ميديا ومنصات الإعلام الحر بعد المذابح التي ارتكبتها ضد المدنيين في غزة على مدار الحرب الوحشية الدائرة هناك، والإيحاء بأن الجيش الإسرائيلي لم يقتل المدنيين والأطفال والشيوخ والنساء وأنه جيش من القديسين والملائكة، والادعاء بأن بلاده تخوض حرباً مقدسة للدفاع ليس عن نفسها وإنما عن الحق والعدالة والديمقراطية.

 استخدم النتن لغة عاطفية تروق للمجتمع الأمريكي، مدعياً أن مصير بلاده وأمريكا مصير مشترك وأن إسرائيل هي خط الدفاع الأول عن أمريكا، وأن اليهود وليس الفلسطينيين هم من يتعرضون للإبادة على مر التاريخ، وأن أمريكا في الآونة الأخيرة لم ترسل ما يكفي من الأسلحة لبلاده لتنهي المهمة، ثم أشار إلى شاب نحيف تبدو عليه علامات المجاعة وكان من بين الحضور وقال إنه الرقيب المقاتل (أشرف البحيري) وهو بدوي فلسطيني مسلم قتل عدداً كبيراً من الإرهابيين وهو يدافع عن المستوطنات الصهيونية يوم ٧ أكتوبر، حيث كان هذا البطل المغوار(شجيع السيما أبو شنب بَرَيما) حسب قول النتن يحارب جنباً إلى جنب مع الدروز والمسيحين جيشاً همجياً من البرابرة المدججين بالأسلحة الفتاكة مثل طائرات الأباتشي وإف 35 التي قتلت المدنيين في مستوطنات غلاف غزة. حاول النتن بلا استحياء أن يقول للأمريكان أن الكل كان يدافع عن المستوطنات الصهيونية فأين كنتم؟ (الله يخرب بيوتكم يا حماس حولتم (أشرف المسكين) الحاصل على بطولة العالم في كمال العظام والذي كنت أظن أنه من يهود الفلاشا....حولتوه إلى بطل أسطوري مثل شمشون الجبار). 

علاوة على مرويات الخداع السياسي والدبلوماسي والعبارات المفخخة والكلمات المسمومة والخطاب المنقوع في ماء المؤامرات والدسائس، مارس النتن نوعاً جديداً من الخداع وهو الخداع اللغوي أو الحكائي، حيث يبدأ سرديته بالحديث عن حرب غزة وهي تدينه وتدين جيشه وحكومته الإرهابية ولذلك لا يطيل الخوض فيها، ثم يُدخل الجمهور المُغيب سياسياً في غيبوبة سردية جديدة يتقبلها هذا الجمهور وتتسق مع آفاق توقعاته، فيزعم أن إسرائيل لا تحتل أرض فلسطين لأنه في الأساس لا يوجد شعب فلسطيني وإنما عاد اليهود للأرض التي أقيمت عليها ممالك داود وسليمان منذ 5000 عام، وبذلك ينزع من الفلسطيني حقه وتاريخه ويجرده من وطنه ومن إنسانيته فلا توجد دولة اسمها فلسطين وأما القدس فهي عاصمة الكيان الأبدية. وبعد الانتهاء سريعاً من الإشارة لحرب غزة الحالية يجرجر الجماهير إلى دهليز من الأكاذيب السياسية والتوراتية المعدة مسبقاً بعناية، بحيث ينسى المستمعون مجازر وفظائع الحرب القائمة بعدما استدرجهم للموضوع الإيراني ثم أكذوبة الشرق الأوسط الجديد، الذي لن تكون فيه دولة للفلسطينيين وإنما يكون بداية لمرحلة تاريخية جديدة تشهد بزوغ فجر الإمبراطورية الإسرائيلية ليس فقط من النيل إلى الفرات وإنما من المحيط إلى الخليج. هنا ينهي النتن خطابه بعدما لمح أن إيران التي تعاني من ويلات الحصار سوف تهاجم الولايات المتحدة وربما تحتلها وبهذا استطاع النتن تتويه الجمهور وتمييع كل ما قيل عن الوحشية الإسرائيلية في غزة. 

 ورغم هذا التهميش للفلسطينيين الذين تحولوا وفق خطاب النتن لمجرد فلول من البرابرة والإرهابيين بلا وطن وبلا أرض، وهم همج يشكلون خطراً داهماً على الحضارة الغربية والأمريكية التي تمثلها إسرائيل في المنطقة العربية، ولذلك يجب التخلص منهم لأن كل سكان غزة من حماس.. رغم هذا الخطاب العنصري الوقح تجد أن الجمهور الذي غُسلت أدمغته إعلامياً عبر السنين بسبب الدعاية الصهيونية يصفق لهذا المجرم ويقف احتراماً له مع نهاية كل جملة يتفوه بها، بعدما تسري في عروق  بيادق الكونجرس السموم التوراتية التي يبثها النتن تباعاً في كلماته. من أهم أسلحة النتن مخاطبة العواطف الدينية للجمهور وبذلك يتوقف عن التفكير العقلاني ويسير في ركاب هذا الرعديد متناسياً أنه في حالة تطبيق أطروحة النتن المخادعة وقراءته للتاريخ على الولايات المتحدة عندئذ يجب على جميع الأمريكان إخلاء البلاد للسكان الأصليين وبقايا قبائل الهنود الحمر الذين كانوا يقيمون في أمريكا ليس منذ 50 قرناً مثل داود وسليمان ولكن منذ 400 عام فقط. 

بلا ريب فقد استطاع النتن بكلامه العاطفي عن مظلومية اليهود التاريخية من خلال الإشارات الخاطفة لآيات من الكتاب المقدس أن يستدرج الحضور الذين يسيطر عليهم اللوبي الصهيوني بالمال والنفوذ إلى التصفيق له طوال الوقت، والدموع تتساقط من أعينهم على ما حدث يوم ٧ أكتوبر (الله يخرب بيوتكم يا حماس أنتم من تسببتم في كل ما يحدث في غزة من مآسي وليس الاحتلال لأن فلسطين ليست محتلة وفق خطاب نتنياهو). رويداً رويداً ترك النتن موضوع فلسطين وغزة بعدما ادعى أن الفلسطينيين مجرمون وقتلة وأن اليهود هم الضحية، ثم انتقل بسلاسة للحديث عن الإرهاب الإيراني وهنا تحولت بوصلة الخطاب من فلسطين وغزة إلى إيران وعدائها لأمريكا وسعيها لمحو دولة إسرائيل ثم ذكر الحضور بأحداث سبتمبر ٢٠٠١ وانتقد المظاهرات الطلابية في أمريكا المناوئة لحرب الإبادة في غزة وأبدى احتقاره لرؤساء أكبر ثلاث جامعات في أمريكا والعالم، لأنهم سمحوا للطلبة بالتعبير عن رأيهم في حرب الكيان ضد المدنيين في غزة. وتقدم بالشكر للدمية وخيال الحقل السيد بايدن وشكر السيد ترامب كذلك حتى لا يخسر أحدهما.

 طوال الخطاب تبنى النتن بشكل احترافي سياسة التتويه والتمويه واللف والدوران وتقديم سرديات متتالية مغلوطة ومزيفة مع أن بها شذرات من الحقيقة. اختار لحظات معينة للتوقف قليلا عن الكلام أثناء الخطاب حتى يسمح للحضور القطيع بالاستمرار في عاصفة التصفيق وذرف أنهار الدموع على مصير شعب الله المختار. كانت لحظات التوقف مختارة بعناية بحيث كانت مصحوبة بعبارات عاطفية محددة ومدروسة (كتبها شخص محترف) تخاطب مشاعر شعب لا يعرف عن الصراع في الشرق الاوسط سوى ما كانت تعرفه جدتي (أم السعد) عن نظريات أفلاطون الفلسفية. وهكذا نجح نتنياهو ولو مؤقتاً من خلال منصة الكونجرس الصهيونية أن يُجمل السياسات القبيحة لحكومة متطرفة ومجرمة تسعى لإبادة شعب بأكمله واستطاع أن يضع أطناناً من مساحيق التجميل على وجه جيش لا يهوى سوى قتل المدنيين والأطفال والأبرياء والمرضى والصحفيين والأطقم الطبية. ومن خلال كلمات و عبارات مختارة سعى نتنياهو لمحو فكرة فلسطين من الوجود وتحويل المقاومة الفلسطينية التي تحاول استرداد بعض حقوق الشعب المغلوب على أمره إلى مجموعات من الإرهابيين، وهذا ما قالته فرنسا عن المقاومة في الجزائر في الماضي، وهذا ما قاله النظام العنصري في جنوب إفريقيا عن مانديلا ورفاقه سلفاً.  ويتبقى السؤال المهم: هل نجح خطاب النتن في التشويش على جرائم جيشه التي تبث يوميا ويشاهدها العالم على الشاشات من خلال النقل الحي عبر تسعة شهور من سفك الدماء؟؟ ثم هل تسمح أمريكا أرض الديمقراطية وبلاد العدالة لأي زعيم عربي أن يلقي خطابا في الكونجرس يرد فيه على خطاب نتنياهو ويقدم للأمريكان السردية الفلسطينية المقابلة أو البديلة؟ طبعا مستحيل أن يسمح أحفاد الكاوبوي الذين أبادوا ٧٥ مليون هندي أحمر من سكان البلاد ثم أبادوا ملايين العبيد الزنوج ثم ابادوا ملايين الضحايا في اليابان وفيتنام وأفغانستان والعراق والبلقان… مستحيل أن يسمح هؤلاء لعربي أن يتفوه ببنت شفه عن بلاد النتن والأسباب معروفة والمعنى في بطن الكونجرس.
-------------------------------
بقلم: د. صديق جوهر
ناقد وأكاديمي مقيم في كندا

 

مقالات اخرى للكاتب

خطاب نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكي وألاعيب مسيلمة الكذاب السياسية